جلْبَبَبة المرأة… اللغة التي لا تُفهم إلا بالمقلوب!/ مرزوق الحلبي
|مرزوق الحلبي| في مقال سابق هنا أنشأنا مقاربة في “ […]
جلْبَبَبة المرأة… اللغة التي لا تُفهم إلا بالمقلوب!/ مرزوق الحلبي
|مرزوق الحلبي|
في مقال سابق هنا أنشأنا مقاربة في “دلالات سياسات الجسد في النُظم الإسلامية” حاولنا فيها تفكيك الظاهرة من ناحيتها الحقوقية لا سيما حق الإنسان في جسده وعيله وما يعنيه هذا الحق من كرامة إنسانية. أما هذا المقال فنكرّسه لتفكيك الدلالات النفسية التي تتضمنها هذه السياسات لا سيما ما يقضي منها بحجب المرأة وجعلها ـ كما أشرنا إليه في مقالنا المذكور ـ مجرّد “نقطة سوداء سوداء”! فكيف يمكننا تأويل حجب وجه المرأة وجَلْبَبَتها وإقصائها وتغييبها؟ أما سعينا إلى الإجابة فلا يرتكز على نص أو موروث مقدّس ولا يطمح إلى إصدار “فتوى تقدمية” أو “تصحيحية” في هذا الشأن، بل إلى اجتهاد شخصي يقوم على الإرث الإنساني لاسيما نزعة الأنسنة كما نفهمها. بقي أن نشير إلى أننا نتوجّه إلى الحجاب والنقاب والجلبَبة والتسويد كفعل يشي بالأمر ذاته. فهي أفعال ونتائج تأتي ضمن النسق ذاته الذي يحكم تعامل النُظُم الإسلاموية كما هو معبّر في أدبياتها وممارساتها اليومية ونسميه نسق “حجب المرأة”. هذا، على علمنا بإمكانية إقامة الفارق بين هذا وذاك من أفعال وتأويلها تأويلات مختلفة.
التأويلات هنا تحميل الظاهرة أو الفعل أو النص وجوها ودلالات ممكنة ومقدّرة. ويكون لهذه التأويلات أصولها في المعرفة أو الحدس أو الاجتهاد. وهي إذ تبدأ في نقطة ما فإننا لا نعرف كيف وفي أي نقطة تنتهي لأن التأويل في العادة يحتمل، أيضا، تأويل التأويل.
- إن حجب المرأة يتضمن فيما يضمنه اعتبارها في أقلّ تقدير “عورة” أو “مصدر إزعاج” ينبغي التخلص منه. ويصير فعل الحجب عن نظر الرائي من خلال التغطية بالسواد فعلا بديلا للتخلص الفعلي بالقتل أو بالوأد.
- أن حجب المرأة بستار من السواد أو غيره يرمز بقوة إلى عملية السيطرة وفرض السيادة عليها وعلى جسدها. يتأكّد هذا في ضوء احتفاظ الرجل بحقه في حجبها أو كشفها وفقا لمفاهيمه هو دون استشارتها أو سؤالها.
- يتراءى للرجل الذي يحجب (وإن كان الفعل يُمكن أن يكون “احتجبت أو تحجّبت ـ فعل ذاتي من المرأة) أنه بحجب الجسد أو تمويه تضاريسه وطوبوغرافيته ومعماره إنما يحقق لنفسه نوعا من الطمأنينة إذ إنه يخدع العين الرائية والتي يُمكن أن تكون راغبة فيه أو مشتهية. وهكذا، تنتفي أي منافسة لذكورته العينية تجاه الجسد العيني وتستوي له “ملكية” هذا الجسد لوحده. وهكذا، فإنه يحفظ لنفسه الاستقرار الوجودي فيما يظنّ أنه ملكه وأنه اختبار ذكورته أو فحولته. فهو ـ هكذا يُظنّ ـ يمتلك الجسد الذي يغطيه أو أن حجبه هذا الجسد يعني أنه يؤشّر عليه كماك له وحده لا يشاركه فيه أحد ولو بنظرة. أو كما قال مرة لي صديق راحل في حمأة نقاش حاد حول المسموح أو الممنوع: “لن أقبل أبدا أن أصطحب حبيبتي أو زوجتي إلى شاطئ البحر لأني لا أريد أن يرى لحمها أحد”!
