دكتاتوريّات خلف التاريخ/ هشام نفّاع
|هشام نفاع| الأغنية الجديدة التي يؤديها شابّ ليبيّ هي ب […]
دكتاتوريّات خلف التاريخ/ هشام نفّاع
|هشام نفاع|
الأغنية الجديدة التي يؤديها شابّ ليبيّ هي بيان سياسيّ كامل. ويجدر بالعقيد معمّر القذّافي أن يخاف. فعندما تبدأ الاحتجاجات الشعبية بإنتاج الأغنية والقصيدة والمقولة المختلفة، يجب أن نعلم بأننا نكون قد تجاوزنا مرحلة “طرح المطالب” ودخلنا في مرحلة جديدة، مرحلة التغيير الثوري. يبدو أننا سنعنوِن هذا العهد العربي بعد حين، اشتقاقًا من الهتاف المصري، بـ “الشعب أراد وأسقط النظام”. لا يوجد أبسط من هذا الإعلان الثوريّ الصريح، ولا أقوى منه. وها هو يصدح في عواصم عديدة.
وسط مفاجأته ورُعبه كسائر زمرة الحكّام العرب، من ثورتيّ تونس ومصر العظيمتين، زعم معمّر القذافي أن “ليبيا مش زي مصر وتونس”. المغنّي الليبي الشاب يردّ باستهتار وغضب معًا “يقلّك ليبيا مش زي مصر وتونس.. لا.. البطالة في ليبيا أكثر من مصر وتونس”، وعلى الشاشة يظهر الرقم: 33%؛ ثم، “يقلّك ليبيا مش زي مصر وتونس.. لا.. عدد الشهداء في ليبيا أكثر من مصر وتونس”، وعلى الشاشة يظهر الرقم: 1200 شهيد. هذا الرقم المُرعب يشير إلى ضحايا مجزرة نظام القذافي ضد السجناء السياسيين وسجناء الرأي داخل سجن “أبو سليم” في طرابلس، بتاريخ 29 حزيران 1996. وفقًا لمصادر عدة، وقعت الجريمة بعد أن اعترض السجناء على ظروفهم ومعاملتهم السيئة. النظام الليبي واصل محاولات التكتّم على المجزرة لمدة 12 عامًا، ولم يعترف بها رسميًا إلا عام 2008 حين تسرّبت المعلومات خارج ليبيا. فراح يحاول استرضاء ذوي الشهداء بالمال تارة وبالتهديد تارة أخرى. إنّ حياة 1200 مواطن هي لا شيء بنظر هذا النظام القاتل. كل هذا، والعقيد الليبي لا يزال يحمل لقب “قائد الثورة”، منذ أربعين عامًا!
العقيد تفاجأ ثانية.. تفاجأ من أن ليبيا بالضبط كمصر وتونس، وكالبحرين واليمن والجزائر وسائر البلدان التي لن تتجاوزها روح التغيير الثورية المنطلقة. لكن ردّ نظام العقيد جاء وحشيًا ودمويًا جدًا. لا يزال من الصعب تحديد عدد ضحايا مجازر القذافي، فالتعتيم مفروض على ما يجري، بالضبط كما فعل في مجزرة أبو سليم المذكورة. لكن الفرق أنه لم يعد من الممكن اليوم فرض الظلام الدامس تمامًا. هذا عصر يبدو أننا تجاوزناه.
هذا النظام يتصرّف بنفس الغباء الذي سبقه إليه نظام تونس ونظام مصر. فقبل أن يطلق مجازره ضد الشعب، خرج العقيد نفسه في مظاهرة تأييد له بل وتطالب بالإصلاح أيضًا! لقد رأينا أمرًا مشابهًا في تكتيكات حسني مبارك ونظامه التي دلّت على تخلّف كبير قياسًا بما وصلته شرائح هامة في الشعب، وبين الشباب خصوصًا. برز ذلك إلى حدّ العبث حين أرسل النظام البغال والجمال لاقتحام ميدان التحرير، بعد يوم واحد على إطلاق أحدث الطائرات الحربية المقاتلة في سماء وسط القاهرة! في هذه الفترة القصيرة جدًا ما بين التخويف بالطائرات وبين اللجوء للحيوانات، اختزل نظام مبارك التاريخ بسرعة الضوء فيما هو يتقهقر للوراء. وهكذا قدّم لنا حقيقة قوّة بقائه بصورٍ واضحة: مَن يفشل في تخويف شباب الثورة بالطائرات ثم يلجأ للدّواب، إنما يقول للجميع: لقد رحلتُ منذ سنين طويلة.
هذه الدكتاتوريات ليست عديمة الأخلاق فقط، بل إنها خفيفة العقول أيضًا. يجب أن نضيف على مقولة أرسطو “السلطة مُفسِدة” أنها “مفسدة للأخلاق وللعقول معًا”. هذا أحد أهمّ ما كشفه ويكشفه المدّ الثوري العربي الراهن. لكن هذا، وإن كان يقلّل من عمر الدكتاتوريات، فهو لا يلغي وحشيّتها إلى حين انهيارها. وما يقترفه نظام القذّافي الآن من مجازر هو الدليل. فهو لم يتعلّم من تجربتيّ تونس ومصر أمس وأمس الأول. مثلهما، ليس لديه أدوات معرفية لفهم معنى أنّ هناك جيلاً عربيًا جديدًا لا تهمّه جميع ديماغوغيات الحكّام عن بطولاتهم الحقيقية والمزعومة السابقة. لأنهم حين وُلدوا، تعرّفوا عليهم بصفة واحدة: دكتاتور قامع يدوس شعبه. وحتى لو طرّز الدكتاتور كل صباح خطبة ثوريّة ضد أمريكا، فلا يبرّر له هذا أبدًا وجود مواطنين تحت سوطه يعانون الفقر والاستغلال ويشعرون بالذلّ والكرامة الجريحة.
الشباب العربيّ اليوم يرى ويسمع ويتواصل مع أترابه خارج سجون القمع الجماعية المسمّاة دولا عربية، وحين يتأمّل في حاله يكتشف أنه ليس لديه ما يخسره سوى قيوده والبنادق الحقيقية والرمزية الموجّهة إليه من فوق جدران الخوف. سنحتاج لوقت طويل كي نفهم جذور ما جرى ويجري، لكن يكفينا الحدْس كي نقول إن جدران الخوف انهارت، وبأسهل مما توقعه حتى الشجعان الذين يقوّضونها من أساسها. إنّ هذا الشباب يسير على إيقاع حركة التاريخ، وما أروعه وهو يرمي الدكتاتور تلو الدكتاتور خلف ظهره، خلف التاريخ الجديد الذي يصنعه ببسالة مثيرة للفخر.
20 فبراير 2011
ما بعرف إذا المشكلة من الموقع أو من عندي، بس الخط المستخدم في آخر فقراين حجمه صغير جداً ويصعب على القراءة. ممكن تزبطوه؟