عريشة الأسرار/ سليم سلامة
قصة قصيرة • لم يعنِ لهم الصوت شيئا سوى أن في السيارة، التي لم يروا منها إلا أضواءها، “تلاقيهم كم شب صايعين” وهذا سبب آخر ليغادروا المكان: روحوا نروّح شباب ….
عريشة الأسرار/ سليم سلامة
.
|سليم سلامة|
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يجتمعون فيها في هذا المكان. لكنها المرة الأولى التي يتغزلون فيها بقعدتهم الشهرية هذه، التي يهربون إليها كلما عادوا، نهاية الشهر، من المدينة حيث يعيشون إلى قريتهم. فلكل منهم في القرية أم وأب، وكذلك أخوة وأخوات وأقارب. كانوا يلجأون إلى قعدتهم هذه هربا من “كثر الحكي الفاضي ووجع الراس”، حتى أنهم كانوا يتمنون، لا في سرائرهم فقط، لو أنّ آباءهم وأمهاتهم لم يكونوا على قيد حياة فلا يضطرون، هم، إلى هذه الزيارات، إلا في المناسبات، السّعيدة أو الحزينة، إلى قرية لم يعودوا يطيقون شيئا فيها.
لا تلتقي دروبهم المفترقة علمًا وعملاً في المدينة، حيث يعيشون، إلا في لقاءات يشاركون فيها معًا، مع آخرين، للبحث في شؤون المجتمع والشعب. هناك، في تلك اللقاءات التي يحرصون على حضورهم القائد فيها، تجود قرائحهم بالتحليل والتعليل والتوكيل: يجب أن نفعل كذا وكذا وكذا…
ككلّ مشروع، كذلك جمعيتهم هذه تأسّست، نمت وترعرعت من فكرة لمّاعة انبثقت من دماغ أحدهم فالتفوا حولها جميعًا: سننشئ جمعية نجعلها كما عصا موسى، إذ رد على سؤال ربه بالقول: “هي عصاي، أهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى”.
يعرفون واجب الزيارة الشهرية إلى القرية بالنسبة إلى كلّ منهم. يعرفون بعضهم بعضًا من قبل، فهم ولدوا وترعرعوا في القرية ذاتها، لكن الصداقة لم تجمع بينهم من قبل، رغم الجذر الواحد الذي اشتقت منه أسماؤهم. هي صداقة نشأت بينهم محض صدفة فحسب، فوجدوا فيها ضالة منشودة في المدينة وملجأ في القرية يقضون فيه زيارات اضطرارية إليها.
- “لو صحّت هاي القعدة لغارسيا ماركيز لكتب ميتين عام من العزلة، مش ميّة واحدة!”
- “وانت الصادق، لو صحّت لأنكيدو لما أوقعت به شامات!”
- “ولو صحّت لفيفالدي لما اكتفى بالفصول الأربعة، بل كتب خامسا!”
قال مسعد، منهيا نشيد الغزل: مش عارف شو هالبلد هاي وشو هالناس؟ ما بتلحق توصل والا هاجمين عليك… اللي بدو يسألك كيف حالك، وشو بتشتغل، وليش بعدك ما تجوزت، شفلك بنت حلال، يريد أن يعرف عنك أكثر ممّا تعرف أنت عن نفسك، ولو استطاع لأبقاك جالسا قبالته فيغرقك في سيول أسئلته ومواعظه.
قال أسعد: صحّ، الحق معك… سألني جدي: وين متسهّل؟ قلت له: عَ السهل، رايح أقعد شويّ في الأرض. قال: إنت ومين، بلكي آجي معك، من زمان ما وصلتها. مش عارف شو ممكن نتخرّف أنا واياه. قلت: معلش يا جدي، رايح أنا وأصحابي.