- جسد المرأة خطية الرجل التي تستدعي السُترة. ومن هنا صرفها خلف الباب والجلباب. وإذا تعسّر فخلف الحجاب أو النقاب وطبقات من الثياب والأردية. كأن مجتمع الرجال يسعى إلى التستر على خطيئته المفترضة بالأصل بجَلْبَبَة المرأة وحجبها كتجسيد حي لهذه الخطيئة. وهناك من يجعلها مطلقة بحجب المرأة عن ضوء الشمس خلف الأبواب وفي الغرف الداخلية. وهناك من يكتفي بحجب جسدها من رأسها حتى أخمص قدميها أو بحجبه بشكل شبه تام مع إبقاء العينين طالتين من شق ضيق في النقاب أو بحجب الجسد دون الوجه. ومهما تكن المساحة المحجوبة من الجسد فإن عملية الحجب تؤدي الوظائف ذاتها وتفتح الباب لكل التأويلات بخصوص كون المرأة “خطيئة” الرجل التي ينبغي اتقاء شرّها بسترها.
- عملية الحجب في بٌعدها الجندري تعني الاستحواذ الذكوري على الحيز وتشييء النساء كجزء من هذا الحيز. عملية تحقق إقصاء المرأة عن المنافسة ثم تُدرجها ضمن الحيز المُستحوذ عليه. إنها “ضمانة” لاستحواذ الرجل على الواقع والتاريخ واستملاك المرأة كأي شيء آخر ضمن الموجودات أو الموارد القائمة في الحيز. إنها عملية تكرّس سؤدد الرجل/الذكر وتفرّده في الأفعال وإبقاء دور المفعول به للمرأة.
- ما دمنا في التشييء الواقع على المرأة. فإن في الحجب تشييء بالمعكوس. فإذا افترضنا أن اقتصاد العولمة والسوق قد حوّل المرأة إلى “شيء”، إلى “موضوع”، إلى “أداة” تسويق، إلى “مبعث للمتعة” ـ متعة الرجل طبعا ـ من خلال التأكيد على بُعدها الجنساني الجسدي وما في ذلك من إثارة، فإن الحجب يلعب الدور ذاته بالمعكوس. فحجبها يحمل في طياته مفاهيم مشابهة لمفاهيم اقتصاد السوق للمرأة ـ مفاهيم تتصل بجنسها وما يُمكن أن يكون في الجنس من ملذات للرجل. حجب يشيئها بتغييبها. “هم يكشفون لحمها للإثارة ونحن نحجبه درءً لهذه الإثارة”، “هم يُبرزونها ويضعونها في الواجهة أداة للتسويق ونحن نُقصيها من الحيز العام ونحجبها عن النظر كلية”. الفرضية ذاتها عن البُعد الجنسي للمرأة مع اختلاف في تصريف الفرضية. تناقض في الفعلين والمدلول واحد. في الحالتين يتم تشييء المرأة، مرة بكشف المكون الجنسي في وجودها وجسدها ومرّة بحجبه.
- حجب المرأة في السياق الجنسي يفترض أن المرأة مثار الغرائز والطبائع الجسمانية بتضاريس جسدها وتدويراته. ويفترض، أيضا، أن كل لقاء لرجل بالمرأة ـ ولو لقاء بصريا عابرا ـ هو لقاء مشحون بالجنس والغرائز والفعل المشين والفحشاء والفجور والتهتك والانحلال ـ ومن هنا وجب حجب المرأة عن العين لمنع كل هذا. فرضية بدائية تمسّ الرجل والمرأة على السواء. فكأن الرجل ـ كل رجل ـ ذئب ما أن يرى فريسته المرأة ـ أي مرأة ـ حتى ينقض عليها فتكا وهتكا! إنها عقلية الغرائز الجسمانية ولا تسمية أخرى لها. وهي عقلية تُبقي الإنسان، من ذكر وأنثى، في إسار قصة آدم وحواء وضمن الدائرة المغلقة للغريزة لدى جلجامش! إنها عقلية تنفي صفة العقل والتعقّل والفكر والتفكّر والحضر والتحضّر عن الإنسان من رجل وامرأة.
