انتهى الكلام!/ إلياس خوري
فقد النقاش السياسي او الفكري او الثقافي كل دلالاته، وصارت الكتابة زعبرة. كيف تردّ على منطق لا منطق له، وكيف تتحاور مح محاور اصيب بالصمم، يردد الكلمات نفسها، ويحدثك عن السيادة الوطنية ورفضه التدخل الخارجي، بعدما شرّع بلاده لكل اصناف التدخل
انتهى الكلام!/ إلياس خوري
|إلياس خوري|
نقول في العامية: ‘خلص الحكي’ كي نعلن لا جدوى الكلام، وتحوله الى تكرار ممل. عندما يطيل محدثك، ويستطرد ويبقى في المقدمات ولا يعطيك من الآخر، لأنه لا يريد ان يصل اليه، او لا يعرف ما هو، او يريد حجبه، ينتهي الكلام، ويصير النقاش طحنا للماء.
نقول في العامية ايضا: ‘دقّ المي مي’، فمن يدقّ الماء لن يحصل الا على الماء، لأن الماء لا شكل له ولا لون، ‘فالماء من لون الإناء’، كما قالت العرب، ومن العبث الاستمرار في الدقّ لأن الماء سيبقى ماء.
هذا حالنا مع النقاش الممل حول النظام السوري، فالمسألة ليست ايديولوجية او فكرية على الاطلاق. اذ لا اظن عاقلا يستطيع ان يبرر نظام الجمهورية الوراثية، او يتغنّى بعبقرية الديكتاتور الفكرية و السياسية، او يحدثنا عن فكر حزب البعث. ففكر الحزب اندثر لحظة استيلاء العسكر على السلطة، ويكفي ان يقرأ اي عاقل كتاب: ‘التجربة المرة’، لمنيف الرزاز، الذي انتخب خليفة لمؤسس الحزب ميشال عفلق في الأمانة العامة كي يتأكد من عبثية اي كلام عن ايديولوجية حزب البعث، التي داسها عسكر الحزب ببوطاتهم، قبل ان يرسم صدام حسين ذلك المصير المحزن لميشال عفلق، الذي انهى حياته في بغداد تحت رحمة الجلادين. لن اتحدث عن مسرحية اشهار اسلام ‘الاستاذ’، اذ يجب ان نترك هذا الفصل لأولاده، كي يعلنوا حقيقة نهاية والدهم المرة. كما لا أظن ان اي عاقل يستطيع تبرير افعال جلاوزة سجن تدمر، او سفاحي مجزرة حماه، او المشاركين في ذبح مخيمي تل الزعتر وشاتيلا.
نظام فقد كل مبرراته، حتى اشتراكيته المزعومة قام آل مخلوف وشركاؤهم بتحويلها الى رأسمالية متوحشة التهمت ثروات سورية، وقامت بتدمير التعليم العام، الذي كان الانجاز السوري الأكبر في عهد الاستقلال.
لم يبق لهذا النظام سوى سرّ الممانعة، وما ادراك ما الممانعة؟ بدأت بتصفية القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وانتهت الى استتباع لبنان وتحويله الى مرتع للصوص والقتلة، والتعامل مع بلاد الشام وكأنها امبراطورية اسدية، تتلافى اي صدام مباشر مع المحتل الاسرائيلي، وتقوم استراتيجيتها على المراوغة عبر استخدام لبنان وفلسطين منصة تفاوضية، علها تنقذ النظام من ورطة هزيمته في الجولان. هكذا نعمت الجبهة السورية بهدوئها الطويل نتيجة سرّ فلسفة الممانعة على الطريقة البعثية.
