مريم مش بتغني/ أحمد الزعتري
بهذه الاسطوانة، تتخلّص مريم أخيراً من تراث الشيخ إمام الذي سيطر على حفلاتها الحيّة طيلة الخمس سنوات الماضية، لتقدّم أعمالها الخاصة التي نضجت خلال هذه الفترة موسيقيّاً وتعبيريّاً، وحتى سياسيّاً.
مريم مش بتغني/ أحمد الزعتري
| أحمد الزعتري |
كانت آخر أيام حظر التجول المفروض على مصر في حزيران الماضي. وقتها، انحبس 15 شخصاً في شقّة صغيرة بوسط البلد بالقاهرة بانتظار انتهاء الحظر في الخامسة صباحاً.
في الرابعة والنصف تقريباً، كانت كل شحنات الغضب استهلكت في أغاني الشيخ إمام. وكل الانفعالات ذابت في الزجاجات الفارغة على الطاولة. وكل حديث الثورة، والثورة المضادّة، دار بين الخمسة عشر لساعات حتى فقد معناه.
كان قد مرّ على صمت المجموعة 15 دقيقة، حتى انطلق صوت “مريم” وهي نصف مستلقية لتغنّي: “ولحد إيمتى بقا، أطفي الحريق بحريق. يا سفينة متزوّقة، جوّاها ألف غريق. زهقت منِّك بقا، وحشوفلي أيّ طريق. مع إني طول الطريق، ببلع ترابك ريق”. (طول الطريق).
كان هذا الانفعال ضروريّاً لإطفاء التعبيريّة البشريّة المخذولة، وتجريد اللحظة من ضخامة القضايا العامّة.
بعد عام تقريباً على تلك السهرة التي لم يتغيّر من وقتها شيء تقريباً، تطلق مريم باكورتها “مش بغنّي” (إيقاع)، حاملة هذا البؤس الفردانيّ كمخلّص أمام غول الذاكرة الجمعيّة، والتفكير الجمعي، والأحكام الجمعيّة.
بهذه الاسطوانة، تتخلّص مريم أخيراً من تراث الشيخ إمام الذي سيطر على حفلاتها الحيّة طيلة الخمس سنوات الماضية، لتقدّم أعمالها الخاصة التي نضجت خلال هذه الفترة موسيقيّاً وتعبيريّاً، وحتى سياسيّاً.
إذاً نحن أمام تجربة متكاملة قادرة على استدراك ما يتم إهماله مِن تعلّق بالتراث، والهروب من المعاصرة باختراع المستقبل.
تنجح “مش بغنّي” باختيار الكلمات (ميدو زهير، مصطفى ابراهيم، وعمر مصطفى). وذلك بالتنبيش عن هذه المعاصرة حتى لو كانت كئيبة “احزن عشان تنبسط، وموت علشان ترتاح” (وليه تنربط). وعن الأوطان حتى لو كانت مزيّفة “دعونا نعشق وطن العك، فإذا استهلكنا لا نحتجّ” (وطن العكّ). وعن الاغتراب حتى لو كان مَرَضيّاً “عندي طول الوقت رغبة، للقعاد عالأرض وحدي. عندي طول الوقت رغبة، للسكات والقعدة وحدي”. (وحدي)
في الجانب الموسيقيّ ثمة تعمّد للصخب، وتعليب الأغاني بهاجس مريم الموسيقيّ الأول وتأثيرها الذي لا ينتهي عليها: السايكيدليك روك.
وبما أن معظم الأغاني سمعناها بنسخة أولى خلال حفلاتها في القاهرة وبيروت- مثل “إصلاحات” (إلكترونيك/ هيب هوب مع زيد حمدان)- كان إعادة توزيعها، على يد تامر أبو غزالة الذي أنتج الاسطوانة أيضاً (عدا أغنية وطن العك من توزيع يعقوب أبو غوش)، عنصراً مهماً لتشذيب بعض الأغاني. وإن لم يكن موفقاً تماماً في بعضها.
هكذا جاءت أغنية “طول الطريق” من كلمات ميدو زهير بآلتين فقط: بيانو شادي الحسينيّ، وغيتار محمد درويش، بدون زخرفة إيقاعيّة لا لزوم لها. خاصة مع صوت مريم الذي يمكن وصفه تحديداً هنا بالعاري. وكذلك أغنية “وحدي” التي أغنتها آلة الأرغول أمين شاهين بتباينها مع غيتار درويش. رغم صعود صوت مريم إلى طبقات لا يمكنها التحكّم بها تماماً. إلا أن ما يمكن اعتباره هفوة الاسطوانة، فهي أغنية “غريبة” التي أرهق تسارع اللحن صوت مريم.
ولعلّ أجمل أغاني الاسطوانة أغنية “ليه تنربط” التي لحنها تامر أبو غزالة. من خلال تعرية صوت مريم، ووضعه في المزاج-الساكيديليك- الصحيح.
هذه التوليفة تنتج، في النهاية، صوتاً استثنائيّاً وخاصّاً لا يقلّد أحداً، ولا يستولي على منصّة أحد. في عصر يزدحم بالكربونات والمنصّات.