طعم الخبز/ راجي بطحيش
خيار أول هو صورة جدتي تزرع الزنبق في صفائح السّمنة والزيت لا لسبب سوى أنها ترغب في إتمام الواجبات المدونة لها في قائمة دستها لها والدتها الأمية في جهازها عندما غادرت الشام عروسا سورية
طعم الخبز/ راجي بطحيش
>
|راجي بطحيش|
سقطت قطعة الحجر من قلبي.. وتحطمت عند أطراف أصابع قدمي الرقيقة, الناعمة التي لا تزال غضاضتها تستبيح كل ذاك الدنس البريء, تجمعت أتربتها عند الحدود بينها وبين السجادة “العجمية” المزيفة وخراء القطط المستوطنة وأشلاء جسد بلاستيكي كان ينام آمنا داخل بيضة مفاجآت طالها القصف الطفوليّ غير النادم.
تنفلق قطعة الحجر عن اختيارات غير مبشرة (تلك التي سقطت من قلبي.. أذكّر).. ضع دائرة حول الإجابة المناسبة: خيار أول هو صورة جدتي تزرع الزنبق في صفائح السّمنة والزيت لا لسبب سوى أنها ترغب في إتمام الواجبات المدونة لها في قائمة دستها لها والدتها الأمية في جهازها عندما غادرت الشام عروسا سورية. ولكن جدتي لم تكن سورية يومًا، بل كانت رومية من “الجبل” وكان انتقالها من ديار الروم لنواحي اللاتين أشبه بفصول المرثية التي لا تتفكك حروفها. ها هي الإجابة تفلت مني من جديد.. على أيّ حال لم يصمد الزنبق كثيرًا من بعدها, كما تسلق الصدأ الصفائح، أو كلما تسلق الصدأ الصفائح.
.
تنفلق قطعة الحجر عن صور بعدسات سيئة (تلك التي سقطت من قلبي.. أذكّر).. ضع دائرة حول الصورة اللائقة: صورة ثانية هي تلك التي لا تُظهر شقوقا في وجهك الناعم الطفولي الحريري. هي تلك التي جمدت الوقت وأدخلته لينام بعد أن خدعته بحكاية كاذبة حول أمير وسيم أسطوريّ يردم ثقوب فتاة فقيرة بلهاء ويحوّلها إلى أميرة بلهاء أيضًا. ولكنّ التجاعيد تملأ وجهك وعنقك أصلا وهي خبيثة حيث تكاد تختفي في أحيان، فيبدو وجهك صافيا كالماء المتساقط فوق جفني الآن من دلف الشتاء. وفي أحيان أخرى تحتله التجاعيد, لتؤكد أنّ كارثة نعشق نسيانها مرّت من هنا, وسكنت بيننا. ها هي الإجابة تفلت مني من جديد. على أيّ حال فإنّ مسحة صغيرة من المسحوق الدهنيّ بلون بشرتك يزيل آثار الهزيمة قليلا أو ينسينا وطء الهزيمة لبرهة.
.
تنفلق قطعة الحجر عن شرائح حركية مُصوّرة رقميًا من أعلى (تلك التي سقطت من قلبي ما زلت أذكّر).. شريحة خامسة هي تلك التي تظهر صدر أمي حين كان مليئًا ومكتنزًا وحين كان الملاذ الوحيد لحيرتي أو حين كنت غلامًا يدوّن بالهواء كلمات اعتقد وقتها أنها ستتطاير وتخرج عبر ثقب الشبكة المعدنية المثبتة حول النافذة. ولكن يبدو أنّ الكلمات التصقت بالسقف وتكثفت من جديد لتصبح مطرًا من الأوهام الفاعلة… على ما يبدو. ها هو صدر أمي يتدلى محتلا الحيز القلق ويلامس هضاب الطحين التي ستصبح بعد قليل عجينا لا يحلو صنعه سوى في الفجر. ولكن أمي كانت ابنة طبقة متوسطة وهي لم تستيقظ مرة في الفجر لتعارك العجين. ها هي الإجابة تفلت مني مجددًا. على أيّ حال لا تترك الملابس الرّحبة الصدر والتي ما تزال تملأ المكان, مجالا للشك بأنّ طعم الخبز كان سيكون ألذّ وأكثر سخونة من الفتات المتيبس الذي أحاول أن أمضغه الآن، أو الذي أحاول أن أدع القطط تمضغه مكاني.
(شتاء 2013)