لا شيء يستقيم في اي نقاش حول البعث الأسدي، حتى شبح الخطر الاسلامي الذي جعله النظام فزاعته الكبرى، ليس سوى ستار. فكيف يكون الاسلام الأصولي هو الخطر، بينما يتحالف النظام مع اسلاموية اخرى لا تختلف عنها كثيرا في مبناها العقائدي والايديولوجي هي اسلاموية الملالي. كيف يريدنا ان نخاف من الاسلاميين، بينما الاسلاميون الآتون من ايران ولبنان يقاتلون الى جانب الشبيحة والجيش ضد الشعب السوري؟
لقد نجح النظام السوري في استغلال سذاجة وانهيار بعض بقايا المثقفين الذين اعتادوا على الخضوع والخنوع، كي يطلق نقاشا صاخبا، وصلت اصداؤه الى الصحافة الغربية حول علمانيته المزعومة، وكونه يشكل سدا في وجه الأصولية. والطريف ان منجّم النظام وفيلسوفه الجديد، الذي نجح في حشد بعض الأقلام الغربية لصالحه، هو المفكر ميشال سماحة! الذي يبدو ان مواهبه المخابرتية والتفجيرية لم تسعفه حين كانت الحاجة ماسة لتفجير الشمال اللبناني طائفيا، والصاق التهمة بتنظيم القاعدة!
يا لبؤس البعث، من ميشال عفلق الذي كان متأدبا واخفى ميوله الفاشية المضمرة خلف رداء رومانسي، وكان صموتا لا يحب الثرثرة، ويحاول ان يجترح فلسفة لبعثه، الى ميشال سماحة الذي ملأ الفضائيات ثرثرة وفصاحة تعلمها من اساتذته السابقين في حزب الكتائب ومن صديقه ايلي حبيقة جزّار شاتيلا الذي ارتكب مذبحته بأمر من الجيش الاسرائيلي وتنسيق معه. من ميشال الأول الذي حاول ان يبعث الأمة فحطمها، الى ميشال الثاني الذي ذهب في التحطيم الى نهايته، ولجأ الى فلسفة حماية الأقليات في الشرق، كي يفخخ الشمال اللبناني جاعلا من الأقليات ضحيته الأولى.
فقد النقاش السياسي او الفكري او الثقافي كل دلالاته، وصارت الكتابة زعبرة. كيف تردّ على منطق لا منطق له، وكيف تتحاور مح محاور اصيب بالصمم، يردد الكلمات نفسها، ويحدثك عن السيادة الوطنية ورفضه التدخل الخارجي، بعدما شرّع بلاده لكل اصناف التدخل، معتقدا انه يستطيع اقناعنا بأن ضابط المخابرات القابع في الكرملين، الذي يتطاول مُتقيصرا، هو خليفة لينين!
والعجيب ان منطق النظام يلتقي مع منطق أعدائه من ملوك النفط ومشايخ الغاز، الذين يشوهون صورة الثورة، مستغلين المآسي السورية، ليتمنظروا بمساعداتهم لمخيمات اللاجئين على التلفزيون، كما حولوا سلطتهم المالية الى وسيلة لشراء الذمم وتجيير بعض المجموعات المسلحة لحساباتهم الأيديولوجية.
صرخ شاعر مصر الكبير صلاح جاهين: ‘عجبي’، بعد فجيعته بالهزيمة الحزيرانية، وكتب رباعياته التي صارت عنوانا للاحتجاج والقلق واليأس.
اما نحن الذين ابتلينا بزمن الزعبرة والوحشية والدم، زمن الدجل الذي يدفع ثمنه السوريون موتا ودمارا، فماذا نقول؟
هل سنجد كلمات تنقذ كلماتنا من الموت؟ وكيف نجدها ونحن عالقون في الرد على منطق لا منطق له؟
نقول للديكتاتور وبطانته من أصحاب منطق القتل والتدمير والقصف والتهجير، اذهبوا!خلص! انتهت اللعبة ايها السادة، لقد انقلب بكم الزمن على ايدي اطفال درعا، وجميع محاولاتكم للتهرب من شرب كأس النهاية سوف تذهب هباء.
اشربوا من الكأس الذي سقيتم منها شعبكم اكثر من اربعين عاما.
خلص! اذهبوا الى الجحيم!
اما شعب سورية فسيعرف كيف يرمم لغته وروحه، ويستعيد مدنه وقراه، ويحفر صورتكم في ذاكرة العار.
(عن “القدس العربي”)
22 أكتوبر 2012
رائع جدا!!