اللقاء هذه المرة كان مختلفا تماما، وليس في موضوع السهرة فقط. لم تكن شهاداتهم الأكاديمية ومجالات تخصصهم موضوعا لحديث العريشة بينهم، إلا نادرًا. وكان استعجالهم كبيرًا في تبديل الموضوع، إن وقع. وأكثر ما كان يستهويهم من الحديث المفضل في هذه اللقاءات، دائمًا: حياة المدينة ومدى انخراطهم فيها ومشاريع جمعيتهم، بالتفاصيل، حتى لكأنما هو تلخيص يقدّمه كلّ منهم، شتاتا، عن شهر آخر انقضى في المدينة. ولم تكن دائرة الحديث بينهم تكتمل بغير “مقارنات علمية” يعقدونها بين تلك وبين حياة القرية، قريتهم التي لم يعودوا يفهمون كيف يعيش الناس فيها.
لم يحدث من قبل أن قدمت أم سعد له هذا العرض، حين همّ بمغادرة منزل والديه، نحو العريشة في السهل: خليني يمّا أعملّكو بكرَج قهوة أو شاي تتسلوا فيه. لم يفهم سبب هذا العرض غير المسبوق، لكنه ردّه بأدب: “لا يمّا فش حاجة تغلّبي حالك… ماخذين معنا شويّة بزورات وتسالي” بكفّي… ولم يزد: “وكم قنينة بيرة”، كما يقول لصديقته “بنت المدينة” حين يلتقيها في البَب في المدينة، وهو يروي عليها مغامرات لقائه الشهريّ مع صديقيه سعد وأسعد… “أنا بروح ع القرية بس عشان أشوف أمي وأبوي… حتى أخوتي وخواتي مرات كثير ما بشوفهن… ولو أمي وأبوي مش عايشين شو بوخذوني لهناك؟ بتغدرش تقعد ولا تتخرّف مع حدا… مش عارف كيف هاي الناس عايشة”. فتُبدي صديقته إعجابًا واضحًا بتأقلمه في حياة المدينة وتمازحه: “لكان ليش بيقولوا عنك فلاّح قرويستي؟”، ثم تطمئنه: “بـَس حسد وغيرة”!
هي عريشة في أرض زراعية، في سهل القرية، عمرها سنوات. بناها جدّ أسعد في أيام كان لا يزال يعمل فيها في حرث الأرض وزراعتها في النهار، ثم يعود إليها في المساء ليرتاح وليحرس الزرع، بعد أن فشل “الشرشوح” في مهمة الردع ومنع السرقات وأعمال التخريب.
قال سعد: والله ما هو قليل جدك يا أسعد… بنى عريشة طابق ثانٍ؟
وردّ أسعد: شايف هاي الغرفة اللي تحتنا قديش قديمة، جدرانها متصدعة… كنا نفوت عليها وإحنا زغار لما نيجي مع جدي وجدتي لما كانوا بعدهن يفلحوا الأرض، بس من زمااااااااان ما فتت عليها ولا شفت شو فيها… تستخدم مخزنا للمعدات والمواد الزراعية وكان فيها سرير يبدو أنّ جدي وجدتي كانا يختليان فيه… فهواء السهل، كما ترى، يفتح الشهية. بس لو عليّ، ولو جدي مش عايش، كان زمان أقنعت أبوي نبيع هالأرض ونستفيد من مصريّاتها حاجه مضمّنينها لناس يزرعوها ويفلحوها.
تبرّم سعد: وبعدين مع قصصكم البايخة؟ أنا زحمت وبدي أسيّر، مش من البيرة، من حكياتكو.
قالا: طيب، إنزل وسيّر على حكياتنا!
قال: ههييهه؟ على هامان يا فرعون، إنت واياه؟ بدكو أوقع وتضحكو عليّ؟
كان سعد يخشى، فعلا، النزول على السلّم الخشبي في تلك اللحظة، وقد شعر بتأثير البيرة بينما كان صديقاه منجرفين في الحديث الذي ألهاهما عن مجاراته في كرع البيرة (تقول المعاجم العربية: كرع (الماء!)- تناوله بِفِيهِ من موضعه من غير أَن يشرَبَ بكفَّيه ولا بإناء!)، وهو الذي لم يمتثل لقرارهما سكب البيرة في كؤوس بلاستيكية منذ سمعا تفاصيل الحادثة التي ابتلع فيها أحد معارفهم، مع البيرة، صرصارًا كان ميتا في داخل القنينة. ولم يقتنعا بتفسير سعد لهذه الواقعة: لو كان يشرب بيرة أجنبية لما حصل له ذلك.
