في وصف عكا: لناصر علوي
وحين يذهب المسافر من عكة ناحية المشرق، يجد جبلاً به مشاهد الأنبياء عليهم السلام
في وصف عكا: لناصر علوي
ما بين عامي 437 هـ ( 1046 م) – 444 هـ ( 1053م) جال صاحب الرحلة الشاعر الفارسي المتفلسف ناصر خسرو علوي بلاد الشرق القديم، وكان من أعيان الدولة السلجوقية، مبتدئًا من مرو في إيران، قاصدًا الحج، مارًا بآذربيجان وأرمينية والشام وفلسطين ومصر والحجاز ونجد والعراق ثم انتهى عائدًا إلى مدينة بلخ في خراسان، وقد حفظ لنا التاريخ رحلته التي كان لوصف مصر فيها النصيب الأكبر، حيث أقام فيها ناصر خسرو قرابة الثلاثة أعوام في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، لكنه وإن كان وصفه لمصر الفاطمية هو العام والغالب على رحلته، إلا أنه وصف كذلك فلسطين التي دخلها قبل أن يهبط مصر، وفي وصفه لفلسطين يبدو ولعه بالمشاهد المختلفة وخاصة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين ويحفظ لنا وصفه الدقيق أسماء قرى ومشاهد دينية اندثرت الآن وصارت خرابًا.
ويقع وصف الشام وفلسطين في 48 صفحة من الترجمة الصادرة عن سلسلة الألف كتاب الثاني التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب بمصر، وهي الترجمة التي قام بها المرحوم د/ يحيى الخشاب في عام 1943 وقدم لها المرحوم د/ عبدالوهاب عزام، ويقع وصف عكا في صفحتين أو تزيدان قليلاً من الكتاب، ولأهمية النص التاريخية أنقله بتمامه عن ترجمة د/ الخشاب ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الكتاب ويقرأه كاملاً ففيه الإفادة والاستزادة.
قال الشاعر الفارسي والرحالة ناصر خسرو علوي في وصف رحلته إلى عكا:
“بعد أن سرنا سبعة فراسخ من صور، بلغنا عكا، وتكتب هناك (مدينة عكة)، وهي مشيدة على مرتفع بعضه من أرض وعرة وبعضه سهل، ولم تشيد المدينة في الوادي المنخفض مخافة غلبة ماء البحر عليها، وخشية أمواجه التي تعج على الساحل. ومسجد الجمعة وسط المدينة، وهو أعلى مبانيها وأعمدتها كلها من الرخام.
ويقع قبر صالح النبي عليه السلام خارجه، على يمين القبلة، وساحته بعض من الحجر والبعض الآخر مزروع، ويقال إنّ آدم عليه السلام كان يزرع هناك. ومسحت المدينة فكان طولها ألفي ذراع[1] وعرضها خمسمائة، وبها قلعة غاية في الإحكام، يطل جانباها الغربي والجنوبي على البحر، وعلى الأخير ميناء، ومعظم مدن الساحل كذلك.
والميناء اسم يطلق على الجهة التي بنيت للمحافظة على السفن، وهي تشبه “الاسطبل”، وظهرها ناحية المدينة وحائطاها داخلان في البحر، وعلى امتدادهما مدخل مفتوح طوله خمسون ذراعًا، وقد شدت السلاسل بين الحائطين، فإذا أريد إدخال سفينة إلى الميناء أرخيت السلسلة حتى تغوص في الماء فتمر السفينة فوقها، ثم تشد حتى لا يستطيع عدو أن يقصدها بسوء.
وعند الباب الشرقي، على اليد اليسرى، عين يصلون إلى مائها بنزول ست وعشرين درجة وتسمى عين البقر، ويقال إن آدم عليه السلام هو الذي كشفها، وكان يسقي منها بقرته، ولذا سميت عين البقر[2].
وحين يذهب المسافر من عكة ناحية المشرق، يجد جبلاً به مشاهد الأنبياء عليهم السلام، وهذا الجبل واقع على جانب الطريق المؤدي إلى الرملة، وقد عزمت على التبرك بزيارة هذه المشاهد والتقرب إلى الله تبارك وتعالى.
وقد قال سكان عكا إن في الطريق أشرارًا يتعرضون لمن يرون من الغرباء وينهبونهم، فأودعت نفقتي بمسجدها وخرجت من بابها الشرقي يوم السبت الثالث والعشرين من شعبان سنة 438 (5 مارس 1047).
