ميداننا في صفد/ جواد بولس
|جواد بولس| “غريب أنا يا صفدُ وأنت غريبة/ تقول ال […]
ميداننا في صفد/ جواد بولس
|جواد بولس|
“غريب أنا يا صفدُ وأنت غريبة/ تقول البيوتُ: هلا/ ويأمرُني سكّانها: ابتعدوا/ علامَ تجوب ألشوارع/ يا عربيُّ علاما؟”.
عن صفد أريد أن أكتب. عن ساكنيها يطاردون طلّابًا عربًا جاؤوها لِعِلمٍ ينشدونه، بعد عقود من سقوط عَلَمِ أجدادهم، صاروا “الغريب” وصارت، كما صرخ في حينه الشاعر سالم جبران، عافاه الله وأطال عمره، في قصيدته “الغريبة”.
عن صفد وعن يافا وعن اللد والعراقيب وَجَبَت الكتابة. عن إفراطٍ مستمر وحالة إسهالٍ مرضية خطيرة أزمنت في أمعاء ومعدة الدولة، وما انفكَّت تقذف ما نتن من فضلات وقيء، يُصرّون، بصلف، على تسميته قوانين دولة. وكان آخر ما قذف “قانون النكبة” وقانون “لجان القبول في البلدات الجماهيرية”، والآتي أفظع!
مقلقٌ حتى الدهشة ما يجري بحقنا وضدّنا هنا. ومقلقٌ، لا أقلّ، أنه يجري في ظلّ أيام العرب الجديدة. فهذه، بلا شك، تاريخٌ ينبعث ماردًا من بين ما أغفله الحاذقون والمتحذلقون، “نيارين” و”نراسيس” أطالوا تأملهم في المرايا، حيث كان الهواء مقطّرًا بعرق الكادحين المقهورين ودموع الحزانى والدم البريء.
قلت مقلقًا، لأننا ننشدُ ونشدَهُ بالأعاصير هناك ونكاد نغفل سقوف بيوتنا الدالفة.
لنا أن نفرح بلحظات تاريخ كبير تسطع. لنا أن نزهو وأكثر. ولنا أن ننشغل وأن نتابع ونتحمّس ونصرخ. إنّما، علينا أن لا نسرف وأن لا نسهو، فنغرق!
عيشوا بأحلامكم وهيِّئوا ما شئتم من مركبات النصر وأكاليل الغار، حلٌلوا، دقّقوا، تأمّلوا، توجّسوا، آمنوا، نظّروا، زايدوا، تناقشوا، تساجلوا، تعادوا.. لكم ما شئتم من أفعال وهتاف، أمّا الصوت هنا فسيبقى صوت صفد وساحات صفد
لا جدوى، إلّا إذا اتّعظنا وبقينا هنا، فهذه أيام العرب الجديدة تهيّئ، كما أحداث التاريخ العظام، تقاويمَ غيرَ مألوفة، وتؤلف قواميسَ لغة عصرية نابضة. لغة تفضح قصور أبجديات لَهَج بها أهل عصر يطوى، وتحرجهم. لغة تربك من يستعصي ويصرّ بتقليدية نزٍقة أن يُطوّع البركان ويعلِّب حممه في قوالب صُفّت على رفوف من الزمن المولّي. إنه الجري وراء السّراب وأمنية من يطلب الأبلق العقوق!
كثرُ الكلام هنا وفاضت التحليلات. وهذه وإن كانت في البدايات، تطير بخفة على أجنحة صقور مصر وبواشق تونس، بدأت تنكفئ وترتطم بأسراب صواريخ “التوماهوك” تحرق أرض ليبيا وبعضًا من حلم! وبأرتال دبابات لُفّحت بأشمغة (وهي الكوفيات بلغة أهل النفط والنخوة) وعقالات تلفّ أنظمة تزكمها رائحة النفط الذي من أجله ترخص دماء أبناء الوطن وليحيَ الاستبداد!
نعم، تعثَّرت البهجة، لكنها ما زالت أقرب من نجمة. واختلطت حسابات، لكن معادلاتها ما زالت جليٌة هناك مهما اختلفت عواملها بين قطر وآخر. معادلات توحّدها قواسم مشتركة نصَّتها الشعوب على ألواح الميادين وعلى صفائح الفجر البازغ.