لكن الحقيقة أنّ سعدا كان يخشى، أكثر من خطر السقوط عن السلم الخشبي، تَرْك صديقيه وحدهما. همس في روحه: “لن أتركهما وحدهما، ولو ثانية واحدة… إنهما لا يؤتمنان. لا يسلم من لسانهما أحد، في العادة. والآن، أيضا، لم يسلم أحد غيري، لأنني معهما… لا بد أن يغتابانني شرّ اغتياب إن تركتهما… وهَب أنني أستطيع استراق السمع، من تحت، فأسمع ما سيقولان فماذا عساني فاعل؟؟ لن أتركهما ولو بلتُ في سروالي، على نفسي”.
قال أسعد: سأنزل معك!
اعترض مسعد: تنزلان وتبقيانني وحدي؟… سأنزل أنا مع سعد وابقَ أنت يا أسعد، هذه أرضكم وهذه عريشتكم ونحن ضيوف عندكم.
لم يرُق هذا الاقتراح لأسعد: ولمَ أبقى وحدي وتنزلان معا؟ هل تخشيان أن أُفسد عليكما حديثا ما؟
كانت الدقائق تنصرم وسعد يجاهد أن لا يبول على نفسه: هيا ننزل ثلاثتنا معا، إذن… لم أعد أحتمل!
رفض أسعد، مُدّعيا الحرص على سلامة السلّم الخشبي الذي يستخدمه فالحو الأرض: لن يتحملنا هذا السلـّم معا… ثم، كيف سننزل معا؟ لا بد أن ننتظر حتى تطأ قدما الواحد منا الأرض حتى يضع التالي قدمه على السلـّم. سيبقى ثالث في الأعلى، بينما الآخران قد أصبحا، معا، تحت! وإنْ نزلنا معا، فكيف سنصعد معا؟ سنضطر إلى المغادرة والعودة إلى منازلنا. ثم إن البيرة قد نفدت.
“لم يبق، إذن، سوى حل أوحد: أن نقف هنا ونبول إلى تحت”- همّ مسعد بالقول، لكن سعد استبق القول وقفز من العريشة إلى الأرض… وما أن مدّ يده ليفتح سرواله، حتى قفز صديقاه، معا، ليلقاهما واقفين لصقه: لن تبول وحدك أيها الصديق!
شرع كل منهم في إفراغ مثانته، وقبل أن ينتهوا مرّت في الطريق الترابي سيارة انطلق منها صوت الأغنية:
“كانوا ثلاث رجال
تسابقوا عَ الموت
أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد
وصاروا مثل يا خال
بطول وعرض البلاد…”
لم يعنِ لهم الصوت شيئا سوى أن في السيارة، التي لم يروا منها إلا أضواءها، “تلاقيهم كم شب صايعين” وهذا سبب آخر ليغادروا المكان: روحوا نروّح شباب …. فشدّوا الخطى عائدين إلى بيوت سيقضون فيها بضع ساعات، نياما، قبل أن يودعوها إلى شهر آخر.
أنوار القرية تلوح من بعيد، لكنهم يسيرون في العتمة، يصغون إلى وقع خطاهم على التراب، فيما يحاول كل منهم التعرف على صوت خطاه هو… صدر الصوت في العتمة: “ياخي حِلّنا، في المدينة بتحكي مع الناس بفهموك… هون كل واحد عامل حاله سقراط، بشتّي عليك أخلاق”. ثم يسود صمت، يحطمه صوت آخر: “بتعرفوا، مصيبتنا إحنا، بل مأساتنا، إنه بتعرفش تحكي مع الناس هون… وان حكيت، ما حدا بفهم علينا”. ثم يسود صمت، لا ينقطع إلا وقد وصلوا إلى بيوت القرية: “تنسوش اجتماع الجمعية بعد بكرا… باي”!
24 مايو 2012
وصف رائع لشباب ضاعئع في مساحات تفكير بدون خريطه