ذاكرة مهربة بحقيبة Louis Vuitton/ راجي بطحيش
المفاجأة ستكون عندما أكتشف أنّ كافة حساباتي التي بنيت عليها عملي هي خاطئة من أساسها لأكتشف متأخرا جدا أن هنالك بالفعل جنة وجهنم! وأن الله يقيم حفل شواء للخاطئين وعيونهم جاحظة!
ذاكرة مهربة بحقيبة Louis Vuitton/ راجي بطحيش
.
|راجي بطحيش|
“سخرية ممزوجة بمرارة والقليل من الشعور بالعجز والإشفاق على الذات، وبالطبع الشبق والشرّ والرغبة بارتكاب جريمة لا تترك أثارًا، أضف إلى كل ذلك الافتتان بالموت ووقوف طويل قرب هاوية ما. إنها بحق قاعدة جيدة لكتابة نصّ لا بأس به!”
هذا ما كتبته في صفحتي الفيسبوكية صباح اثنين ماطر. لم يُعجب أحد بذلك… خافوا من الحزن، خاف أصدقائي من البؤس. أصدقائي الافتراضيون بالطبع. والحق يقال إنني لم أشعر بالوحدة وقتها، ادّخرت ذاك الشعور لهراء أهمّ. سأحاول أن أفكك بعض التعابير علها تصبح أكثر يسراً:
سخرية: أدخل إلى السرير وحدي (يا للتجديد)، أزيل عن سطح الفرشة أشلاء جميع الأطفال الذين قتلوا اليوم وكذلك بقايا الجثث المتفحمة وتلك التي شطرها القصف إلى نصفين لا وسط لهما (أو هذا ما يبدو عبر القنوات الإخبارية). إذًا أنظف السرير من بقع الدم والزلال البشريّ. يجثم شيء ثقيلا كقالب الحديد على صدري. أستسلم لفكرته. لا زال نفس الحلم يراودني ولكن هذه المرة بتحسين مفصليّ. تذكرة الشام أصبحت في جيبي ولكن عليّ أن أقرر إذا كنت سأذهب أم لا. أسأل رجاء غانم فتجيبني بثقة: فاتك قطار الضوء، انتظر قطار العتمة. أقرّر في الحلم ألا أذهب. أستيقظ في الصباح -على فكرة لم أعانِ أرقًا من مشهد الجثث- ما يجثم على صدري ليس قالبًا حديديًا معنويًا، إنها القطة البيضاء المرقطة التي قررت وحدها قبل خمس سنين أن تقطن معي حتى إنني نسيت أن أطلق عليها اسمًا، وها هي تجلس على أعلى صدري وتتأمّلني. أزيحها عن صدري وأشعل التلفزيون وسيجارتي والمدفأة والنار تحت القهوة. تجلس المرقطة قرب المدفأة. ثم أقول لها: سأغير المحطة… لم يتم تجهيز الجثث الجديدة بعد.
مرارة: ظننتُ أنّ المال الذي حولته لحسابي سيكفي لسنين طويلة وها هو ينفد بعد أربعة شهور؛ أنّ الصمت الذي يسود الآن وفي هذه اللحظة أبديّ ولن يتم انتهاكه بأيّ حال من الأحوال؛ أنّ السكينة هي القاعدة والجنون هو مجرد خطأ تخطيطي غير مقصود؛ وأنني سأفوز بجائزة لم أرشح نفسي لها؛ متى سأكفّ عن الظنّ؟
عجز: نجلس أنا وأمي أمام الشاشة. أسألها: ماذا طهوت اليوم يا أمي، وكأنّ الطهي هو ما سيحفظ الذاكرة، تلك الذاكرة الهاربة المتسربة الزئبقية… الذاكرة التي بيننا. ما تعرفه أمي عني وما أظن أنها لا تعرفه. كانت أمي تشاهد الرجال داخل عينيّ وهم يُثبتون ربطة عنقهم ويربطون أحذيتهم ويهرولون تاركين عصائر جذوتهم على حافة خاصرتي إلى بيوتهم ومباريات صمتهم. أسأل أمي مجدّدا: ماذا طهوت اليوم يا أمي، وكأنّ الطهي هو ما يحفظ الذاكرة؛ ذاكرة الذنب والخوف. ذاكرة الفرار من البيت عن طريق الفرار إليه. أغيّر السّؤال: هل تذكرين عندما فررت بتوب مار مطانس، وكأنّ أمي تجيبني ما بالك تصارع ذاكرتي… إنها لي وأنا حرة بشأنها. أم أنك تخاف ألا أتذكرك يومًا؟ أنظر إلى الشاشة.. كم من الأشخاص يموتون ويتعذبون في هذه اللحظة التي تثرثر فيها.
إشفاق على الذات: دبوس “البيرسينج” الذي كنت أخطط لثبيته عند أطراف حاجبي الأيمن فات أوانه. إنفجر هراء السنين في وجهي فجأة، كما أنهم أغلقوا شارع “شنكين” من أجل التنقيب عن مني خصب التربة ثم ذاب. كما أنّ الشعر الفضي الناعم والبدن الذي ينتظر لحظة مواتية لذبوله يستدعي قوانين طبيعية للوقار.
