إسقاط “نظام التقدميين” أيضًا/ هشام نفاع
يغيب السؤال البسيط: هل الظرف الثوري المصري الآن أفضل أم أسوأ مما سبق ثورة 25 يناير؟ هل هذا التعثّر الذي حصر مساحة تقاسم السلطة بين المرشحَين الرجعيَين عن الإخوان والنظام، هو بمثابة شاهدة على قبر الثورة؟ معقول؟
إسقاط “نظام التقدميين” أيضًا/ هشام نفاع
|هشام نفاع|
لا تزال الشعوب تريد إسقاط النظام. حتى لو نقل الاعلام الطاغي كاميراته عن مطلب الناس العفوي الأساس، إلى صراع القوى على ما أنتجته السنة الاولى ونيّف من الربيع العربي. وحتى لو انتقل الصراع من مواجهة النظام إلى التنافس عليه، أيضًا من قبل قوى انتهازية تجيد الرقص على حدة حبال، وأحابيل.
هناك فرضيّات كثيرة بحاجة إلى متابعة وملاحظة ودراسة. من المبكر جدًا القفز إلى استنتاجات “نهائية”. هذا سيكون واحدًا من ضروب الكسل، وضرباته.
بدأت الثورة في تونس فمصر، وهما دولتان في صلبهما مجتمع أكثر تماسكًا من الدول التي اشتعل فيها الاحتجاج لاحقًا. في تونس ومصر ظلّت نغمة الاحتجاج وشعلته مدنية، فلم تنجح القوى الخارجية بالتسلّل، مع أنها حاولت، وخصوصًا عبر محاولات الافساد المالي بالبترودولار.
الوضع مختلف في ليبيا المؤلفة من قبائل، وسوريا التي يبدو واضحًا، ومؤلمًا، أن أربعة عقود من حكم “البعث” القومي، لم تفضِ إلى تغليب المدني الجامع فيها على الطائفي المذهبي الفئوي الضيّق. لقد فشل “البعث” هنا مثلما فشل في العراق. فشل في المشروع القومي كما فشل في المشروع الاشتراكي، على هزاله الفكري والعملي. وهكذا، فاحتمال دبّ الصراع الأهلي هنا، كان ولا يزال مغريًا لأولئك المرتعدة فرائصهم، في عواصم غربية وعربية معروفة، من بزوغ حالة عربية جديدة قوامها العدالة والحرية والمساواة. أما في اليمن والبحرين فلا يزال التدخّل الأجنبي يتفاعل بشكل “غير مرئيّ” لمن لا تتسع بصيرتهم لرؤية مدى أجنبيّة مصالح سلاطين النفط قياسًا بمصالح شعوب العرب الحقيقية..
إحدى المشاكل المرافقة لهذه السيرورة، أن الانتقال من مرحلة وضوح المطلب الثوري الأولية، إلى مرحلة التعقيدات الراهنة التي تحاول تأجيجها (أيضًا) القوى الخارجية المذكورة، دفعت بالبعض “منّا” إلى الفرار من نقيض إلى نقيض؛ من النشوة الوطنية والإنسانية بهبّة شعوب العرب إلى التشكيك بها بل حتى تأبينها حيّة.. دخول القوى الاجنبيّة على السكّة، الذي يجدر توقّعه في عالم السياسة القائم على صراع السيطرة ومواجهته، دفع بالبعض إلى حضن نظرية المؤامرة: هذا الربيع العربي صُنع في أمريكا! هكذا، وعلى الدنيا السلام..
يغيب، مثلا، السؤال البسيط: هل الظرف الثوري المصري الآن، رغم ما أفرزته الانتخابات الرئاسية، أفضل أم أسوأ مما سبق ثورة 25 يناير؟ هل هذا التعثّر الذي حصر مساحة تقاسم السلطة بين المرشحَين الرجعيَين عن الإخوان والنظام، هو بمثابة شاهدة على قبر الثورة؟ معقول؟ أم أن الانتخابات أبرزت أيضًا كتلة وطنية تقدمية راسخة متعددة الرؤى الفكرية، من شأنها أن تشكّل النقيض الثوري للفلول وللثورة المضادة معًا في المستقبل المنظور؟
لا يجدد أحد لو قال إن القوى الخارجية الرجعية سارعت إلى استيعاب الحدث الثوري الهائل ومن ثمّ وضع الاستراتيجيات لكبحه بل وأده. ومصطلح القوى الرجعية هذا، لا يشمل الرياض والدوحة فقط، بل يشمل أيضًا ديمقراطيات الغرب السياسي الرسمي الذي يرفض اعادة توزيع الموارد والثورات لأجل تحقيق قيمة وفعل العدالة والمساواة بين البشر، وتغليب حقوق الناس في العيش الكريم على دكتاتورية رأس المال المتوحّش. هذه القوى تنشط في كل بقعة يتهدد فيها النظام – نظام السيطرة الدكتاتوري الرأسمالي المعولَم. هذا ما فعلته بالضبط في القرن الماضي في أمريكا اللاتينية (وتحاول اليوم بلا شك)، وفي مصر الخمسينيات ضد ثورة الضباط الأحرار بضلوع أمريكي-سعودي-اسرائيليّ، وهو ما تفعله اليوم.
