لكي لا تخلق المُقَاطعة قَطيعة مع الذَّات ومع العالم/ عمر القطان
إن الموقف السياسي أو الأخلاقي أو الديني، إنما هو موقف فردي لا يحق لأي جماعة كانت أن تفرضه على المجتمع ككل، على غرار الأنظمة الفاشية الاستبدادية، فمثل ذلك الفرض، هو بمثابة عمليّة رقابية غير ديمقراطية تُنفذ دون مرجع قانوني
لكي لا تخلق المُقَاطعة قَطيعة مع الذَّات ومع العالم/ عمر القطان
.
|عمر القطان|
منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، يبدو أن هناك نوعاً من التوافق، فيما يسمى المجتمع المدني الفلسطيني، على مقاطعة كل المؤسسات الأكاديميّة والثقافيّة الإسرائيليّة، وعلى حثِّ مناصري الشعب الفلسطيني في العالم على دعمه، من خلال المقاطعة التّامة لكل المنتجات الإسرائيلية، لاسيما تلك المصنوعة في المستوطنات، وحثِّ الأكاديميين والمثقفين والفنانين على عدم المشاركة في نشاطات أو عروض في إسرائيل ومع إسرائيليين، كذلك مقاطعة الفنانين والأكاديميين الإسرائيليين في الخارج.
إنني أشاطر ذلك الموقف، على الرغم من أنني أرى التناقضات الكامنة فيه، حيث إننا، في فلسطين المحتلة، مجتمع رهين للاحتلال، وترتبط أواصره بالمجتمع الإسرائيلي واقتصاده وجهاز دولته ارتباطاً مباشراً ويومياً وعميقاً.
إضافة إلى ذلك، أقول “يبدو” أن هناك توافقاً في داخل المجتمع المدني، لأن تعريف معنى هذا المصطلح ليس بالأمر السهل أصلاً. فحملة المقاطعة والمؤازرة (PACBI) ورديفتها الدولية (BDS)، على الرغم من اختلافهما، تشكلان غالباً تكتلاً من المؤسسات والهيئات الأهلية والنقابات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. والمشكلة أنهما، على الرغم من نجاحهما النسبي في استقطاب الدعم على المستوى الدولي في تصعيد حركة المقاطعة، تبقيان حركتين غير منتخبتين، مؤلفتين من تكتّلات ومؤسسات بعضها يتسم بالديمقراطية، وبعضها سليل منظمة التحرير وتوازناتها الفئوية التاريخية، فلذلك من الصعب معرفة المدى الحقيقي لدعم الرأي العام الفلسطيني لهاتين الحركتين، سوى على المستوى العاطفي.
لنكن واضحين: لا أقبل أنا شخصياً التعامل مع أي جهة إسرائيلية رسمية أو غير رسمية تتنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية، لا على الصعيد المهني، ولا على الصعيد الشخصي، إلا إذا اضطررت لذلك، مثلاً لعبور الحدود الدولية إلى فلسطين المحتلة. والمهم بالنسبة لي في هذه الجملة الأخيرة، هو أن هذا موقفي أنا، وهو موقف سياسي فردي، توصلت إليه خلال خبرة مهنية وحياتية تزيد على خمسة وعشرين عاماً من الانخراط في مجال العمل الثقافي العربي والفلسطيني. قول “موقفاً” وليس “مبدأً”؛ لأنزع عنه الصفة الأخلاقية والقدسية المطلقة التي يتسم بها مصطلح “المبادئ”، في بلادنا على الأقل. وأقول “فردي”؛ لأنني أعتقد أن النضال السياسي يبدأ عند القرار الفردي العقلاني، وهو لذلك قابل للشك والتغير كما كل عملية عقلانية، وقابل أيضاً للخطأ ولمحاسبة الذات، فأنا، مثلاً، قبلت في العام 2004 أن أعرض فيلماً من إخراجي (وهو فيلم عن النكبة وحق العودة) في مهرجان حيفا الدولي، على أمل إطلاق نوع من الحوار مع الجمهور الإسرائيلي، وندمت فيما بعد لأنني اكتشفت سذاجة موقفي. لكنني لم أندم على محاولتي، فكنت وما زلت أعتقد أننا كفلسطينيين قد أخفقنا، إجمالاً، في توجيه خطاباتنا للعدو/الجار بالطريقة الأذكى والأكثر خدمة لقضيتنا العادلة.
إضافةً إلى ذلك، هناك فارق كبير بين الكره العاطفي والرفض المبدئي لكل شيء يمت للاحتلال وللصهيونية بصلة؛ أي بين ردود الفعل العاطفية التي من الصعب نقدها، وبخاصة أمام احتلال بشع وإجرامي من جهة، ومن جهة أخرى الموقف السياسي العقلاني الذي يؤخذ بغرض دعم ـ وإنجاح ـ إستراتيجية سياسية معيّنة لها أهداف واضحة، إما تتحقق، وإما تفشل، وعلى ذلك الأساس يقرر المواطن أو المواطنة دعمها من عدمه.
إن السبب الرئيس في إثارة هذه القضية اليوم، يعود إلى حادثة مؤسفة وقعت، مؤخراً، وأثارت تخوفي من أن تتحول المقاطعة ـ إذا لم تكن قد تحوّلت بعد ـ إلى قطيعة مع الذات ومع العالم، وإلى أداة قمع تزيد من انغلاق المجتمع الفلسطيني على ذاته، وتعزز إحساسه بالعجز والفشل، وتعمّق الخلافات والتناقضات التي لم تنفك تضعف حواره الوطني.