مقلق، حتى الغثيان، إعراض ساسة إسرائيل وقادتها عن كلّ ما يجري. ساسة تخثَّرت عقولهم فأمسوا خارج حركة الزمن وكأنهم سادة هذا التاريخ وصناعه الوحيدين. دولة، كل صباح تعلن الحرب على منطقة كاملة وتعلنها، كذلك، على خمس سكانها. تستعديهم، تحاصرهم، تطاردهم وتتأهب ليوم الحساب والدين معهم. هي تعرض وتقامر على ما تقامر عليه وشركاؤها، أصحاب كازينو الدم، يتواطأون عساهم يبقون سادة الميدان وسدنة الهياكل. إسرائيل تقامر وشريكها الشيطان. وإسرائيل هنا تمعن وتعلن أنها لا تريدنا، نحن عرب هذه الديار. لا أعاصير هنا، بل قمع وعنصرية وإقصاء وهدم خيمتنا وسقوف بيوتنا. تريد أن نغرق ببطء وتريد أن نسهو ونغفو. إنه الترويض والتّدجين فلا يُضيرها أن نفرح وأن نزهو بلحظات التاريخ الكبيرة. وأن نقلع إلى حيث الأحلام، هناك بعيدة بعيدة. لسان حالها يردّد: عيشوا بأحلامكم وهيِّئوا ما شئتم من مركبات النصر وأكاليل الغار، حلٌلوا، دقّقوا، تأمّلوا، توجّسوا، آمنوا، نظّروا، زايدوا، تناقشوا، تساجلوا، تعادوا.. لكم ما شئتم من أفعال وهتاف، أمّا الصوت هنا فسيبقى صوت صفد وساحات صفد، “فعلامَ يا عرب تجوبون ألشوارع علاما؟” هذا صوت التاريخ الصغير الهشّ وصوت الحقيقة والواقع المرّ. هو نداء صفد الصّارخ ولا من مجيب، فلقد كان أهلها هناك “ولم يبق منهم أحد”!
ليفرح كل واحدٍ منا كما يشاء، فلحظة التاريخ والنور جديرة بالفرح، ولكن ماذا نقول لمن تحرق بيوتهم ومركباتهم في صفد وغيرها؟ ماذا نقول لأولادنا وهم يمنَعون من الكلام بلغة الأرض والنشيد في أماكن عملهم؟ القضية غير محصورة في عقل مأفون عنصري اغتنى “على حين قهوة” في “أروما”، فهكذا هي الحال في “زارا” و”هونغمان” وغيرها وغيرها؛ هي دولة لا تريدنا أن نشرب ونأكل ونتنفّس ونتكلم ونفرح ولا حتى نحزن في يوم نكبة.
هل لكم، أيّها السادة القادة، أن تنظموا سلسلة فعاليات مبرمجة في صفد؟ هل يمانع بعضكم أن يشارك في هذه الفعاليات من يوافق عليها من يهود هذه الدولة؟ وهل من الممكن إطلاق حملة مدروسة ومدعومة إعلاميًا وماليًا واستشاريًا لطرق أبواب المؤسسات اليهودية؟
لسنا بحاجة لشعارات كبيرة. لسنا بحاجة لصيحات كبيرة. فلتكن أحلامنا كبيرة ولتكن أفعالنا جديرة بتحقيق خطوة إلى الأمام. هل، مثلاً، نبدأ حملة منظَّمة بحق كل مكان عمل يملكه عنصري مأفون؟ هل لكم أن تشرعوا بوضع برنامج قابل للتنفيذ والمتابعة لفضح هؤلاء العنصريين؟ هل لكم أن تبادروا لفضحهم في الخارج؟ بعض الشركات هي فروع لشركات عالمية ويمكن تفعيل ضغوطات على مراكزها الرئيسة وزبائنها في تلك الدول. هل لكم، أيّها السادة القادة، أن تنظموا سلسلة فعاليات مبرمجة في صفد؟ هل يمانع بعضكم أن يشارك في هذه الفعاليات من يوافق عليها من يهود هذه الدولة؟ وهل من الممكن إطلاق حملة مدروسة ومدعومة إعلاميًا وماليًا واستشاريًا لطرق أبواب المؤسسات اليهودية؟ حملات مكثَّفة تستهدف بعض العناوين الهامة والمؤثرة في البلاد (هيئات المحاكم، النائب العام، المستشار القانوني، مراقب الدولة، مجلس التعليم العالي، نقابات المعلمين وما إلى ذلك).
من هناك، من تلك الميادين، فليأتِ الفرح والربيع. لكنه القلق، سيّد الموقف الآن، فلا يقين لمن على غُرّة الريح راقد. ومن هنا ليكُن اليقين: بأنّ أحلامنا من هنا بدأت وهنا يجب أن تتحقق.
في ساحاتنا وشوارعنا هنا يئنّ نداء صفد ويافا واللد: “غريب أنا يا صفد وأنت الغريبة”. فهل ستبقى “على شفتيَّ جنازة “صبح”/ وفي مقلتيَّ ذل الأسد/ فوداعًا، وداعًا صفد”.
(كفرياسيف)