- ما جاء في التأويل السابق يُفضي إلى تأويل آخر مفاده مقولة واضحة من الرجل عن ذاته. فهو أسير غريزته وتباريح ذكورته الدائمة لا يستطيع ضبطها أو لجمها. ضحية جنسه وفحولته الحقيقية أو المفترضة. ولأنه عاجز عن مقاومة أقلّ إغراء فإن الحلّ يكون بحجب المرأة عن عينيه أو تحويلها إلى بقعة من السواد المضبّب الذي يُخفي ما يُمكن أن يكون الإغواء وضحية الإغواء، أيضا. بمعنى أن الرجل ـ بصفته سيد مملكة الرجولة ـ يقولها للمرأة صراحة: إما أن تحتجبي وإما أني لست مسؤولا عما قد أفعله بك! “عقلية” تتستر بالدين لإخفاء بدائيتها وغرائزيتها التي تزكم الأنوف.
- استنادا إلى ما سبق، الرجل الساعي إلى حجب المرأة إنما يتهم كل رجل آخر بالتلصص على زوجته أو شريكته أو هو في حكم المعتدي الاحتمالي عليها لأنه حتما يشتهيها ويرغب بها شريكة في جماع مجنّح. بل أكثر من هذا وذاك ـ إنها معضلة وجودية تتجسد في شك الرجل بذاته إلى أبعد حدّ وشكه في الذين حوله من رجال. ففعل الحجب الذي تكون المرأة مفعول له يقول عن الفاعل أكثر بكثير مما يقوله عن ضحية الفعل. الرجل ـ الحاجب للمرأة ـ لا يثق بشريكته ولا بصديقه ولا بذاته. والنتيجة هي مملكة ينخرها الشك والهلوسة والوسواس والهجاس والعصاب. مملكة تقتل المرأة أو بسبب المرأة باعثة الشك في كل اتجاه. وما الحجب إلا تغطية لهذا البؤس والشقاء في العقلية وأنماطها.
- حجب المرأة يعكس الطوْر ـ في سلم التطور ـ الذي وصله الحاجب. فهو انشغال بالجسد يشبه إلى حدّ بعيد اشتغال المراهقين بأجسادهم بفعل الهرمون وسواه. لكن بدل ممارسة العادة السرية مثلا أو الألاعيب الجنسية نراه هنا يؤشّر إيحاء إلى انشغاله بالجسد من خلال الانشغال بجسد الجنس الآخر من خلال رسم حدوده من جديد باللباس والأردية المحددة. فهو يُبعد الشبهات عن نفسه بانشغال بجسد شريكته. وإمعانا في إبعاد الشبهات نراه يغطي المرأة بما تيسّر وزاد. كأنه يغطي جسده هو، “عيبه” هو، عاداته السرية وفانتازياته وتهويماته الجنسية وربما ساديته أو مازوخيته أو ما تعداهما من ممارسات جنسية معقّدة أخرى. ويحسب أنه سيُرى من زاويتنا ورعا أو تقيا أو ناسكا. هذا فيما يُمكن الاستدلال من فعل حجب الجسد في هذا السياق على فعل كشفه، ومن “الاحتشام” المفترض على التهتك المؤوّل. كأن الرجل/الذكر لا يتجاوز هذه المرحلة من عمره. وقد يفسّر هذا جنسانيته الاستحواذية المعبّر عنها بفعل الحجب الذي يبثّ دلالات جنسية لا نهائية.
- الحجب قد يكون إشارة انتماء للجماعة من غلوّها ـ من يمينها. فهو تأشير من الرجل أنه يدخل في الجماعة وينصهر فيها ويصيرا لحما من لحمها من خلال استعمال جسد شريكته للتعبير هن خياره. فتكون المرأة ـ حجب جسدها وجلببته ـ هدية يُقدمها الرجل للجماعة عربونا على انتمائه هو. فتصير المرأة هنا بمثابة “راية” يرفعها الرجل أو “ملصقا” يعلقه على باب بيته إعلانا للانتماء للجماعة الدينية. كأن ورع الرجل لا يتم إلى بتعليب شريكته وإخفاؤها عن العين.
- الحجب في بُعد منه يُمكن أن يكون عملية استظهار ليس إلا. من الرجل بواسطة جسد زوجته أو من المرأة تجاه مجتمعها. نوع من “أداء قسم” أو “إعلان موقف” غير حقيقي لكنه ضرورة لا يُمكن بدونها. ومن هنا فإن حجب وجه المرأة على الملأ يعني التحدث بلغة تتحدث بها الجماعة بغير إرادة الرجل والمرأة. فالحجب هنا يصير قهرا وإكراها وجبرا ـ أفعال تقزم الإنسان وتنتهك حرمات ذاته المولودة حرة!
