كرز سليم البيك: قصص الغريب ونسائه اللواتي يتكرّرن!/ رشاد أبو شاور
|رشاد أبو شاور| من قبل قرأت لسليم البيك كتابه “خط […]
كرز سليم البيك: قصص الغريب ونسائه اللواتي يتكرّرن!/ رشاد أبو شاور
|رشاد أبو شاور|
من قبل قرأت لسليم البيك كتابه “خطايا لاجئ”، ولم يتح لي أن أكتب عنه، ربما لأنه ليس رواية، ولا قصصا قصيرة، ولا مذكرات، و.. ربما لأنني انشغلت كما يحدث عادة، ثمّ وجدت أن الوقت قد فات، وأن الأفضل أن أنتظر لأرى ما الكتاب الثاني لسليم.. الكتاب الذي سيُقدمه، كون الكتاب الأول نبه إليه، وبشّر به، وإن لم يحدد له هوية أدبية.
سليم كاتب نشيط، وموقعه “حرية” لطيف وجذّاب وناعم و”مشغول”، وهو بعيد عن الأنانية، فهو يكرّم كتابا وفنانين وفنانات.. كثيرين، ينوّه بأعمالهم، يعرّف بهم، باختصار يخدمهم بودّ، ويتصرف معهم وكأنهم “عائلته”، رغم أنّ بعضهم رحل، وبعضهم وبعضهن يعشن ويعيشون في أمكنة متباعدة، ولعله أحيانا لا يعرفهم، ولم يلتق بهم وبهنّ من قبل.
بكتابه الجديد “كرز.. أو فاكهة حمراء بالتشيزكيك”، الفائز بمسابقة الكاتب الشاب للعام 2010 من مؤسسة عبد المحسن القطان، يكون سليم قد جاء محملاً بقصص فيها من نعومة ولون وطعم الكرز. تلك الفاكهة “المخملية” اللطيفة اللذيذة، والمكتوبة بشاعرية تناسبها، كونها تعبّر عن “دواخل” شاب من هذا الجيل، في هذا الزمان مع ملاحظة أنه في أمكنة لا هوية لها.
الكاتب سليم البيك فلسطيني، لجأت أسرته من بلدتها الجليلية ترشيحا إلى لبنان، وهو كما أعرف يعمل ويعيش منذ سنوات في الإمارات.
هذه الملاحظة هامة للقارئ، وهي تكشف عن “سّر” عدم تحديد المكان في القصص، ولعل ذلك يعود إلى أنّ “لابطل” هذه القصص يعيش في المكان من دون أن يعيش المكان فيه. فما دام بلا وطن، فكل الأمكنة تتشابه خاصة وهي، غالبا، لا تمنحه إلاّ القليل من إمكانية “التواصل”، ويستحيل أن تكون بديلاً.
شاعرية القصص لا تنبع من جمال الأمكنة، أو تناغم الحياة، وحلاوتها، و”كرزيتها” الباذخة، ولكنها تنبع من “رؤية” الشخصية التي تتكرّر في النصوص ـوهذا اقرب إلى وصفهاـ التي تتكرر، أو تتلاحق، والتي بطلها هو نفسه، بينما النساء فيها يتتابعن، بمزايا قليلة، واختلافات غير ذات شأن، ولذا فهن لا يتركن أثرًا كبيرًا في نفس “سارد” النصوص، أو القصص الناعمة الرشيقة، سوى لذة عابرة، وشغف يتبدّد، وفراق هو الخاتمة التي تفسح لحكاية أخرى لا تشفي من فشل ما سبقها، ولا تروي عطش الملهوف الملول، المصاب بالسأم من هكذا حياة، لا مكان فيها، والزمان الذي يتبدّد فيها لا يمنح أملاً ولا راحة ولا بهجة، ولا حلما بتكوين أسرة بعد حكاية حبّ حقيقية مثمرة.
