الاستنساخ بديلاً للإبداع: الثقافة المحلية من زاوية أخرى/ أحمد إغباريّة
الثقافة التي تقطع مع تاريخها ومع تراثها مصيرها إلى زوال، هذه الثقافة المنكوبة التي تتنفس هواء غريبًا عن رئتيها، لا تصدر عن موقف حضاري، وإنما عن انفعال لحظوي قصير النفس
الاستنساخ بديلاً للإبداع: الثقافة المحلية من زاوية أخرى/ أحمد إغباريّة
.
|أحمد إغباريّة|
مدخل
تتميّز ثقافة الفلسطينيين داخل مناطق الـ48 بخصوصية عادة ما تشتق من الخصوصية السياسية التي يعيشونها، باعتبار أن الإنتاج الثقافي هو واحد من تجليات الحالة السياسية الراهنة التي ترزح تحت وطأتها هذه الجماعة. وتتلخص هذه الخصوصية بكون الجماعة المعنية هنا أقلية قومية معزولة عن عمقها الفلسطيني، تعيش على أرضها لكن داخل إطار دولة ليست لها.
وقد دأبت غالبية الأبحاث التي تناولت إشكالية الثقافة المحلية على وضعها في إطار تاريخي يتيح الوقوف على مفاصل تاريخية حاسمة كان لها شأن في تشكيل الوعي الثقافي المحلي وفي رفد عناصره، كحادثة النكبة، والحروب التي تعاقبت على المنطقة، فضلاً عن أحداث هامة كان لها وقع خاص كيوم الأرض، الانتفاضة الأولى، اتفاقيات السلام، وغير ذلك.
بيد أن ما أُقصِي إلى الآن هو تحليل الحالة الثقافية المحلية باعتبارها رهينة لواقع كولونيالي له أدواته الخاصة في صناعة المعرفة والتمكين لها من خلال تعميمها وترسيخها على كافة المستويات. وعلى هذا الاعتبار، زُجّ بالمثقف المحلي إلى أحد اثنين: إما الامتثال للوضع الكولونيالي الراهن، على كافة إملاءاته واشتراطاته، ناشدًا بذلك البقاء وشيئًا من الشهرة، وإما أن يحتفظ بوعيه الذاتي الأصيل داخلاً في حالة من الإلغاء المتبادل مع الواقع الكولونيالي يؤول به، في النهاية، إلى تضحية جسيمة تبقي عليه مغمورًا وبعيدًا عن الأضواء. من هذا الضرب الأخير لا أعرف إلا ما يعدّ على أصابع الكفّ الواحدة.
التاريخ والتراث
يعدّ أيّ استعمار موفقًا إذا نجح في إفراغ حاضر الشعب المستعمَر من ماضيه وتراثه، لأنه في هذه الحالة سيعود إلى نقطة الصفر ليتشكّل من جديد وفق مواصفات المستعمِر واحتياجاته. وبهذا المعنى نجح المستعمِر في ترسيخ هوس البدء من النكبة، وفي الإيهام أن تاريخ الفلسطينيين في الداخل يبدأ مع إشراقة دولته أو غداة تدشينها. والمثقف العربي بدوره تقبّل ذلك صاغرًا، لأن جلّ ما استطاع القيام به هو ردّ الفعل دون المبادرة إلى الفعل، فحاك خطابه انطلاقًا من حادثة النكبة، بل وارتضى لنفسه التسمية “عرب 48″. وليست هذه دعوة لإغفال النكبة من الوعي الفلسطيني التاريخي، بل هي دعوة لتفادي تحوّلها إلى خطاب معرفي استجدائي فيه احتضان حميمي للمأساة-الصدمة وإقصاء للعمق الحضاري الإسلامي، على نحو ما يفعل كل فلسطيني تقريبًا حين يقدّم نفسه على أنه ضحية ومنكوب، ويغيب عن باله، في الآن نفسه، أنه سليل الحضارات العريقة وبانيها.
واليوم، نستطيع القول بأن النكبة تشكل كابوسًا دمويًا ثقيلاً ليس فقط على المستعمِر، بل على فئة من المستعمرَين، ومنهم مثقفون بطبيعة الحال، لأن الوعي بها يستدعي الالتزام بحقيقتها كواقعة تاريخية موجعة، وهو ما يشكّل حجر عثرة في طريق اندماجهم في الحالة الثقافية الكولونيالية التي لا تقبل الآن بأقل من شطب النكبة من الوعي الثقافي المحلي.