وقد زرت، في اليوم الأول، قبر عكّ، باني المدينة، وهو أحد الصالحين الأولياء، وكنت حائرًا إذ لم يكن معي دليل يرشدني، وفجأة تعرفتُ، في اليوم نفسه، بفضل من الله تبارك وتعالى، برجل من العجم أتى من أذربيجان للتبرك بزيارة المشاهد مرة أخرى، فشكرت الله تبارك وتعالى هبته، وصليت ركعتين، وسجدت له شكرًا على توفيقه إياي لأفي بعزمي، ثم بلغت قرية تسمى بروة وزرت قبر عيش وشمعون عليهما السلام.
ومن هناك بلغت مفارك التي تسمى دامون فزرت المشهد المعروف بقبر ذي الكفل عليه السلام[3]، ثم واصلت السير إلى قرية أخرى تسمى آعبلين وبها قبر هود عليه السلام فزرته وكان بحظيرته شجرة الخرتوت، وكذلك زرت هناك قبر النبي عزير عليه السلام.
ثم يممت وجهي شطر الجنوب فبلغت قرية تسمى حظيرة، وفي الجانب الغربي منها واد به عين ماء عذب، تخرج من الصخر، وقد بني أمامها مسجد على الصخر به بيتان صخريان فوقهما سقف من الحجر أيضًا، وعليهما باب صغير يستطيع الزائر دخوله بصعوبة، وهناك قبران متجاوران أحدهما شعيب عليه السلام والثاني قبر ابنته التي كانت زوج موسى عليه السلام.
ويعنى أهل القرية بهذا المسجد عناية فائقة من تنظيف وإنارة وغير ذلك، ومن هناك بلغت قرية تسمى أربل، في ناحية القبلة منها جبل في وسطه حظيرة بها أربعة قبور لأربعة من أبناء يعقوب، وأخوة يوسف عليهم السلام، وذهبت من هناك فرأيت تلاً من تحته غار فيه قبر أم موسى عليه السلام فزرته.
ثم خرجت فبدا لي واد في آخره بحر صغير، طوله ستة فراسخ[4] وعرضه ثلاثة وماؤه عذب لذيذ، وتقع غربيه مدينة طبرية، وتصرف في هذا البحر كل مياه الحمامات وفضلات المدينة وكذلك يشرب منه سكانها وسكان الولاية التي على شاطئه، وسمعت أن أميرًا دخل هذه المدينة ذات مرة فأمر بسد قنوات القاذورات والماء الملوث حتى لا تفضي إلى البحر، فنتن ماؤه وأصبح لا يصلح للشرب، فأمر ثانية بفتح هذه القنوات فعاد ماء البحر عذبًا “
ثم يصف ناصر خسرو مدينة طبرية وتجواله فيها ثم رحلة عودته إلى مدينة عكا ومروره في الطريق بقبر أبي هريرة وعدم استطاعته زيارته لأنّ السكان هناك كانوا من الشيعة فإذا دخل القرية غريب كان يجتمع عليه أطفالها بالحجارة، ومروره كذلك بقرية كفر كنه وبجانبها تل عليه صومعة بها قبر يونس عليه السلام، ثم مغادرته عكا بعد قضاء يوم واحد فيها إلى قرية يُقال لها حيفا.”
ويبدو أنّ حيفا كانت مجرد قرية وقتها.
ويمضي في رحلته في ربوع فلسطين حتى بلوغه القدس واصفًا كلّ مدينة وقرية ومشهد يمر به بكل دقة.
(مع الشكر لياسر عبدالله)
[1] في المعجم الوسيط أن الذراع مقياس أشهر أنواعه الذراع الهاشمية ومقدراها 32 اصبعًا أو 64 سنتيمترًا وعليه تكون مساحة المدينة وقتها 0.4 كيلومترًا مربعًا وهي بلا شك مدينة كبيرة بمقاييس ذلك العصر.
[2] قال المترجم د/ يحيى الخشاب رحمه الله ” كانت مكانًا مقدسًا عن المسلمين والنصارى واليهود، وقد بنى المسلمون عندها جامعًا باسم علي بن أبي طالب، وقد تكلم عنها ابن جبير – في رحلته – ، وياقوت – في معجم البلدان – ، والقزويني في عجائب المخلوقات”
[3] قال المترجم د/ يحيى الخشاب رحمه الله ” ابن أيوب، قصص الأنبياء لابن إسحق أحمد صـ 129-130 طبعة مصر “
[4] الفرسخ ثلاثة أميال.