أربعون.. ولكن..!/ أسعد موسى عودة
|أسعد موسى عَودة| كنتُ قد أعمَلتُ بالي وخيالي في موضوع […]
أربعون.. ولكن..!/ أسعد موسى عودة
|أسعد موسى عَودة|
كنتُ قد أعمَلتُ بالي وخيالي في موضوع خاصّ بعُنوان هذه الحلْقة (أربعون)، أتناول فيه سرّ هذا العدد وآثاره الإنسانيّة؛ المعنويّة والرّوحانيّة، وحضوره البارز في القرآن الكريم والأثر القديم؛ ولَطالما أجّلت نشره إلى ساعة صفاء، وسْط ازدحام العمل والدّرس والحياة. وحين سنحتْ هذه، رأيتُني مُضطرًّا إلى تأجيله مرّة أخرى؛ إذ آثرتُ التّطرُّق إلى ما هو أكثرُ إلحاحًا، إلى مقالتين نُشرتا في جريدة “حيفا” (الجمُعة، 20 نَيْسان 2012). أُولاهما لأستاذنا العزيز الپروفسور سليمان جبران، تحت عُنوان “كلُّ/كلَّ عامٍ وأنتم بخير”؛ وثانِيَتُهما للفنّان العزيز عفيف شليوط، تحت عُنوان “تسييس اللّغة ومعركة السّيطرة على الكلمات”؛ وسنبدأ مع أستاذنا الپروفسور سليمان جبران.
لقد طالعنا أستاذنا العزيز بمادّة هي، أصلًا، منشورة في كتابه القيّم والأنيق “على هامش التّجديد والتّقييد في اللّغة العربيّة المعاصرة”، الصّادر عن مجمع اللّغة العربيّة بحيفا عام 2009. وقد عالج فيها مسألة تشكيل آخِر الاسم/اللّفظة “كلّ” في الجملة عُنوان المقالة أعلاه؛ أهو بالرّفع أم بالنّصب؟ وقد خلُص في ذلك إلى ما يلي: عدم تجويز رفع آخِر “كلّ”؛ لا باعتبارها مبتدءًا مرفوعًا لخبر محذوف مقدَّر، ولا باعتبارها فاعلًا لفعل محذوف مقدَّر؛ وحتّى عدم تجويز نصبها على الظّرفيّة، باعتبارها ظرفًا لفعل محذوف مقدَّر؛ إنّما هي عنده، فقط، ظرفٌ منصوب دونما حذف أو تقدير، حيث يقول: “فلا بدّ من إعراب (كلّ) ظرفًا، دونما حذف أو تقدير، والجملة (أنتم بخير) هي الجملة الأساسيّة، هي العمدة، والواو رابط شكليّ أو زائد، لأنّ المعنى في الجملة هو أنّنا نتمنّى الخير، لمن نحيّيه بهذه التّحيّة [...] وعليه فلا فرق كبيرًا في المعنى بين التّعبير المذكور وقولنا: أنتم بخير كلّ عام، سوى أنّ التّعبير الأوّل يحمل في لغتنا المَحْكِيّة [العامّيّة] معنى الدّعاء، أي هو جملة إنشائيّة، والثّاني [–] بعد التّغيير الّذي أحدثناه فيه [–] أصبح جملة خبريّة، طبعًا [...]“. وقد ذهب أستاذنا إلى ذلك انطلاقًا من اعتباره مبنى هذه الجملة مُستقًى من اللّغة المحكيّة، وأنّنا نُقحِم تطبيق قواعد النّحْو الكلاسيكيّ على جملة تركيبتها وافدة من اللّغة المحكيّة؛ فهي ليست بالمعياريّة (الفصحى)، أصلًا، حتّى إنّ أستاذنا اعتبر (الحذف والتّقدير) مفتعلَين؛ حيث يقول: “الحذف والتّقدير [–] حتّى عند النّحاة القدامى [–] مفتعَلان في الأغلب، يستعين بهما النّحاة لتطبيق القواعد على النّصّ قسرًا [...]“. ويقول أستاذنا في الأخير: “نخلُص إلى القول إنّ (كلّ عام وأنتم بخير) جملة محكيّة المبنى، ونحْوها محكيّ، أيضًا [...] كقولنا: (ساعتين وأنا واقف) [...] لذلك يجب [تجب] قراءة (كلّ) بالنّصب باعتبارها ظرف زمان [...]“.
