تداعيات حرة/ هشام روحانا
تعابير الألم المثلوم عن الوجه مع العنق الممدود على مداه والمحاصر بكفّ بيضاء قوية يذكرني بحصان بيكاسو في جداريته غرنيكا، رمز الإنسانية المعذبة تحت القصف النازي لبلدة غرنيكا
تداعيات حرة/ هشام روحانا
.
|هشام روحانا|
حاز المصوّر الصحفي سامويل أرنادا على الجائزة السنوية الخامسة والخمسين للصور الصحفية العالمية لعام 2011 . وهي من مجموعة للصور العديدة التي التقطها خلال تغطيته للثورة الشعبية في اليمن تحت عنوان “اليمن: المعركة من أجل التغير”. تم التقاط الصورة والتي تُظهر امرأة تحتضن شابًا داخل مسجد اُستعمل كمشفى ميدانيّ، أُصيب إثر الصدامات التي وقعت في 15/10/2011 في صنعاء (يتبين لاحقا أنها صورة لأم وابنها). في معرض تقريظه للصّورة قال إيدان سوليفان رئيس اللجنة: “تظهر الصورة الفائزة بشكل لاذع لحظة مليئة بالرّحمة هي نتاج إنسانيّ لحدث عظيم ما زال مستمرًا”.
حضور وغياب
هي صورة للجّسد العاري الملقى في حضن أم رءوف، وفي الجسد المعذب روح توّاقة للحرية تواجه العنف المسلح بصدرها العاري، إلا أننا لا نستطيع التعرف على مقدار الألم أو الأثر المُحبِط للمهانة في هذا الوجه، الذي وبقوة اليد ذات الكفّ الأبيض، يُوجَه في عكس اتجاه العين الناظرة فلا سبيل لها لأن ترى. وخلف الحجاب هناك وجه آخر ليست لنا المقدرة على النفاذ إلى تقاسيم العاطفة فيه. حضورٌ للأقنعة المُمَوهة والمُمِوهة وتغيبٌ للذات والاسم.
انكفاء وانبساط
في مسار ملائم للعقل المتمركز أوروبيا أُطلق اسم ألبييتا العربية Pieta` Arabica على هذه الصورة، في إحالة إلى منحوتة مايكل أنجلو الشهيرة والتي تظهر جسد المسيح المسجى في حضن والدته مريم. على أنّ الحركة الداخلية للشخوص اليمنية تشكل حركة دائرية مغلقة للوجهين والجسدين والأذرع في انكفاء نحو الداخل، تقابلها حركة دائرية مفتوحة نحو الأعلى في منحوتة أنجلو. انكفاء مقابل انبساط.
عُنقان
تعابير الألم المثلوم عن الوجه مع العنق الممدود على مداه والمحاصر بكفّ بيضاء قوية يذكرني بحصان بيكاسو في جداريته غرنيكا، رمز الإنسانية المعذبة تحت القصف النازي لبلدة غرنيكا الباسكية أثناء الحرب الأهلية الأسبانية ويرمز الحصان الذبيح إلى معانة هذه الإنسانية ويرمز عنقه المقطوع إلى الحربة في جسد المسيح وفمه الصارخ إلى معانته.
Anamorphosis والنقلة الضرورية
Anamorphosis وبترجمة حرة “الصورة المشوّهة” هي آلية فنية معروفة منذ العصور الوسطى، حيث يلجأ الفنان إلى رسم شكل ما، داخل لوحته المتناسقة، ليبدو للناظر إلى اللوحة من الأمام وكأنه شكل ليس بذي معنى مباشر أو بذي صورة محددة. على أنّ هذا الشكل المُشوّه لا يظهر على حقيقته إلا لمن يتخذ زاوية غير اعتيادية للنظر إلى اللوحة مستعينا في بعض الأحيان بعدسة زجاجية خاصة. هناك إذًا حاجة للخروج من موقع زاوية النظر المعتادة إلى موقع آخر غير الذي ألفته لكي تتبين لك حقيقة ما أنت ناظر إليه!
خذ مثلا لوحة الفنان هانس هولباين الابن، “السفراء”. هناك في الجزء السفلي الأوسط شكل ما، مشوه يبدو وكأنه سطح عاكس للضوء، إلا انك إذا ما اتخذت موقعاً آخر للنظر مستعيناً بعدسة خاصة يتبين لك أنّ هذا الشكل ما هو إلا رسم لجمجمة بشرية في رمز إلى الموت الذي يهدد حياة الإنسان على هذه الأرض.
قد يحتاج الوجدان الغربي إلى مثل هذه النقلة حين ينظر إلى هذه الصورة للأم اليمنية كاملة التحجب وهي تحضن ابنها المصاب. هناك ألم وحسرة ولوعة يغيبها حضور الحجاب الذي لا يراه الآخر إلا تهديداً لحضارته وقيمها. هي إذا بقعة سوداء تُخفي معناً ما مستتراً، لا تستطيع عينه الولوج إليها إلا بخروجه من تنميط يقولب وجدانه.
التجاوز نحو الإطار
حين تتمم الذات الناظرة إلى هذه الصورة نقلتها الضرورية فإنها تكون قد انتقلت من تلك البقعة العمياء في الصورة إلى إطارها، أي من مجرد رؤية الصورة إلى إدراكها من خلال تلك الرؤية المضاعفة التي تهيئ لاستقبال ذهني/عاطفي ينتج ما هو في مجال الرمزي. والرمزي هو هنا المقدس، أي تلك اللوعة الكسيرة لأم يؤتى بابنها إليها، جسداً عارياً كما ولدته هي.
(الكرمل حيفا)