لا يكتب سليم البيك قصصا ذات حبكة وحدث مفصلي، تدور في أمكنة بعينها، وتنتهي نهايات حاسمة في حياة أبطالها، فتغيّرهم، وتنتقل بهم من حال إلى حال. خلف النصوص أقرأ: الغربة؛ لوعتها، حرقتها، جدبها، عدم جدواها، نفيها، خساراتها…
يعوّض سليم عن شقاء هذه الغربة المركبّة: في لبنان، ومن بعد الإمارات، باستعادة “لهجة” ترشيحا، مسقط رأس أبيه وأمه، وحيث لم يعش تلك اللهجة التي التقطها من معايشة أهله في المخيم، رغم أضواء بيروت. واللهجة هنا كأنما تستحضر أصحابها بكلّ ما تعنيه تلك الاستعادة.
هل يستحضر سليم “المرأة” تعويضا عن الحرمان، وانغلاق آفاق الحياة حيث يعيش؟ هل “يخترع” نساءً يتمنى لو التقاهنّ في الواقع الذي لن يوجدن فيه، ولن يوجدن؟
تساءلت كثيرا وأنا اقرأ نصوص هذا الكاتب الشاب، وتساءلت أيضا عن كيف يفهم هو وأمثاله من الكتّاب الشباب فن القصة القصيرة، وأين يفترقون عمّن سبقهم من أجيال الكتاب العرب الذين أسسوا وأصلوا وطوروا وجدّدوا.
دائما اقتنعت، وبالممارسة، بأنّ بين القصة القصيرة والقصيدة وشائج قربى، وأقصد القصيدة الحديثة، قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر. ولعلّ هذا يتبدّى في قصائد شعراء ما بعد التفعيلة، يتقدّمهم أمجد ناصر في نصوصه الشعرية الأخيرة التي يُطلق عليها “الكتلة”، حيث الحكاية شفيفة يحملها شعر أنيق جماليته لا تغيّب “طيف” الحكاية، بل تمتزج بها. وهذا آخر ما بلغته قصيدة النثر، وهنا تلتقي بها نصوص القصّة الشعرية الحديثة، كالتي يكتبها سليم البيك.
في نصوص سليم حسيّة منعشة، غير صادمة، حتى وإن بدت كذلك، لأنها غير مقحمة، وبعيدة عن الافتعال، والرغبة في الإثارة. وهذا يتوقف على المتلقي إن كان متسامحا، فإن لم يكن، فلربما يرى فيها “فجورا” و”مروقا”، الخ…
في النص الأخير “هكذا تنتهي القصص” ينتهي الأمر بالبطل الذي يروي القصص بضمير الأنا، وهو ما يمكنه من التعبير عن ذاته، وهواجسه، ومشاعره، ورؤيته للعلاقة بالمرأة، وحتى فهمه لفن القص، ويمكنه ذلك من النجاة بنصه عن الاستطراد والسرد البطيء، ويمنحه المبرر الفنّي لاستخدام المونولوغ الداخلي.
في هذه القصة نلتقي بالشخص الذي لا نعرف اسمه، والذي التقيناه في النصوص السابقة، وهو في الطائرة، يتلصص على فخذي امرأة في المقعد المجاور، رغم أنها بجوار زوجها شبه النائم.
يرتجل “لا بطل” القصة قصة حول المرأة، وانطلاقا من فخذيها، ورغبته… ثم تنتهي القصة حين تغطي المرأة فخذيها وتنام، كونها غير معنية بما يدور في نفس هذا الشاب الفضوليّ، ولا تعنيها هواجسه ورغباته التي لا علم لها بها أصلاً: “ألقت المرأة الغطاء على ساقيها فخنقتهما، وهدأ إلى أن تلاشى الوهج المتطاير حول ركبتيها. أسندت رأسها إلى الخلف وأغمضت عينيها. أغلقت الكتاب حينها، وقلت: إن القصة.. ستنتهي هنا.” (ص122)
وهنا أتوقف لأقول: هذه نصوص قصصية رشيقة، تبشر بكاتب يبدع نصوصه بريشة فنان، بأناقة وبذوق رفيع. ولي أن أسأل أخيرا: ثمّ ماذا سيبدع سليم في آتيات الأيام، وإلى أين سيتجه؟ وهل سيكون أسير هذا النوع من الكتابة، أم إنه سيكتب تجربته في الغربة، ولوعة حنينه إلى “المكان” الذي ولد محروما منه.. وكيف؟! فلننتظر…
(صدرت المجموعة عن الدار الأهلية ـ عمّان عام 2011؛ عن القدس العربي)