الاحتلال والبحر/ علاء حليحل
هذه التفاصيل غير المملة تجعل المرء ينحاز فورًا إلى فورة الفلسطينيين في بحر يافا. الفرح الطفوليّ في تقافز خمس نساء عند الشاطئ وكأنهنّ لم يقضين فترة بلوغهنّ حتى الآن وراء الحواجز والجدران
الاحتلال والبحر/ علاء حليحل
.
|علاء حليحل|
يقول الرفيق إسماعيل إنّ هناك احتمالين اثنين من وراء تصاريح الدخول الجماهيرية التي منحتها إسرائيل للفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة إلى داخل إسرائيل: الأول أنّ إسرائيل تريد امتصاص الاحتقان في الضفة المحاصرة حين تنشب الحرب القادمة (الوشيكة) مع إيران وحزب الله، والاحتمال الثاني أنّ إسرائيل “معدتش تفرق معها”. بمعنى: رام الله مثل تل أبيب، حلم إسرائيل الكبرى في “كامبك” يمينيّ، وعشرات آلاف الفلسطينيين يملأون شواطئ تل أبيب الجنوبية هو منظر مُعدّ بالأساس لشعب الله المختار وليس لنا، شعب الله المحتار.
وبين هذين الاحتمالين تتراجع السياسة وتحليلاتها أمام الصّور التي أتت من البحر، بحر يافا. فرحة الطفل والمرأة والرجل بهذه “العودة” الخجلة، المترددة، المذهولة من نفسها أولا وقبل أن تكون مذهولة من آليات الاحتلال التي طبعت عشرات آلاف التصاريح في أيام العيد الداهم. سيحتاجون إلى حاويات حبر جديدة الآن في دائرة الارتباط والتنسيق.
امرأة تلعب برمل الشاطئ المبتلّ مع أخيها (ابنها؟) بتركيز كبير كأنها تعدّ حبات الرمل. أو كأنها تتعرف عليه، هذا المخلوق العجيب، رمل البحر. الرمل في الضفة المحتلة لا يأتي إلا في سياق سرقة الإسرائيليين له من أجل بناء الشقق التي سيتظاهر ضد أسعارها أبناء وأخوة وأصدقاء من يسرقون هذا الشيء الذهبيّ الشحيح في إسرائيل مؤخرًا. الصبيّ إلى جانب المرأة يصنع كومة من الرمل وهو عاري الصدر كما يليق بالرجال في البحر. المرأة بكامل لباسها الوطنيّ تقرفص عند الحافة الجميلة بين الشاطئ والبحر. منطقة الخجلى والجبناء: قليل من البحر يفرح قلب الإنسان (وكثير من اليابسة أيضًا). لا غرق اليوم فاليوم عيد. عيد بحريّ غريب.
البعض من فلسطينيي الداخل احتجّ لأنّ حجاج الشواطئ من الضفة المحتلة غزوا تل أبيب وهرتسليا ونتانيا وبيتح تكفا ولم يغزوا الناصرة والجليل “الفلسطينيين”. وأيّ تناقض أكبر من هذا لدى روّاد “اليسار الراديكالي” حين يقسّمون كامل التراب بحسب التعريفات الإسرائيلية. أرأيتم كيف تفسدون فرح البحر بغائبيه من أجل ستاتوس حذق؟
مرأة فلسطينية “مُجلببة ومُحجبة” تتخلد في صورة تحمل طفلا عابسًا (مستغربًا؟) وإلى جانبها شابة إسرائيلية بمايوه بحري زهريّ “كزهر اللوز أو أبعد”. البلاغة في الإيجاز والصورة بألف كلمة. لكن الصورة لا تختزل إلا العناوين، أما القصة الكاملة ففي صور أخرى: بحرٌ يغصُ بالمئات من الفلسطينيين في ظلّ أبنية يافا المُمكيجة بلُبس “عصرية”. قبل يومين أرتني الرفيقة رشا صورا لكورنيش عكا وقد دهمه الآلاف من فلسطينيي الجليل المُدلل بالشواطئ والبحيرة الغادرة. منظر مشابه بالتفاصيل: بحر ومئات من الفلسطينيين يؤمّونه وكأنّه عاد من هجرته القسرية. لكنّ التفاصيل تختلف أيضًا: يافا قُتلت وعكا تُجهّز للقتل، الوافدون الجليليون إلى عكا لا يحتاجون التصاريح (كما في السّابق وربما في المستقبل) لوفود عكا. هذه التفاصيل غير المملة تجعل المرء ينحاز فورًا إلى فورة الفلسطينيين في بحر يافا. الفرح الطفوليّ في تقافز خمس نساء عند الشاطئ وكأنهنّ لم يقضين فترة بلوغهنّ حتى الآن وراء الحواجز والجدران. يحبّون تسميته هنا “إسكيبيزم”. الهروب. ولمَ لا؟ قليل من الوهم والهروب لم يقتل أحدًا يومًا، وكيف يستطيع “المُدلّل” أن يفهم حرقة الماء المالح لأول مرة؟ هل تتذكرونها؟
ثلاث صبايا يلبسن الجينز الضيق وبلوزات صيفية (محتشمة) ويغطين رؤوسهنّ بغطاء “شقيّ”. لم يبلغن سنّ الزواج بعد ولذلك ما زلن يستطعن السماح لأنفسهنّ ببعض الغُنج والشقاوة قبل أن ينتقلن إلى اللباس الوطني الكامل الجاهز للزواج العفيف. وها هنّ يتمشين على شاطئ يافا بخفة ظاهرة، بأريحيّة وكأنهنّ صاحبات المكان، وُلدنَ هنا وغرسن أوتاد الذكريات في هذا الرّمل العصيّ. ما أجملهنّ!
لن أقع في فخّ الفرح الطفوليّ الغادر ولن أصدح: لقد عادوا! ملأوا الأرض وسيملأونها. لا، لم يعد أحد. لا أعرف متى قد يعود أيّ أحد. هذه ليست مقالة عن عودة الفلسطينيين إلى يافا والسّاحل الفلسطينيّ. هذه مقالة عن بحر ونساء وأطفال ورجال لم يسبق أن عملوا في جلي الصحون في تل أبيب أو في البناء في هرتسليا. هذه مقالة عن لحظة اعتيادية للغاية. لحظة سباحة في البحر. لحظة عادية حتى الدهشة.
.
27 أغسطس 2012
ياويله البحر مننا