لذلك، فمن غير المفهوم ولا المعقول أن تنضم شرائح من كتلة القوى اليسارية والتقدمية، وحتى تلك الليبرالية التي تعاني من هشاشة ثورية، إلى الحملة المريبة الساعية إلى إجهاض الروح الثورية من خلال دبّ اليأس والتشكيك وإفقاد الانسان العربي ثقته بنفسه وشعبه، والتي بدأ باستردادها ببسالة منعشة للقلب والعقل.
بدلا من عقد مراسم التأبين والحداد اليومية لفعل استعادة العربية أنفاسها وإرادتها وكرامتها، فإن القوى الرافضة للانضواء في صفّ الطغمات العربية التي جعلت من الأوطان مزارع ومعتقلات، والرافضة في الوقت نفسه لجميع أشكال الثورة المضادة الرجعية والتدخلات الاستعمارية – يجدر بها أن تعمل للمحافظة على جذوة الأمل لدى الجماهير. ليس أمل الوعظ والغيبيات، ولا أمل التنظيرات المثالية، بل أمل الوعي والارادة والفعل. لأن أي انكفاء في الرؤية وفي الفعل لدى الثوريين والتقدميين، لن يدفع الجماهير نحو ثورة جديدة، بل إلى انكفاءة أكبر نحو سراديب ومقابر اليأس والاحباط. فهل هذا هو دور الثوريين والتقدميين؟! هل هذا هو المخرج من التعقيدات التي يجب التعاطي معها كمعطيات واقعية، بل ضرورية، يجب مواجهتها وتفكيكها؟
لقد راكمت القوى التقدمية العربية، بشتى رؤاها، أخطاء كثيرة في النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع هذا القرن. وليس من واجبها عدم تكرار أخطاء الماضي فحسب، بل عدم “إبداع” أشكال جديدة من الأخطاء القاتلة. تلك التي تنجم عادة عن قصور في وعي اللحظة السياسية والاجتماعية واستحقاقاتها، وعن قلة الجرأة في الخروج من أنماط تفكير وتنظير باتت تحتاج هي نفسها إلى ثورة ذاتية عليها.
من هنا، فمقولة الشعب يريد إسقاط النظام، لا تقتصر على إسقاط السلطة العربية الحاكمة. بل يجدر بها أن تشمل إسقاط نظام التفكير حين يعجز عن رؤية الأفق القريب واستشرافه؛ نظام العلاقات السقيمة بين المختلفين الذين بوسعهم تشكيل كتلة هائلة بديلة للسلطان العربي وللوريث السيء الذي تريده له القوى الرجعية – عربية ودولية على السواء؛ نظام التلذذ بظلمة الكهف الآمنة بدلا من غمس النظر بجرأة في نار ونور الشمس؛ نظام التعاطي مع الإرث الايديولوجي كحصن منغلق بدلا من تحويله إلى نهر جارف متدفق من اجل الخير للناس؛ ونظام العداوات والاستعداءات الضيقة في المساحة وفي الافق معًا. نعم، إن الشعب يريد إسقاط هذا النظام لدى التقدميين والثوريين أيضًا.
3 يونيو 2012
قد يكون الحل هو اعلان الثورة على التفكير “الرجعي” عند الجميع.
المشكلة هي “مرونة” هذا المصطلح، فكل من اراد ابداء رأيه بالوضع العربي، يقوم باستعمال هذه الكلمة القديمة، المتغيرة حسب حاجات المتكلم.
فالحزب الشيوعي الاسرائيلي، مع غياب مبادئه الانسانية في الموقف السوري (ولا اقصد الكاتب)، وانغماسه بالتلذذ الذاتي حين يتراءى ويفتخر الكثير من اعضائه ب”مقاومة” روسيا بوتين، وسوريا عائلة الاسد للشيطان الاعظم الامريكي “الغربي”. تكرار هذه الكلمة (“مقاومة”) كمبرر لموقفهم الحربجي، انتجت عندهم مقاومة ذاتية لرؤية حقيقة الواقع الانساني للشعب السوري، الذي يذبح بالمئات على ايدي الشبيحة الاسدية. فاصبح كل ما يحدث في سوريا هي قصص مؤامرات وحبكات اجنبية ليس الا، ابطالها الشيخ القطري والسعودي، لا غير، وما الى ذلك من كليشهات سئمناها.
اذا لم يكن هذا الموقف رجعيا، فما هي الرجعية، بحياة اللي خلقكو.