لن تغرقوا مافي مرمرة في بحار من الفساد
كان ألفارو أوريب يقتل القرويين العزل والناشطين النقابيين والسكان الأصليين ثم يلبسهم زي حركة “فارك” المسلحة. وكان عهده مطبوعًا بالرّعب والتصفيات بحقّ صحفيين وقضاة وناشطين مدنيين إضافة الى العدوان على جارته الاكوادور
لن تغرقوا مافي مرمرة في بحار من الفساد
…
|سمير طاهر|
“إنكم لن تغرقوا الحقيقة في أعماق بحار من الدم”ـ هكذا صرخت بطلة رواية الأم لمكسيم غوركي في وجه رجال السلطة. وكانت تنطق ببديهية وليست بشعار ثوري. فلم تنجح أعتى الطُغَم في دفن الحقيقة الى الأبد، بل زالت الطغم ومكثت الحقيقة. وهذا أيضا ليس كلاما ثوريا وإنما وقائع نتفرج عليها في البرامج التاريخية والارشيفية في التلفزيون عن أنظمة زالت بعد أن ملأت الدنيا دعاية لشعاراتها المثالية مُخْفية جرائمها الجماعية.
الدم يراق والتبريرات الباردة تتمطى. وحين تخرق الوقائع جدران التعتيم وتصدم العالم بأن جريمة مروعة حصلت، يبدأ التعاطي والليْن لكسب الوقت، ويمر الوقت، حتى إذا ما تصدر الأخبار حدث جديد يجري التركيز عليه في الاعلام بشكل مقصود، تكون الجريمة الأولى قد نسيت.
مافي مرمرة، اسم سفينة تحولت الى مذبحة وهي في الطريق الى غزة. المشاركون والشهود من العالم الغربي ولا تستطيع اسرائيل ازدراءهم مثلما يمكن أن يحدث لو كان المشاركون –مثلاً- عربا. لذلك فالمسألة هذه المرة أصعب. التبريرات الباردة لن تكفي هذه المرة فالشهود الغربيون رفعوا دعاوى قانونية ضد إسرائيل ودولهم طالبت أمين عام الأمم المتحدة بالتحرك. ما العمل؟ ما كان على أمين عام الأمم المتحدة سوى أن ينشئ لجنة للتحقيق في مجزرة قافلة غزة. ثم أبدت إسرائيل تجاوبًا (وإن مشروطا) مع اللجنة، وهي من الحالات النادرة التي تبدي فيها ذلك. ترى ما سر تجاوبها هذه المرة؟
من بين أعضاء هذه اللجنة الأممية يثير الانتباه أنّ نائب رئيسها هو ألفارو أوريب، رئيس كولومبيا السابق. ما أثار انتباهنا إلى هذه المفارقة صحفيّ كولومبيّ مقيم في السويد اسمه تيجران فيلر. كتب في مقالة في صحيفة سويدية ما يلي: تخيلوا لو أنّ الجيش الاسرائيلي قتل المشاركين في مركب مافي مرمرة وألبس القتلى زيّ حركة حماس ليُظهر أنهم أرهابيون! وأوضح فيلر مقصده بسرد جزء من تاريخ نائب رئيس لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في المجزرة (ألفارو أوريب) عندما كان رئيسًا لكولومبيا، حيث كان يقتل القرويين العزل والناشطين النقابيين والسكان الأصليين ثم يلبسهم زي حركة “فارك” المسلحة. ولم تكن هذه هي مأثرة أوريب الوحيدة؛ فعهده الذي امتدّ ثماني سنوات متحالفا مع الميليشيات اليمينية كان مطبوعًا بالرعب والتصفيات بحق صحفيين وقضاة وناشطين مدنيين إضافة الى العدوان على جارته الاكوادور. وحين خرج أخيرًا من الحكم كوفئ بهذا المنصب في لجنة التحقيق الأممية.
كان بان كي مون وزيراً فاسداً في حكومة كوريا الجنوبية. وحتى حين نال منصب سكرتارية الأمم المتحدة فإنه جاء صاحباً فساده معه
في رأيي أنّ هذه الفضيحة تعود في أصلها الى شخصية سكرتير الأمم المتحدة نفسه، بان كي مون. فهذا الرجل، الذي يُعدّ من أضعف سكرتيري الأمم المتحدة عبر تاريخها، كان وزيراً فاسداً في حكومة كوريا الجنوبية. وحتى حين نال منصب سكرتارية الأمم المتحدة فإنه جاء صاحباً فساده معه. أولاً اعتمد المحسوبية عندما غدا أكثر سكرتير للأمم المتحدة استغلالاً لمنصبه في تعيين أشخاص من بلده وتربطه معهم مصلحة أو علاقة؛ ثانياً ألحق الضرر (والفساد مُضِرّ بطبعه) بالعمل الإداريّ للمنظمة بسبب تغاضيه عن الفساد الداخلي وعرقلته الاصلاح، كما كشفت إحدى قدامى الموظفات في المنظمة الدولية في رسالة استقالتها. لهذا ليس ممّا يستغرب أن يُعين -في صفقة ما- للجنة غزة شخصًا يرضي إسرائيل ويجعلها تطمئن الى نتيجة التحقيق. كان هذا سرّ تجاوب إسرائيل مع تشكيل اللجنة. والفاسد كي مون يعطي الاسرائيليين وعداً بأنّ أحداً لن يزعج جنودهم باستدعائهم إلى التحقيق (ولا ندري إن كانت ثمة وراء الكواليس تطمينات أخرى عن نتائج التحقيق)، وحين يكشف الاسرائيليون عن ذلك في الاعلام يسارع هو الى الانكار! وتتواصل المهازل.
لكن ما الذي يمكن أن يقدمه ألفارو أوريب لإسرائيل؟ وكيف سيلوي رقاب الحقيقة لكي يثبت أن ناشطين مدنيين عزلاً هم الارهابيون وأنّ الجنود المسلحين هم المجني عليهم؟! أو يثبت أنّ القتلى هم المجرمون والقتلة هم الضحايا؟! لقد دفن القتلى وبات متأخراً أن ينصح الاسرائيليين بإلباسهم ثياب حماس. أم أنه سيلجأ إلى لعبة الوقت فينتظر حدثا كبيرا يشغل العالم عن هذه القضية؟ أي فساد يمكنه أن يغرق الحقيقة الدموية التي اسمها مافي مرمرة؟
إنّ بحاراً من الفساد لا تستطيع إغراق الحقيقة. لكنّ البعض لا يريدون أن يتعلموا من التاريخ.
(كاتب وشاعر عراقي يقيم في السويد؛ samirtahir@gmail.com)