شبق: دائمًا ما أسأل نفسي ماذا يتبقى لي من أجساد الآخرين. منذ النفس الأول الذي اخترق زفيري وأنا في الخامسة عشر، عرفت وقتها أنّ دقات القلب المتدافعة تلك لم تكن سوى مسيرة كشفية تزفني إلى جنة “الخطيئة” الموصودة حيث لا عودة منها.. كما يُزف الشهيد إلى تفسيرات اللقب وإسقاطات مصير نهائيّ لم يسعَ إليه وهو يتحسّس سخونة الدّم الفار من جسده، يتحسّس الشهيد القادم جسده ليتأكد أنه لا يزال مُمسكًا باللحظة الأخيرة قبل أن يسلمها لبؤس الآخرين في بحثهم عن معنى… أتحسّس جسدي بعد كل جماع (عابر عادة). أقف أمام المرآة وأتحسّس جسدي وتغريني فكرة أنه تغير قليلا بعد تماجنه الأخير أو بعد محصلة ما فعل.. وما فُعل به. بالتأكيد تغيّر شيء في زاوية انزلاق الظهر كما اتسعت المسافة بين الفخذين قليلا، أما الساقين فقد تضاءلتا عمّا كانتا عليه.. والشفة أصبحت أهم وهنالك آثار أصابع غريبة عند أعلى العنق كما أنّ حافة الأذن اليمنى ما فتئتْ تحتفل بانتصاراتها. وهنالك شعر رمادي غريب (ليس شعري) يتساقط على شالي الصوفي -كيف وصل إلى هناك؟- أنظر إلى كفة يدي! هل تخمرت آثار ضغط الكفة القوية في ولوجي.. هناك. هنالك ما لا أراه في المرآة. العطر الزائر الذي سيلتصق ببدني وبعض ملابسي حتى الموعد الجديد! كما لا يمكنني مشاهدة صوت أنفاس الموت تلك الصادرة عن جسد الشارب الهرم وهو يعتذر دامعًا على فوات الأوان!
شر: (ملانخوليا) أو كمن يرى الدمار في نهاية النفق حيث أن نهاية النفق قريبة (لماذا نمشي دائما في نفق وليس تحت سماء سوداء مرصعة بالنجوم والكواكب الغريبة التي تمتلك مصائرنا أو هكذا يستهوينا ان نعتقد)… (ملانخوليا) أو كمن يرى الدمار قريبا فيعجل منه… يقوم بكافة الإجراءات المطلوبة من أجل دمار لائق وأنيق. ها أنا أخطو تجاه الدمار بخطى ثابتة، واثقة، مترفعة عن ملذات الدنيا –باستثناء الجنس- ها أنا أخطو بوعي خلاق نحو الفقر (أبذر كل ما أملك وما لا أملك باسم ربنا يسوع المسيح) كما أخطو نحو المرض (أكشف صدري لريح مثلجة قادمة من هضاب الفناء المُحرج) كما أخطو بعزم نحو دراماتيكية الانتحار(من دون القيام به)!
جريمة: المفاجأة ستكون عندما أكتشف أنّ كافة حساباتي التي بنيت عليها عملي هي خاطئة من أساسها لأكتشف متأخرا جدا أن هنالك بالفعل جنة وجهنم! وأن الله يقيم حفل شواء للخاطئين وعيونهم جاحظة!
موت/هاوية: “كيكار همديناه”*- لم أتجول فيه سوى مرة واحدة أو ربما مررت من هنا بالسيارة منذ أن انتقلت للعمل هنا. أقف أمام حانوت يعرض بدلة دولتشي آند جبانا” للأطفال بـ 5000 دولار، لن اشتريها لأبني. الأطفال السوريون الميتون مرتبون داخل الإطار كقالب البقلاوة. دكانBurberry حقيبة بـ 2700 دولار وفستان للبنات بـ 1000 دولار… بعد شهرين لن يتبقى لي من المال ما يكفي لشراء جورب مستعمل بـ 3 شيكلات. أمرّ عبر حانوت Louis Vuitton، حقيبة يد قبيحة للرجال بـ 56547 شيكلا. ذاكرة أمي المنسحبة وذاكرة خوفي من وعيها.. فستان kenzo بمبلغ مستحيل.. وحانوت يثبت دبابيس بيرسنج من… من ماس ربما… كنزة صوفيةOscar de la-renta بـ 2005 دولارات.. رائحة العطر الغريب لا تفارق ياقة معطفي. تخلو السّاحة من النسوة والشبان وتكاد تقتصر على الرجال المسنين الذين يتجولون مع كلابهم بسلاسل ذهبية وساعات يد لا تقدر بثمن. تقف كل مرة سيارة مرسيدس أو ياجوار تلمع على الرغم من الشتاء. يخرج منها المزيد من الرجال والكلاب. أتوقف فجأة قرب حانوت يعرض جزمة لطفل ذكر كما يبدو فإنّ ثمنها 4500 شيكل. لماذا لا أقدم نفسي لهؤلاء المسنين اليهود على طبق من الكنافة النصراوية بالفستق الحلبي المسحوق… ليحّل كل شيء؟
.
• كيكار همديناه- أو ميدان الدولة بالعربية، هو ميدان يقع على أطراف أحياء تل أبيب الشمالية الثرية ويتميز بحوانيته التي تعرض البضائع الثمينة بتوقيع أشهر المصممين العالميين، ولا يقصد هذا الميدان سوى القلة من النخبة، كما يشتهر الميدان بالتصميمات “الفاقعة” من القطع المعروضة للبيع نسبة لروّاده من محدثي النعمة.