إذا كان هذا هو الموقف من التاريخ القريب، فكيف بالنسبة للتاريخ البعيد؟
يعدّ غياب التراث والثقافة التراثية ملمحًا بارزًا من ملامح الثقافة المحلية، والتراث الذي أعنيه هنا هو تلك المدوّنة الكبرى الممتدة على طول التاريخ الإسلامي وعرضه، والذي يشمل النتاج الحضاري على اختلاف ألوانه الأدبية، الفلسفية، العلمية، العقائدية، وغيرها. وللتدقيق أكثر أقول إن من المثقفين والكتاب من يكتفي باستلهام أجزاء مأثورة من التراث الأدبي، وفي الآن نفسه، يضرب صفحًا عن بقية أجزائه التي تشكل ربما الوجه الأكثر إشراقًا فيه. وقد يبلغ التسطيح مداه حين يلهج أحدهم بأسماء لأعلام من التراث دون أدنى دراية بالنتاج الحقيقي لهذا العلم. ويحدث كذلك أن تُسمّى المدارس والمؤسسات بأسماء تراثية من العيار الثقيل تجمّلاً، وفي ذلك فصل تعسفي لهذه الشخصيات التراثية عن نتاجها، لأنها تجرّد من سياقها التاريخي والثقافي والمعرفي فتسطّح وتختزل إلى مجرّد أسماء. كما أن شوارع مدينة كحيفا قد تُسمّى بأسماء لشخصيات عربية عاشت في إسرائيل في فترة ما بعد النكبة، أو تعلّق مقطوعات شعرية لهذه الشخصيات أو أقوال مأثورة عنها في الأماكن العامة كتعبير صادق عن ثقافة المرحلة بحرّاسها ومريديها، وذلك خلافًا لما كان معمولاً به في فترة ما قبل النكبة حيث الأسماء المعتمدة عادة ما كانت تحمل طابعًا تراثيًا.
بالجملة أقول بأن الثقافة المحلية ضربت قطيعة معرفية مَرَضية مع التراث، فأضحت الحساسية به ثانوية وواهية، وهي إن وجدت فإنما تقتصر على بعض المحفوظات الأدبية المدرسية، وفي بعض الأحيان، على تحجيمه أو حتى تفريغه من مضمونه. والمثقف المحلي يتعامل مع الحضارة الإسلامية على أنها حضارة شعر وأدب، مدبرًا عن أجزائها الأكثر نصاعة، كالفلسفة والعلم، واللذين بفضلهما صار للإسلام دور في صناعة التاريخ الإنساني وفي ما اصطلح على تسميته بـ”النهضة الأوروبية”. إذ للفلسفة والعلم طابع شمولي يجعل من عملية انتقالهما عبر الحضارات أمرًا ممكنًا وطبيعيًا. والمثقف المحلي الذي يكتفي ببعض المحفوظات التراثية، الأدبية على وجه التحديد، ينساق في ذلك طوعًا وراء النظرة الاستشراقية الكلاسيكية التي ترفض التعاطي مع التراث بكليته وشموليته بدعوى التخصص الذي يمزّق أوصال التراث ويفصل بين علومه حتى تبدو غريبة عن بعضها. إن إخفاق المثقفين المحليين في فتح علاقة صحية وفاعلة مع التراث ماثل في كل ما يسطرون. وربّ قائل يقول: بوسع رواية كـ”المتشائل” أن تفنّد هذه المزاعم، بدليل أنها عمل أدبي نموذجي في توظيفه للتراث وفي تواصلها معه، من جهة، وفي شمولية طرحها للواقع الفلسطيني المعاصر، من جهة أخرى.
بصرف النظر عن الحفاوة التي قوبلت بها هذه الرواية عربيًا وعبرانيًا، فنحن نقول، أولاً، بأن هذه الرواية بالذات نموذجية في تسطيحها للتراث، لأنها استعارت منه اللغة دون المضمون، وهو أمر لا يستعصي حتى على كاتب مستجدّ يسعى إلى تطوير موهبته من خلال محاكاة لغة الآخرين، فكيف بالنسبة “للعتاة”؟! وثانيًا، حتى لو سلّمنا بأنّ هذه الرواية نجحت باستلهام التراث، فهي في النهاية رواية سعت للتنظير لنموذج العربي المتواطئ الذي يضحي بأصالته كي يحوز على رضا المستعمِر. والرواية بهذا المعنى قدّمت خدمة جليلة للمستعمِر الذي أثاب صاحبها بسخاء غير مسبوق وبشهرة عزّ نظيرها.
