الدين والإبداع: ما بين الوصاية والابتذال/ أنوار سرحان
يكفي أن تحفّ شاربك وتطلق لحيتك وتدسّ لفظة “حرام” سبعاً وعشرين مرة في كلّ عبارةٍ من خمس كلمات، حتى يكون لك الحقّ أن تنصّب نفسك ناطقاً بلسان “الله” تعالى- بل ومحامياً للدفاع عنه أيضاً.
الدين والإبداع: ما بين الوصاية والابتذال/ أنوار سرحان
..
|أنوار سرحان|
يكفي أن تحفّ شاربك وتطلق لحيتك وتدسّ لفظة “حرام” سبعاً وعشرين مرة في كلّ عبارةٍ من خمس كلمات، حتى يكون لك الحقّ أن تنصّب نفسك ناطقاً بلسان “الله” تعالى- بل ومحامياً للدفاع عنه أيضاً.
ويكفي بالمقابل أن تفلت لسانك بوقاحة وتجنٍّ وأن تأتي أيّ فعلٍ شاذّ مبتذل لا يمتّ للإبداع بصلةٍ، إنما تسعى فيه لتبيّن بصورة المتمرّد على الدّين أو العرف (كون السياسة لا تجد من يجرؤ التمرد عليها في زمن الخنوع)، بل ويكفي أن تدسّ أيّ لفظٍ يتعلّق بـ “الله”، “السماء” أو “القرآن” في أيّ سياقٍ غير شرعيّ (من وجهة نظر الفريق الأوّل)، حتى تضمن هجوماً يحقق لك شهرةً لم تكن لتنالها بإبداعك، ولو سعيتَ إليها ألف عامٍ مما يعدّون.
هذا ما يحدث في زمنٍ بات فيه المحسوبون على الدّين والسّاعون للوصاية عليه يمارسون تسلّطهم ليُظهروا أن دين الله هو محض قيود ٍوممنوعاتٍ، وأنّه من الضعف بما يستوجب أن يستنفروا للدفاع عنه في وجه المعتدين! باتوا يحاكمون البشر باسم الله بل ويفتون في من يستحق رحمته أو لا يستحقها (وهو القائل: “ورحمتي وسعت كلّ شيء”) وبدل أن ينشغلوا بعبادتهم وعلاقتهم مع الله إذا هم يبحثون عن أعداء مفترَضين لله ودينه، كي يحاربوهم (باسم الله ودينه)؛ لا يبحثون طبعاً عن الأعداء الحقيقيين، ولا يملكون الجرأة لقول كلمة حقّ في موضعها.. إنما يتشبّثون بكل فرصةٍ صغيرة كي يستعرضوا بطولاتهم في ميدانٍ يخلو من المبارزين.. فإذا هم ساعون لاسترجاع حقّ الله ممن تجنّى عليه..
ولطالما بحث مثل هؤلاء عن المبدعين في الكتابة أو الرسم أو التمثيل، كون الفن والإبداع دوماً مساحةً للاتهام لأنه باختصار يسعى إلى الحرية الحقيقية التي منحها الله لخلفائه على الأرض، والتي يسعى معظم المتشددين لسلبها “باسم الله ودينه”.
فلا تكاد تهدأ عاصفةٌ من الهجوم لتكفير مفكّرٍ أو كاتبٍ أو فنان حتى تهيج عواصف أخرى… وما يكاد يخمد ضجيج حول كتابٍ أو لوحةٍ أو مشروع أدبيّ أو فكريّ، حتى يتبعه هيجان على عملٍ فنيّ.. كان آخره هجوم البعض على المسلسل السوريّ “ما ملكت أيمانكم”، لا لشيء إلا لخوفهم كما يبدو، من انكشاف حقيقتهم بوضوحٍ عاريةً، وهم المنادون بشرع الله بشعاراتٍ مزيّفة، أخالهم ينقضونها بمجرد اختلاء أحدهم إلى شياطينه.
