هنا أولا/ جواد بولس
“وأقول للسرو: انتبه ممّا يقول لك الغبار”
هنا أولا/ جواد بولس
|جواد بولس|
كلما ازددتُ تفكيرًا في إصرار بعض قادة الأحزاب العربية، والناشطين السياسيين بيننا، على التعاطي بعناد وشبه إدمان مع الأحداث الجارية في البلاد العربية، زادت حيرتي وغلبني الالتباس.
ما الهدف من هذا العناد؟ أو أين موطن الحكمة والصواب؟ ما الفائدة العائدة على ذلك الحزب أو الجبهة أو الحركة؟ وما هي العوائد والأرباح التي تجنيها جماهيرنا العربية في الدولة، أو كيف لهذا الإصرار أن يحسّن شروط معيشتنا هنا ويطعّمها بحقن تزيد مناعتها وصمودها في وجه فيروسات الواقع الإسرائيلي وميكروباته الكاسحة؟
إلى هذا، أرجو ألّا أفهم أنني لا أبالي لجسام الأحداث المتفاعلة في محيطنا العربي، فلقد كتبت في ذلك مقالات عدة ولذا أقر بحق وواجب كل ذي رأي وشأن وموقع أن يجاهر برأيه ويدفع بموقفه ويخط أمانيه في حق ما يجري وإزاء ما سيفضي إليه الواقع والحدث.
ما أتحفظ عليه هنا، علاوة على أن خشيتي أن التعاطي بـ”هناك” أصبح تعويضًا عن الـ”هنا”، هو ذلك العناد والإصرار المَرَضي على تكرار الموقف والاعتداد به في وجه آخرين يستدرجهم الإصرار هذا بالمقابل لمزيد من إصرار مناكف، حتى أنهم أمسوا كجيوش عسكرت في مخيمات الشام لتذود عن نظام وسلطة، وفي مقابلها نجد جيوشًا عسكرت في مخيّمات درعا وحماة لتذود عن فلول من شعب ثار ضد نظام وسلطة.
كذلك هو الشأن إزاء ليبيا وحاكم تربّع على عرش جماهيرية شعبية اشتراكية عظمى لأربعة عقود قضى فيها أوطارا وحرث زرع أوطان، وربّى من تحوّلوا إلى صيّادين وقتلة يجيدون رقصة الدم و”التمثيل” أيما إجادة.
فلنتفق، أو لنحاول، على أن أوضاع سوريا وخلال حكم حافظ الأسد الأب ووريثه بشّار الابن آلت إلى حال لا يقبلها كل من يؤمن بمبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والمواطن وأن النظام تمادى بتنكيله بمواطنيه وقمعه لهم وسلبه لحريٌاتهم الأساسية. ولنتفق، أو لنحاول، على أن شعار ومبدأ أن للشعوب حقًا في تقرير مصائرها لا يستثنى منه شعب ويبقى هذا مبدأ أساسيّا لا مراوغة فيه ولا تنازل عنه. ولنتفق، أو لنحاول، أننا ضد أيّ تدخل أجنبي من شأنه أن يؤثّر في مصير تلك الدولة أو يغتصب حق ذلك الشعب أو يزوّر إرادته. ولنتفق، أو لنحاول، أنّ ليس كلّ من سار في شوارع سوريا وهتف باسم حرية مسلوبة وكرامة مداسة هو وطني سوري حق، وربما بعض أولئك زمرٌ عميلة ومدسوسة تخدم أسيادها وما يخططونه من شرٍ وتمزيق لوطن وحدته باتت مهددة. ولنتفق أيضًا، أو لنحاول، على أن حزبًا، كل حزب، يقام من أجل سلة أهداف، في طليعتها دائمًا كان استلامه لسلطة ذلك البلد.
ولنتفق أيضًا أن ما حصل في الدول العربية الثائرة شعوبها، أتاح للأحزاب وخاصة من يعرّف ذاته بكونه حزبًا ثوريا طلائعيا (وليس نقابات عمال أو مجموعات كومبارس تقف على خلفية المسرح، لا سيما مسرح المستقبل والحياة) أن ينزل إلى الساحات والميادين ليقود شعبه إلى مستقبل الحرية والكرامة والاستقلال والممانعة الحقيقية والنضال.
وعسانا لا نجمع على أن قصور هذا الحزب وتخلّفه عن هذا الدور والمهمة يحوّله إلى حزب قاصر، في أحسن الأحوال، أو إلى متخاذل وأكثر إزاء مستقبل بلده وشعبه (هكذا تصرّف برأيي الحزب الشيوعي السوري الذي أبقى على إسناده لنظام الأسد ولم يتخلَّ عن جبهته ليتبوأ ساحة النضال ويقود جموع الشعب الثائر الوطني السوري الحقيقي).
لقد قال كل فريق رأيه والبعض فعل ذلك بيقين نبيّ ونفس غطّاس بارع، ولا أعتقد أنّ قياس وطنية معسكر ورواجها على وطنية معسكر آخر ستحسم في وعلى أرض سوريا أو أي بلد عربي آخر، لأنني أتساءل، كما أسلفت، ما وقع هذا وذاك على شروط معيشتنا هنا، شروط يظللها سكين في يد أخ عربي ومسدس في يد الشيطان.
وللتأكيد أوضّح ما كتبته حين قلت إنّ زجّنا في خانة الخيار ما بين نظام، هنالك إجماع على قمعه لأبناء شعبه وسلبه حريٌاتهم وكراماتهم، وبين من يتَّهمون بأنهم ثوّار اصطناعيون وغير حقيقيين لا يستهدفون إلٌا خراب الوطن، ناتج عن قصور وتخاذل من تلك الأحزاب والقوى التي من المفروض أنها قوى تقدمية تحررية، كان الأولى بها أن تقود المرحلة وتمسك بقرني التاريخ المنتفض.
فهكذا سيناريو يحوّلنا إلى عاجزين أو متخاذلين أو من لاعبي النرد وضاربي المندل. ولا يقتصر هذا العجز على ما يحدث هناك خلف الغمار والغيم، لا بل ينعكس هذا على وفي مياديننا هنا، فعنوان الرواية هناك ” الهيمنة” وعنوان الحكاية لدينا أيضا هو “الهيمنة”، والتاريخ علّم أن من لا يرفع الراية ويسير في الطليعة يتخلّف ويبقى في المؤخرة ومن لا يقبض على عود محراثه تنساه الأرض وتصبح هي الغريبة وهو لها الغريب. ومن يعش مؤمنًا “ببوس الكلب من تمو تتاخذ حاجتك منو” لا ينعم إلا بفتات الأيام، والأنكى أولئك العجزة الذين يبررون إيثارهم لأن يكونوا أذنابًا لأسد لا رأس سرب صقور، هؤلاء ليسوا بأحرار فالحر كالصقر يحلق في الأعالي وكالنسر لا يهوى إلا القمم.
عودوا أيّها الرفاق وأيّها الأحرار الوطنيون إلى هنا، إلى حيث ينتظرنا قمر وتنتظرنا ساعة ومنفى. فهناك في الشام وعلى ضفاف دجلة وزرقة النيل للنازفين أقمار وللحالمين أقمار فلها يكفي ويجدر أن نقول: “سلامًا أيّها القمر المحلّق حول صورته التي لن يلتقي أبدًا بها وأقول للسرو: انتبه ممّا يقول لك الغبار.” وأجدر بنا أن نصغي نحن إلى ما يقوله للسرو الغبار: أما من عودة إلى هنا؟