الاستنساخ بديلاً للإبداع
بوعي أو بدونه، بات المستعمَر معلقًا في الهواء، مهيّأً ليصبح أي شيء وجاهزًا لاستقبال ما يملأ فراغه الثقافي به. والثقافة التي أعنيها هنا هي الثقافة التراثية التي جاهد المستعمِر من أجل تشويهها أو استئصالها من الوعي الثقافي للمستعمَر نظرًا لمركزيتها في بنية الثقافة العربية. وقد نجح في مسعاه هذا أيّما نجاح، لأن سيطرته لم تقتصر على الأرض بل تعدتها إلى سريرة المستعمَر وإلى ملاذه الروحي الآمن- الهوية. وربّ معاند يقول بأن للمستعمَرين تاريخًا مشتركًا، دشنته النكبة، يصلح ليكون ذاكرة جماعية وضمانًا يحفظ اللحمة الاجتماعية من أي تمزّق أو تحلل قد ينتابها وأساسًا لموقف سياسي مستقبلي. والحق أن ذاكرة قصيرة كهذه تصلح لبلورة موقف سياسي مرحلي، فيما الذاكرة البعيدة- التراث تصلح لبلورة موقف حضاري وثقافي يشكّل أرضًا صلبة أمام نوازل التاريخ، وهو ما يفتقده الفلسطينيون عمومًا. إذ أن التبعية للمستعمِر وافتتاح التاريخ الفلسطيني بالنكبة أضاع مركز الثقل الحضاري، وأخلّ، بالتالي، بتوازنات الهوية الثقافية للمستعمَر التي أضحت هشة، مختزلة ومعزولة عن ينابيعها التراثية.
إن الذات التي خسرت أهم مركب في تكوينها الثقافي، وهو المركب الذي يجعل منها ذاتًا خلاقة في التاريخ، لا تلبث تبحث عن بدائل أخرى، وكثيرًا ما تستعين بالثقافات الجاهزة وبالتجارب المعلّبة الوافدة عليها من مواقع مختلفة بغرض التعويض. واللجوء إلى هذه الثقافات عادة ما يتمّ بطريق القرصنة، إذ يمكن للمستعمَر المنكسر أن يستعير لغة، أو عادة، أو عرفًا وينسبها لنفسه. وللمستعمِر نفسه تجربة شبيهة بهذه حين بدأ من الصفر هو الآخر، وهو دأب كل من يبدأ هذه البداية، لأنه يتحوّل إلى “قرصان ثقافي”، علمًا أن “القراصنة” متفاوتون في ذكائهم، فبعضهم يعبّ من مصادر تقليدية مألوفة، وبعضهم أحذق لأنه ينهل من مصادر محجوبة ليست في متناول اليد. أما المشترك الوحيد بينهم فكونهم يمثلون مشاريع فردية وذاتية، ويربؤون بأنفسهم عن أيّة حالة ثقافية جماعية قادرة على الالتحام بقضيتهم أو قل على اللحاق بها.
إجمالاً لهذه النقطة أقول بأن الوضع الكولونيالي أفضى إلى عُنّة إبداعية بدورها أفضت إلى تطوير آليات كتابية، كالاستنساخ، واعتمادها بديلاً عن الإبداع. وحتى لا يقع القارئ في لبس مفاهيمي، فإن الاستنساخ هنا ليس صنوًا لمفهوم “التناصّ” الدارج بكثرة في أدبيات النقد الحديث، والذي يشير إلى مثاقفة حيوية بين نصين أو أكثر؛ بل هو أقرب ما يكون إلى “السرقة الأدبية” التي درج استخدامها في النقد العربي القديم بمعناها السلبي.