فقد كان مؤخراً الكاتب المسرحي الجزائري الفرنسي محمد القاسمي مدعواً لتقديم ورشة عمل مع كتّاب شباب فلسطينيين، بمبادرة من مؤسسة محلية، وبالشراكة مع مؤسسة عبد المحسن القطَّان، والمسرح الملكي الفلمنكي في بلجيكا، وقد تراجعت تلك المؤسسة المبادِرة عن دعوته في اللحظة الأخيرة قبل قدومه، بعد أن تعرَّضت للضغط من أشخاص يعيبونها على استقبال هذا الكاتب، لأنه كان قد شارك في نشاطين ثقافيين إسرائيليين قبل بضع سنوات. وقد أشارت تلك المؤسسةُ إلى “قوانين” حملة المقاطعة (PACBI/BDS) كسببٍ رئيسٍ في قرارها إلغاء دعوته. وليس هذا المكان الأنسب للدفاع عن محمد القاسمي الذي يتمتع بباع طويل من العمل المؤازر لفلسطين، فأترك له ذلك، بل أود أن أثير التساؤل هنا حول هذه “القوانين” والمبادئ والقرارات التي تؤدي إلى تخوين أفراد وجهات معينة، والتهجم عليهم بالألفاظ العنيفة التي أرى أنها بطبيعتها غير ديمقراطية، وفيها من التهديد والوعيد، العلني منه والمبطن، الذي لا يختلف كثيراً، بصراحة، عن فتاوى بعض رجال الدين الظلاميين (غير المنتخبين هم أيضاً)، الذين يوزعون فتاواهم بالقتل وهدر الدماء كأنها حلاوة العيد!!
إن الموقف السياسي أو الأخلاقي أو الديني، إنما هو موقف فردي لا يحق لأي جماعة كانت أن تفرضه على المجتمع ككل، على غرار الأنظمة الفاشية الاستبدادية، فمثل ذلك الفرض، هو بمثابة عمليّة رقابية غير ديمقراطية تُنفذ دون مرجع قانوني، ولا يمثُل لها أحد سوى لسببين: أولهما، هو الخوف من قوة (وعنف) الجماعة، وهي قوة غامضة لا نعرف لها مصدرا ولا رادعا. وثانيهما، هو الإحساس (اللاعقلاني والُمطمْئِن) بالانتماء للرأي العام الذي هو، بحد ذاته، مجردٌ ومجهولُ الهوية. والنتيجة هي مواقف مخزية كهذه: أن كاتباً عربياً مرموقاً مناصراً للقضية الفلسطينية، ولديه ما يقدمه من خبرة مهنية لكتابنا الشباب، يهان بهذا الشكل، كما تمت إهانة أشخاص مرموقين آخرين في الماضي؛ مثل الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، والموسيقار العالمي الإسرائيلي الفلسطيني دانيال بارنباوم، والكاتبة الجنوب إفريقية ندين جورديمر، على سبيل المثال لا الحصر. وإذا كان الأمر يحتاج إلى المزيد من الرموز الوطنية، أشير هنا إلى زيارة المرحوم محمود درويش، والأمسية الشعرية التي أحياها أمام الجماهير في حيفا في صيف 2007، على الرغم من انتقادات بعض المقاطعين.
إذا كنا غير متفقين مع مواقف محمد القاسمي، وإبراهيم نصر الله، ودانيال بارنباوم، ونادين جورديمر، فبأيِّ حق نقصيهم عن التحاور مع المواطنين الفلسطينيين؟ فلدى المواطن القدرة ـ والحق ـ على الاطّلاع على تلك المواقف ومشاطرتها أو رفضها. بأيِّ منطق نعمّق انعزال المجتمع الفلسطيني المحاصر عن العالم ونخلق القطيعة معه؟ أين روح الضيافة والانفتاح؟ وأين أخلاق الحوار الحضاري مع الآخرين؟ ثم لماذا تلك الطوباوية التي تقول للفلسطيني إنه بطل “مقاطع” لا يجوز أن يستمع لهذا الكاتب أو تلك الشخصية، مع العلم أنه سينهض في الصباح التالي بحثاً عن عمل في اقتصاد العدو، ومشترياً بضاعته، بل وخاضعاً لنظام حكمه؟
أعتقد أنه حان الوقت لإعادة النظر في كيفية التعامل مع موضوع المقاطعة لإسرائيل، والإصرار على أن قرار المقاطعة هو قرار فردي وليس جماعياً، لا يحق لأي جهة كانت أن تأخذه نيابة عن المواطن. وعندما تبلور القوى السياسية المحلية والعربية سياسات واضحة تجاه المقاطعة، تكون قابلة للتنفيذ، وغير مشحونة بالتناقضات والبطولية الكلامية الفارغة، عندئذٍ يقرر المواطن دعمها أو عدمه، من خلال صناديق الاقتراع، وليس بسبب “اتّفاق” جماعي غير ديمقراطي تأخذه نيابة عنه جهات غير منتخبة، بصرف النظر عن حسن نيتها. وإلا ظلت مواقفنا من هذا الموضوع رهينة آراء جماعية غامضة، لا يمكننا محاسبتها ولا قياس جدواها، تؤذي علاقتنا مع الآخرين، وتُبقينا سجناء لدوامات فكرية لا تقدمنا، بل قد تؤخرنا.
(سينمائي، وأمين سر مؤسسة عبد المحسن القطَّان. لا تعبر هذه المقالة سوى عن رأيي الشخصي، وليس عن رأي مؤسسة عبد المحسن القطَّان. عن صحيفة “الأيام” الفلسطينية)