مجازات/ لؤي حمزة عبّاس
|لؤي حمزة عبّاس| كان يخطو في المرجِ القريبِ من المنزل و […]
مجازات/ لؤي حمزة عبّاس
|لؤي حمزة عبّاس|
كان يخطو في المرجِ القريبِ من المنزل وقد أخذه الحنينُ إلى ما هو أبعد من زهرةِ الأوركيد التي منحت النهارَ امتيازها، مفكّراً بالوحدة التي تُشيرُ إليه بيدٍ حانيةٍ من وراء الأشجار. يرنو نحو أقصى المرج مثلَ ناسخِ كتبٍ ذابلِ العينين، مشغولاً برغبتهِ القديمةِ في ابتكار لغةٍ خاصةٍ، له وحده، من أجل لياقة الفكرة، يُحدّثُ عبرها أشجارَ الآسِ ويفهم، ولو على نحوٍ عابرٍ، إشاراتِ الليلِ والنهار، لكنه لم يكن يسمعُ في تجواله اليومي غيرَ نبرةِ الأوركيد تتواصل من حوله، مثل قطعة كلارنيت تملأ الهواء، حتى إذا أخذه النومُ عادَ يحدّث نفسه عن الرجلِ الذي كان يجوبُ الشوارعَ حاملاً حقيبته ـ وجهه ما يزال مرتسماً على الزجاج ـ وهو يردّدُ أمنيته الأخيرةَ في النزول إلى محطةِ القطارِ عبر سُلّم النفق الخالي في مثلِ هذا الوقت من النهار، وقبل أن يتحرّك القطارُ بوقتٍ قصيرٍ يعرف أن كلَّ شئٍ في طريقه للإختفاء: المرجُ، والزهرةُ، واللغةُ الخاصةُ بكلماتها المرصوفةِ مثل أحجارٍ جبليّة، وأنه، في هذه اللحظة فحسب، أخذ يُنصت لميثيولوجيا حياته.
لنفترض، على سبيلِ الكتابةِ، أن الرجل الذي يخطو في المرج هو (هرمان هيسه) المولود في كالف، ألمانيا، في العام 1877، وقد بدأ حياته العمليّة بائعَ كتبٍ ـ ليس ثمة فرقٌ كبيرٌ بين أن يخطو المرءُ في مرجٍ مفكّراً بالوحدة التي تُشير إليه، في وقتٍ تبدو الأدغالُ فيه أكثر عذريّة، وأن يمتهنَ بيعَ الكتب ـ وأن من رآه لحظة النوم هو (هرمان هيسه) نفسه، فليس من الغريب أن يُفكّر بائعُ الكتبِ الشاب بما ستؤول إليه حياتُه بعدَ أكثر من نصفِ قرن، في وقتٍ محدّدٍ من النهار يكون أوهى صمتاً وعطالة، مواصلاً انشغاله بالسلالم، والانفاق، والقطارات، من دون أن تغيبَ عن نفسهِ رغبتُه القديمةُ في ابتكار لغةٍ يمكنها اقتراح عالمٍ جديدٍ له ما يكفي من القوّة والجمال، ولا بأس أن يعتري المرءَ فيه، في أوقاتٍ متباعدةٍ، شعورٌ عميقٌ بالخوف، مثل طفلٍ يواصل الصعودَ على سُلّم برج.
” كلُّ شيء سيمرُّ سيد هيسه “، يحدّثُ رجلُ القطارِ نفسه بصوتٍ خفيض، وقد أخذت لوعة الكلارنيت تتصاعدُ من حوله، “ليس علينا سوى البحثِ عن مجازاتٍ جديدة”.