- حجب المرأة يتغاضى كليا عن مستويات وجودها غير الجنسية أو الجسمانية. فعل يحولها إلى كائن محدود بجنسانيته غصبا عنها بحجة ـ نسمعها أحيانا ـ صونها من الأذى الجنسي. تجد المرأة نفسها كيانا جنسانيا يفخخ مملكة الذكورة الغارقة بالأزرق والليلكي والأحمر من هيجان جنسي ـ حد التحرش الجماعي العلني بالنساء في الشوارع أو اغتصابهن على الملأ. مملكة كهذه تبدو غير قادرة على الاعتراف للمرأة بإنسانيتها أو بكرامتها أو بأحلامها أو رغباتها أو إرادتها.
- حجب المرأة ـ وفق البند السابق ـ يُظهر المجتمع الذي يحجبها بغير أي قيم رغم كل ادعاءاته وتبجحه بالسير وفق الموروث والمقدس. فهو إذ لا يعترف للمرأة بإنسانيتها ولا بوجودها إلا شريكة لعملية الجنس إنما يؤشر، من حيث أدرك أو لم يُدرك، إلى حقيقة أنه مجتمع غرائزي بالفطرة يرفض أي نوع من التحضر أو التهذيب. مجتمع تفيض غرائزه عن أي بعد آخر لوجوده. مجتمع اختزل بغريزته كل كيانه إلى نزوة وشهوة ونشوة تتجسد في جسد المرأة فوجب حجب هذا الجسد لمقاومة “المارد الجنسي” وحفظه في قمقمه!
- الجسد وفق مفهوم الجَلبَبَة هو موضوع “شيطاني” ومثار “تخيلات” وتمثيلات أسطورية تستدعي إعلان الاستنفار الدائم وحشد الحواس وغير الحواس في ضبطه والسيطرة عليه لا سيما في الحيز العام حيث “التمثيلات” لا نهائية على غرار اصحابها الذين لا يُعدون ولا يحصون! وما دام من المستحيل ضبطهم وضبط “تمثيلاتهم” فإن الحلّ بقمع الجسد وإخفاء معالمه!
- الجلببة تعود إلى قصة آدم وحواء التي فسّرت ذكوريا على أن المرأة سببا في ضياع الجنة من تحت أقدام الرجال. فهي التي أوقعت آدم في حبائلها وناولته التفاحة بعد أن شلت قدرته على المقاومة وأودت به إلى التهلكة خارج الجنة. يعني، أن المرأة هي نقيض الجنة المتخيلة. هي التي أخرجت الرجل من نعيمها وهي التي قد تمنع الرجل من العودة إليها (وإن كانت الموروث الإسلامي على الأقل يعده بجنة ذروتها تلك الحوريات وما إلى ذلك!). ومن هنا هذا الحرص من الرجل في هذا النسق على التخلص من إغرائها وإغوائها وطغيانها عليه بـ “تعليبها” ولجم جسدها أو القبض عليه من خلال الجلببة والحجب على أنواعه. عقلية تقول بحتمية بقاء المرأة تحت السيطرة أو قل تحت ضربات ـ يقولون أنه ينبغي ألا تؤذي ـ الحزام أو راحة اليد أو الحذاء او ما طالته الأيدي. وإلا ـ تقول هذه العقلية ـ حرمت الرجل فرصة العودة إلى الجنة المفترضة! رواية ذكورية من أولها إلى آخرها، تخريج ممالك الرجال التي يبدو انها جادة في تطبيق أحكامها حتى النهاية. وعلى المرأة أن تكون مستعدة لتحمل عواقب فعلتها الأولى ـ التسبب في طرد آدم من نعيم الجنة!
- تزودنا المشاهدات والتجارب اليومية بأن جلبَبة المرأة قد تقع موقعا معكوسا لما هو معلن منها. فقد يتواطأ الرجل الحاجب مع المرأة المحجوبة على جعل الحجاب سترا لحقيقة ما يريده وتريده. فقد يكون الحجب في حالة كهذه تظاهرا بالاحتشام للتغطية على سلوك بالتجاه المعكوس. كأن الرجل يقول للمرأة :”تجلببي كي تنزاح العين عنكِ وافعلي بعدها ما شئتِ”. وكأن المرأة تقول للرجل: “سأحتجب حتى يحلّ الرقيب عني فأفعل ما أشاء”! فما بدأ كأنه تقيد متشدد بأحكام “شريعة متخيلة” يصير في جدلية الظاهرة عكس ما هو مُعلن. ويصير المُعلن من سلوك حركة تخلص مثالية من قبضة الرجل واستحواذه. بمعنى، أن الجلبَبة لا تربط مارد الجنس في زاويته المعتمة بل تنشر العتمة حتى تُطلقه على مداه. كجنود الوحدات القتالية الذين يرمون بقنابل الدخان حتى يهجموا كالصاعقة. وهكذا السواد هنا قد يكون إيذانا بصاعقة الجسد وجنونه وليس العكس!