أوّلًا، إنّه لا علم لدينا بشيء اسمه “نحْو محكيّ” – كما يقول أستاذنا، بل إنّ هناك لغةً ومبنًى وتراكيبَ محكيّةً، وما النّحْو إلّا كلاسيكيّ معياريّ، منطقًا ومصطلحًا وضبطًا وقانونًا وتأويلًا وحرارة، وإنّه من خلاله يقوم الدّارسون – حتّى السّاعة – بمعالجة التّراكيب المحكيّة والحكم بمحكيّتها، في اللّغة المحكيّة نفسها وفي المعياريّة، أيضًا. وإنّ هذا النّحْو – وبشهادة الغريب قبل القريب – لهوَ نظام مُعجِز إلى حدّ بعيد، نراه قادرًا على تأويل الكلام المنطوق بالألفبائيّة (الأبجديّة) العربيّة وتحليله، والحكم بعربيّته أو غربته عنها، في كلّ زمان ومكان؛ فهو أشبه بأن يكون جهازها المناعيّ وحصنها الحصين. ثانيًا، إنّ ما ذهب إليه أستاذنا، أنّ تركيب هذه الجملة محكيّ خالص، لا نراه دقيقًا تمامًا؛ إذ نرى مثل هذا التّركيب في القرآن الكريم، بقوله تعالى في سورة الرّحمن – خصوصًا إذا ما اعتبرنا (الواو) في (كلّ عام وأنتم بخير) رابطًا شكليًّا أو زائدًا، كما يقول الأستاذ –: “كلَّ يومٍ هو في شأن”؛ بنصب (كلّ) على الظّرفيّة وهي مضافة، و(يوم) مضاف إليه مجرور، و(هو) في محلّ رفع مبتدأ، و(في شأن) شبه جملة في محلّ رفع خبر، وكأنّنا نقول (هو في شأنٍ كلَّ يومٍ)، ولكنّ الله اختار أن يقول – وأيًّا كانت أسباب ذلك –: “كلَّ يومٍ هو في شأنٍ”. والقرآن الكريم – كما نعلم – هو المصدر الأهمّ والأعمق والأبرز والأدقّ لقواعد النّحْو العربيّ المستنبَطة أصلًا، كما استُنبِطت بحور الشّعر العربيّ، بعد أن كانت العرب تتكلّم العربيّة نحْوًا وتقول الشّعر وزنًا على سجيّتها. ثالثًا، إنّ ما اعتبره أستاذنا واجبَ النّصب على الظّرفيّة دونما حذف أو تقدير (فعل)، لا يُمكن أن يكون من دونهما؛ ذلك لأنّ الظّرف ما هو إلّا مفعول فيه، فكيف يكون هناك مفعول من دون وجود فعل، ظاهرًا كان أو محذوفًا مقدَّرًا؟! رابعًا، إنّ تجويز ما لم يجوّزه أستاذنا في تحليل الجملة مدار البحث وشبيهاتها بشكل عامّ، ذهب إليه غيرُ واحد من علماء اللّغة الثّقات، وما جاءوا به من تحليلٍ نحْويٌّ منطقيٌّ عربيٌّ أصيلٌ مأنوس. هذا وإنّ الاختلاف – طبعًا – حقّ مكفول ومشروع، لا يُفسد للوُدّ قضيّة، والعِلم رَحِمٌ بين أهله. ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
(الكبابير/ حيفا)