يتجلى الاستنساخ الأدبي والفني على نحو سافر في المسرح المحلي أكثر من غيره، هذا المسرح هو أشبه بمصنع مضرب عن التصنيع، ولكنه يعيد تغليف ما قد غلّف وعُلّب أساسًا. في القصة والرواية يقوم الأدباء المحليون، على الغالب، باستنساخ نماذج قائمة، وذلك إما بعفوية تفسرها هيمنة هذه النماذج وحضورها القوي في وعيهم إلى درجة أنهم حين يكتبون لا يفرقون بين ما لهم وما لغيرهم؛ وإما بدراية تامة يبررها تداعي المنظومة الأخلاقية، وهي تلك المنظومة التي كان الكاتب الحقيقي يحتكم إليها كلما شعر بأنه قد انحرف عن براءة التجربة. وفي كل الأحوال، فإن سطوة النماذج القائمة، عربية كانت أو غربية، تعني أن ذات الكاتب المحلي رهينة لوضع كولونيالي يحول دون انطلاقها وتألقها، ويؤدي إلى انكسارها أمام جدران الإبداع التي عبثًا يحاول اختراقها.
أما الشاعر المحلي، فكثيرًا ما ينأى بنفسه عن ولوج الشعر من خلال التجربة، وعوضًا عنها يؤثر الوصف والمناسبة، لأن التجربة تتطلب منه مصداقية وجرأة في التعبير، فيما المناسبة تظل وسيلة المستعمَر الفضلى في التملق والتزلّف. وهو إن شاء امتلاك الشعر من بوابة التجربة، تراه يتمزّق بين نماذج ثلاثة تتنازعه مثلما تتنازع على وجدانه وقريحته: هيمنة السحر البياني الذي يمارسه نموذج محمود درويش؛ نزعة التمرّد الذي تثيره شطحات أدونيس؛ وما يستنسخه (هو) خفية من تجارب ثقافية وافدة. والشعراء المحليون طبقات يتوزعون وفق المعادلة الثقافية التي يرتؤونها، لكنهم في النهاية ينقلون أكثر مما يبدعون، ويستنسخون أكثر مما يولّدون. وأنا لا أعيب على شاعر محلي قراءته لمحمود درويش أو أدونيس أو سواهما من الشعراء العرب أو اليهود أو العالميين، بل هذا ضروري من أجل صقل الموهبة وشحذها بالتجارب السابقة، وإنما أعيب عليه عجزه عن تجاوز هذه النماذج، وافتقاده لمرجعية فكرية جادة، وعدم قدرته على امتلاك خصوصية تؤهله لكي يكون مبدعًا حقيقيًا يشار إليه بالبنان. في ظروف كهذه، تتضخم الساحة الأدبية وتتخم بالشعراء المتشابهين، فيتكاثرون بدون ضابط معقول ويعجز الباحث عن إحصائهم. وتبعًا لذلك، يتدفق شعرهم الغثّ كالإسهال، لأنه يعبّر عن كثرة مرضية تطالع القارئ المحلي صباح مساء، في الصحف والمجلات، في دور النشر والمواقع الإلكترونية، أحيانًا بدعم مباشر من جهات حكومية، وأحيانًا أخرى من جهات حزبية. ومردّ هذا الإسفاف الثقافي هو فقدان الشعر هيبته إلى درجة أن كل شخص يستطيع، من حيث المبدأ، أن يكون شاعرًا. فخلافًا للحركات الأدبية في البلدان العربية، حيث احتراف الكتابة وامتهان الشعر، على العموم، من الأمور التي يحسب لها حساب ولا تزال تحاط بشيء من الهيبة تنأى بها عن الهواة والعابثين؛ نجد أن مؤهلات الكاتب المحلي، أديبًا كان أو ناقدًا، لا تتعدى على الغالب أساسيات القراءة والكتابة، الإلمام ببعض المحفوظات، فضلاً عن التقرّب من أحد محرري الأدب في هذه الصحيفة أو تلك المجلة أو ذلك الموقع.
أما النقد المحلي، فعلاقته بالأدب طردية عكسية، فعلى كثرة الأدباء المحليين نجد أن النقاد هم أندر من الكبريت الأحمر، ينحصر دورهم في دائرة العلاقات الشخصية والمجاملات، وكثيرًا ما تكون مناهجهم النقدية مستنسخة عن تلك المعمول بها عند النقاد العرب اللامعين، لا سيّما من تلك البلدان العربية التي تصل مطبوعاتها إلى إسرائيل.