- يُمكن للجلْبَبة أن تكون فعلا ضديا. فعل في اتجاه معاكس لما تعتقده الثقافة الفاعلة “غربا”. كل ما يأتي بع\ه هذا الغرب كفرا ومنكرا ولا بدّ من الإتيان بنقيضه. إذا كشف جسد المرأة غطيناه وإذا لم يحتشم في طريقة لباسها حجبناها عن النظر من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها. بمعى ما، قد تكون الجلْببة فعلا هويتيا بامتياز. فعل يدل على الثقافة المجلْبِبَة في مواجهة ثقافة “الغرب” المتخيّل. ومن عادة الهوية أن تُبنى ضديا من خلال صراع حقيقي أو متخيّل.
حصر ما لا يُحصر
هل يُمكننا أن نُجْمل هذه التأويلات أو أن نحصرها عند هذا الحدّ؟ نفترض أن الإجابة بالنفي وإن كنا نفترض أن تأويلاتنا قد تضعف كلما تقدمنا في مجاهيلها. ويقينا أن غيرنا قد يكون أنجح منّا في مواصلة ركوب موجتها أبعد مما ركبناها نحن. ومن هنا فإن محاولتنا هنا لا تقفل الباب بقدر ما تستريح عند عتبته بانتظار أحد يأخذ منا ما جمعناه ليمضي به قدما.
لقد أبدع هيجل في الحديث عن الفكرة في حركتها والظاهرة في سيرورة تطورها، وحثّ الإنسان على رؤية الظاهرة في حركتها وتحولاتها. والجلْببة كأي ظاهرة من صنع الإنسان ستظل قابلة للتحوّل مهما تكن نقطة البداية أو فرضياتها. ففيما تتسع الجلْبَبة في مواقع تنحسر في اخرى. وفيما هي تحمل هنا هذا المعنى فإنها تفقده هناك. بدلالة، أن هناك من بدأ بتحويل الجلْبَبة إلى صناعة واسعة للأزياء. وأنتجب هذه الصناعة فنونا وجنونا من خلال اللعب بالأقمشة وألوانها وتراكيبها من غطاء للرأس وتكسيم للتنانير وتضييق للفساتين وشدّ للصدور. بمعنى، أن في حركة الحياة الإنسانية أو الطبيعة الإنسانية ما يحرف الظاهرة عن مسارها كلما سنحت لها فرصة. وهذا بالتحديد ما يبشّر بقدرة الإنسان على أن يكون كذلك رغم القهر أو نزع إنسانيته بذريعة الاحتشام. فهناك مَن هو قادر تحت الجلباب على اكتشاف “الجمالي” والبحث عنه في العتمة!
تعكس الجلْبَبة نوعا من إنكار ما لا يُنكر وطمس ما لا يُطمس. فكأن فعل الجلْبَبة في ناحية منه تسترا على حقيقة الجسد وطبيعته كما انوجد وتشكّل. كأن المُجَلْبِبين يجاهدون في التستر على ما هو حقيقي وناجز ـ الجسد ـ وهنا جسد المرأة ـ كرمز لحقيقة طبيعية موضوعية تتأتي منها حقائق أخرى ككرامة الإنسان الذي يسكن هذا الجسد واحتياجات الجسد نفسه وكرامته. ثقافة مُجلبِبَة عاجزة عن التعامل مع “الحقيقة” فتسارع إلأى إنكار وجودها بالحجب أو المجاهدة في إبقائها بعيدة عن العيون. ثقافة عاجزة عن تصريف الطبيعي والتعاطي معه من منطلق الاعتراف به فتصرّفه قسرا وإكراها وإقصاء فعليا أو رمزيا. يُمكننا الاشتقاق من هذا الفعل المشحون بالدلالات أنها ثقافة عاجزة في طبيعتها عن التعامل مع الحقائق ـ أي حقائق ـ ومع حقيقتها هي فتعمد إلى الإنكار أو الحجب الفعلي والرمزي. ثقافة هاربة من حقيقتها ـ حقيقة الجسد مثلا ـ إلى سلوكيات تقادمت تضع المرأة وجسدها خارج الحيز دون أن تنتبه إلى أنها بكل أفعالها المذكورة إنما تنكشف وتكشف عجزها وهروبها وبدائيتها في التعامل مع الجسد كتجسيد لحقيقة من الحقائق الطبيعية.