والموجع حقيقةً أنّ مثل هذا الهجوم يضيع النقدَ الفني الموضوعيّ؛ ألم يكن الأجدر مثلاً أن نسمع تساؤلاً لأحد النقاد عن صورة العراقيّ التي يبرزها المسلسل (وهو يختزل حضور الشخصية العراقية بنموذجين أوّلهما فتاة تبيع جسدها بالمال، وثانيهما شابّ لصّ ومحتال). ألم يكن الأجدر أن نسمع سؤالاً عن الموسيقى التي لا تكاد تُسمع في المسلسل أو عن الحوار وصياغته؟ أو حتى عن التحوّلات غير المنطقية في مسار الكثير من الشخصيات؟
لستُ هنا بصدد الخوض في المسلسل ونقده، كما لستُ أهدف للردّ على هؤلاء من المدّعين المشوّهين للإيمان الحقيقي والسّاعين لاختزال جاه الله سبحانه في بضع قشورٍ هي أضأل بكثير من الاتساع لمن لم تسعه الأكوان. إنما تعنيني هنا تلك الحقيقة الموجعة التي تترتب على مثل هذه الوصاية حدّ انتهاز المبتذلين لمثل هذا الواقع البغيض، فإذا أحدهم يبتذل التمّرد ابتذالاً.. ويفتعل الجرأة افتعالاً.. ويدسّ عباراته أو أفكارَه المسيئة في عملٍ ما كي يثير حفيظة “الأوصياء على الله ودينه”، بل ربّما يسعى ما وسعته الإمكانيات ليستفزّهم ويستنفر ثائرتهم حتى يهاجموه هجوماً هو في النهاية محضُ ترويجٍ له ولتفاهته. فإذا هو ينال ما حلم به من الشهرة المزيفة التي ما كان لإبداعه أن ينالها لو حوسب بموضوعيةٍ وبمعاييرَ صافيةٍ حقيقية. والنتيجة إذًا أن يختلط الحابل بالنابل، والصالح يمتزج بالطالح، فيصير سيّان من فكّر وأبدع وأنتج انطلاقاً من رؤىً حقيقيةٍ تبحّرت في الحقائق وسعَت إليها، وبين من يبتذل التمرّد بلفظةٍ أو سلوكٍ ما.. ما دام كلاهما ينال الهجومَ والمعارضة، وما دام ذاك الدفاع الساذج مجانياً وجاهزًا.
نعم.. حين يتحوّل النقد إلى معايير الدّين الضيّقة، تضيع معه إمكانيات النقد الإبداعي الحقيقي،
وبذلك يُفتعل الصّخب ذاته لمجرد مخالفة أحدهم لرؤى “الأوصياء”، والنتيجة أن يروَّج لأعمالٍ بغضّ النظر عن مستواها الإبداعي، كما حدث مع كثيرٍ من الكتابات الأدبية، لا بدءًا من “بنات الرياض” ولا انتهاء عند “برهان العسل”.
لقد بتنا نشهد سيناريو مرسوماً يكرّر نفسه في كل مرة: يتطاول أحدهم بابتذالٍ فاضح، على الذات الإلهية أوعلى القيم أوعلى الإيمان وما تبعها، لا لشيءٍ إلا ليثير غضب المحتجّين من السفهاء الذين سيسارعون إلى شتمه ورفع القضايا ضدّه، وتطريز البيانات المندّدة به، ليلوذ بالفريق المضادّ الحاضرين دوماً للتضامن المطلق معه ومع حرية الإبداع وحرية الفن والأدب، فيتناسون الحقيقة الأهم: هل قال إبداعاً أصلاً؟ وهل قدّم ما يليق ليُحسب على الفن أو الأدب أو الفكر؟ أم أنّ شعارات كلّ من الفريقين جاهزة، سواءً بالهجوم أو بالدفاع؟
هي إذًا طريق واضحةٌ لافتعال ضجيجٍ يصمّ آذاننا ويضجّ أذهاننا. نتيجته الحتمية الإساءة إلى الله ودينه، لا ممّن ابتذل التمرّد قدرما هي ممّن افتعل الوصاية.. والإساءةُ إلى الإبداع لا ممّن هاجمه وسعى لخنقه بقدر ما هي ممّن ابتذله ونسب إليه ما لا يليق به سعياً وراء هجوم فريق الأوصياء.
ولنعد للحقيقة إذًا:
إنّ المؤمن الحقيقي لا يخشى على إيمانه من شيء، كونه يقيناً بعمقه وصدقه وحقيقيّته ورسوخه. كما من حقه أن يمارس إيمانه من حقّ مخالفه ذلك أيضًا: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ”.
وإن كان أحدهم مؤمناً بحقيقةٍ ما… فذاك يعني أنه لا يخشى على هذا الإيمان إن كان حقيقياً غيرَ مشوَّهٍ ولا مفتعلاً أو مصطنَعاً كقناع. ثم إن الله العظيم أكبر من أن يظلّوا يسعون لتصويره كما لو كان غايةً في الضعف منتظراً لمساعدتهم ومؤازرتهم فينسون أنه القائل جلّ وعلا: “ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره”. فهل يرى أولئك “الأوصياء” أنّ نور الله قد يخفت لأيّ سبب مهما كان؟
فلنتصور إذًا لو أنّ السيناريو تعدّل قليلاً ورفع بعضُ ضيّقي الأفق وصايتهم عن قشور الدين.. وتركوا الإبداع يحاسَب بمعايير الإبداع وحسب. فما الذي سيتبقى من كل هذي القعقعات والقرقعات والفرقعات التي لا تعدو أن تكون صليلاً لسيوفٍ مزيّفة صدئة مهترئة؟ وكم من نجمٍ سيأفل ممّن لم يصنعه سوى شعارات الحلال والحرام والهجوم والاستنكار من جهةٍ ثمّ التضامن الفجّ من أخرى؟ وكم سيكون الربّ راضياً بأنّ عباده اعترفوا بقدره حقاً (وبكونه القوي العزيز الذي لن يبهت نورَه حرفٌ كتبه أحد المدّعين ولا عملٌ أنتجه قومٌ من الفنانين)، فابتعدوا عن دسّه في خانة أهل الذمّة لبعض الأوصياء؟
يا ريت…