العقل المرحلي
الثقافة المحلية، على العموم، هي ثقافة تلقّي يقتصر دورها على الاستهلاك وعلى الاستجابة الآنية للحدث، وهذا نابع من كونها ثقافة أفراد لا ثقافة جماعة، وثقافة رد فعل لا ثقافة مبادرة أو خلق أو بناء استراتيجيات بعيدة المدى. وهي على الدوام تتشكل وتتقلب وتغيّر جلدها بما يتناسب والمرحلة، أو كلما طرأ جديد على الساحة من حرب، أو مجزرة، أو انتفاضة أو مبادرة سلام. ورد الفعل، والحالة تلك، لا يمكن أن يكون إلا انفعاليًا قصير المدى يزول عندما تهدأ العواطف. الأدب بدوره كان متجاوبًا مع هذه اللعبة، ذلك أن أكثر ما يميزه، في السياق الثقافي المحلي، هو مرحليته وزوال تأثيره بزوال المرحلة أو الحادثة التي بررت وجوده. وهو في أحسن أحواله وثيقة تاريخية مصبوغة ببعض الماكياج الأدبي، لكن أيّة مساحيق تجميلية مهما بلغت من قدرة على الإبهار والمخاتلة لا تلبث تزول. فالأدب الذي كتب في فترة الحكم العسكري، على سبيل المثال، كان محكومًا بشروط تلك المرحلة وانتهت فاعليته الفنيّة بزوالها. هو الحال بالنسبة لأدب الانتفاضة الأولى، الذي عبّر بدوره عن حقبة مغايرة وكان نتاجًا لشروط تاريخية مختلفة، كلما تقادم عليه الزمن تراجعت مكانته من الوعي الثقافي المحلي.
ليست ثقافة رد الفعل إلا ثقافة الإنسان السلبي غير الفاعل في التاريخ، والمصدوم السائر على غير هدى ودونما بوصلة حضارية، لأنه منزوع الماضي ومنزوع الرؤية المستقبلية الاستشرافية. والهامش الوحيد الذي يتاح له اللعب فيه هو الحاضر المتملص والهلامي، والذي لا ناقة له ولا بعير في صياغته أو في توجيهه. ومَثَل المثقف المحلي كمثل طائر قُصّت جناحاه ففقد ميزته كطائر قبل أن يفقد الأجواء التي اعتاد على التحليق فيها والتألق في أنحائها، ليس له إلا أن يداري الواقع وأن يركن لإملاءاته، ويلجأ، بالتالي، إلى أنماط سلوكية تتصف بالبراغماتية والذرائعية والنفعية تسوّغ له عدم الالتزام بمنظومة أخلاقية بعينها باعتبار أنه ضحية تحيق بها ظروف قهرية، وشيئًا فشيئًا يصبح مساهمًا رئيسيًا في تثبيت هذا الوضع وفي إضفاء الشرعية عليه.
إن الثقافة التي تقطع مع تاريخها ومع تراثها مصيرها إلى زوال، هذه الثقافة المنكوبة التي تتنفس هواء غريبًا عن رئتيها، لا تصدر عن موقف حضاري، وإنما عن انفعال لحظوي قصير النفس، لا يمكن لها أن تبلور موقفًا حضاريًا ما لم ترتد إلى حالة من التوازن تضمن استعادة الذاكرة المستلبة بكليتها. والمطلوب منها، أولاً، أن تعي الحالة الكولونيالية بكافة حيثياتها وتجلياتها، ثم يتوجب عليها، تاليًا، أن تطوّر وعيًا قادرًا على تجاوز هذه الحالة، عند ذلك ستكون الطريق مفتوحة نحو تأسيس ثقافة أصيلة وملهمة لكل مبدع ومثقف.
(عن مجلة “جدل”)
18 مارس 2012
شكراً أخ أحمد على هذه المقالة يعطيك العافية, تحليل جيد للواقع الثقافي الذي نعيشه.
لكن هناك سبب مركزي لحالة الإنقطاع عن إمتدادنا الثقافي الإسلامي يعود مصدره الى انه ومن بقى في الداخل الفلسطيني بعد التطهير العرقي هو بمعظمه عبارة عن مجتمع قروي نتاج سياسة تجهيل عثماني وتهميش الإنتداب البريطاني. جدّي وجدّك كان أساس اهتمامهم المعزاي بدون علاقة للمشروع الصهيوني.
- كان أوجب ان تستحضر أمثال جدية من المتشائل ولا تكتفي بجملة مثل أنها “استعارت منه اللغة دون المضمون”, ثم انه لا يمكن اختزال اميل حبيبي بالمتشائل. في كل الأحوال LIKE