الجلْبَبة فعل ينمّ عن عقلية محورها الجسد بذريعة الروح ـ المقدس والسماوي! وهي، بدل أن تطبّع العلاقة بهذا الجسد وتقرّ بحقوقه فإنها تنتج سياسات الجسد في ظاهرها إنكار له ولاحتياجاته وفي باطنها إشهار له ولجموحه. فالجلْببة ضرب من إنكار الجسد ووجوده من خلال حجبه الفعلي والرمزي، والجلْبَبة نفسها تفترض أنه قنبلة جنسية موقوتة تكاد تودي بالرجل وكيانه وطمأنينته! عقلية ـ كما أسلفنا ـ لم تغادر طور المراهقة التي تعيد الكون إلى مرحلة الهيولة ومن إغراق كيان الإنسان بعصارات وبلل ومياه وحالة من السيولة تهدد الكيان والاستقرار الوجودي للرجل فيلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ لاعتقال المرأة الهاربة مع السيولة والعصارات الجارية داخل جلبابها وحجابها والغرف المعتمة.
الرجل لم يكتف بالسيطرة على العالم بقوته الجسدية. فقد سعى إلى الهيمنة من خلال التمثيلات التي أنتجها باللغة والأدب والأساطير والمخيال المدون. فهو الذي سمى الله مثلا وهو الذي فسر النصوص بعد أن وضعها. أما وقد أفلتت النصوص منه أحيانا أو انقلبت عليه ـ كما لاحظ هيجل من قبل ـ فإنه ـ وعلى طريقة هيجل نفيه ـ يطوّر أدوات السيطرة والاستحواذ. وهنا، يصير فعل الجلْببة “لغة جسد” يتحدث بها ويسعى إلى فرض أبجديتها ونحوها وصرفها. وقد ينجح إلى حين. وفي اللغة كما في اللغة فهي دالة على مُبدعها بامتياز، على أفكاره وفرضياته ومنطلقاته وأحكامه وقيَمه وسلوكياته وثقافته. لغة تكشف هشاشة هذه الممالك الممتدة للرجولة والذكورة المهدودة الحيل من فرط اشتغالها بالجسد والتشكيك به وإنكار وجوده ومتطلباته وضبطه وسجنه ومحاولات السيطرة عليه. ولأنها ممالك للرجال وحدهم فإن الفعل لهم وحدهم يقع بحكم النوع الاجتماعي فيها على المرأة بالدرجة الأولى والأخيرة. مجتمع كهذا يقوم على غبن حقوق المرأة كإنسان متساو لا يُمكنه أن يصنع مستقبله إلا على شاكلة ماضيه في حركة تجسيد لبؤس الفلسفة وبؤس التاريخ.
لا يُقصد بجلْببة المرأة في نهاية المطاف التعفف والزهد في الانتشاء الجنسي والمعاشرة بل تسترا على ما هو حاضر وبكثافة. إذن فقد تكون “لغة” لا تُفهم إلا بالمقلوب ولا تفسّر مفرداتها وإشاراتها إلا عكس ما يظهر من الصوامت والصوائت فيها. وعليه، اقتضى التأويل!
26 أبريل 2012
رائع يا مرزوق.
لكن لا حياة لمن تنادي عند الشباب العربي (الذكور)، عل النساء هي التي تقوم بالثورة على سلطة الرجل ابو لحية. قريبا.
26 أبريل 2012
منطق..”الجلباب و قطعهم السوداء!” قد لا تفي بالغرض المطلوب كما يعتقدوا..على العكس قد تثير خيال الرجل لما تحجبه..
في هذا اللباس تحديدا-لمن يغطي وجهه-,اعترافا واضحا و فاضحا بأن المرأة ليست الا جسد و بأدق تفاصيل وجهها..
واعترافاً بأنها اداة للرجل -صاحب الشهوات الفاضحة- و أنه خارج عن طوره لأي تصرف يتصرفه امام امرأه و هذا ما يعطيه حق بهيمنته و تملكه الغبي لها..