ما المقولة في انتحار فرَنسوا أبو سالم؟/ مجد كيّال
بدأت بكتابة هذه المادة بعد أيام قليلة من انتحار الفنان فرَنسوا أبو سالم، وشاء الحظ لها أن تبقى مخبأةً لأشهرٍ طويلة، تستفز التفكير فتخضع للتعديل. أنشرها الآن، أولا لأن انتحار فنان حالة أكبر بكثير من حدث صحافي ينتهي بعد الجنازة، والحديث فيه لا يتطلب مناسبة. وثانيًا لأنّ السؤال الذي يدور في أساسها أتسع أكبر بكثير فلم تعد هذه المادة المتواضعة تحتمل كل جوانبه
ما المقولة في انتحار فرَنسوا أبو سالم؟/ مجد كيّال
.
|مجد كيّال|
ما المقولة في انتحار فرَنسوا أبو سالم؟ إنه سؤال مفتوح لكل جهات الريح، يحتمل إجابات أكثر مما يحتمل أي تعقيد مسرحيّ. إنها حبكة غير قابلة للحل، لأنّ في حالات الموت عامةً هناك ما يحتوي القيمة المطلقة التي يشكل فهمها غايةً للسباق الأبدي لأي عملٍ فنّي وأدبي؛ حياة الإنسان. إذًا، لا يمكن لأحد أن يدّعي فهم إقدام فرَنسوا على الإنتحار فهماً كاملاً، لأن أحداً لا يمكنه أن يدّعي فهم الإنسان -أي إنسان، وفرَنسوا خاصةً- بكامل حذافيره وجوانبه.
لا يمكن اتهام مجموعة ما بدفع فرَنسوا إلى الإنتحار، ولا أن نحصر الحدث في حالة الرجل العصبية أو النفسية، لا يمكن أن نشير إلى حدثٍ بعينه، ولا إلى تساؤلات وجودية أدّت به إلى اختيار الموت. ومع هذا، نحن نبحث عن مقولةٍ ما في هذا الموت؛ فما الذي يدفعنا، بهذه القوة، لنحمّل موت هذا الفنّان معانيَ عميقة، بدلاً من الإستسلام لعجزنا عن امتلاك الحقيقة التي مرّت في ذهنه وهو يسقط من علِ؟
لعلّ موت المبدع الصادق لا يمكن إلا أن يجمع كل خيوط إنتاجه الإبداعي، هذا الموت يستخلص جوهر حياة هذا الفنّان الإبداعية. هذا السّؤال عن الموت هو أحد الوسائل الأكثر ألماً للسؤال عن الحياة. هل يمكن للفنان الصادق أو الأديب الصادق أن يموت ميتةً لا علاقة لها بمضمون عمله؟ أميل للإجابة بالنفي.
ما المقولة في انتحار فرَنسوا أبو سالم؟ يمكنك إمّا أن تكون إنساناً يطرح هذا السؤال، أو إنساناً لا يطرحه، والفرق شاسع. يطرح هذا السؤال من يؤمن بأنّ العمل الإبداعي لا بدّ أن يكون وريداً من جسد مؤلفه، وجعاً جميلاً متصلاً بحياته وقصّته متبلوراً من خلال عملية إنتاجٍ قاسية يُستأصل خلالها هذا الجزء من جسد المؤلّف، حتّى تنضج حالة اغترابٍ تتيح قسطاً من العلاج الموضوعي للعمل، ومن ثم تقديمه للناس. وليس إنتحار فرَنسوا إلا العملية الكُبرى التي يستأصل فيها كل القصة من كل الجسد، فكيف لا نبحث فيها عن العبرة الأكبر؟
ولكن لدينا في الوقت ذاته النقيض التام، أولئك الذين لا يريدون طرح السؤال. الموت بالنسبة لهم حالة غير مرتبطة بالقيمة الإبداعية التي قدّمها الميّت. لدينا، كما في كل مكان آخر في العالم، من لم يعايشوا تجربة الألم في ولادة الإنتاج. العملية عكسية؛ هناك من لا تحرّكه إلا اعتبارات خارجية (وبالأحرى، اعتبارات ماديّة تتنكر بزيّ الموضوعية) وتدفعه للعمل على إنتاجٍ يغذّيه مادةً ونفوذاً وشُهرة. هؤلاء لا يمكنهم السّؤال عن المقولة في الموت لأنهم لا يشتغلون باستخلاص المقولة من الحياة، بل يشتغلون ببناء حياتهم على حسابها.
إنه الفرق بين البحث في وعي المقاومة والاستشهاد، وبين ابتذال شعارات فارغة عن أنّ شعبنا سئم الموت ويريد أن يعيش كيفما كان… إنه الفرق بين ثقافة فلسطين، وبين ثقافة أوسلو!
وعلينا أن نوضّح أننا لا نقصد بالضرورة عطاء الفنّان بعلاقته الشخصية بالناس أو حتى بالنشاط الثقافي المحيط به. أنا لم أعرف فرَنسوا معرفةً قريبة، ولا أعرف صفاته الشخصية، والذي أعرفه عن فرَنسوا هو ما شاهدته على خشبة المسرح. ولكن هذا لا يعنينا في التنقيب عن القيمة الفنية للحدث، فما نقصده هو عطاء الفنّان بعلاقته مع إنتاجه وأعماله.
من مشاهدة أعمال فرَنسوا يمكننا استعارة أدوات البحث عن المقولة؛ الأسباب المباشرة والحالة العينية التي أدت به إلى لحظة الانتحار هي آخر ما يجب السؤال عنه. النص مركّب وجنوني وسريع يدخلك في متاهاتٍ لا تعرف كيف تخرج منها إلى أخرى. ولكن الفعل! هو وحده ما يتحدث عن الحقيقة.
علينا أن نسأل أنفسنا الآن، كيف يمكن فهم هذا الفعل -فعل انتحار فرَنسوا- في سياق ثقافي فلسطيني، ولكن قبل هذا، هل يجوز أن نمرّ مر الكرام على مصطلح “الثقافة الفلسطينية”؟ فليعذرني دعاة “الوحدة العربية” في التعاطي المرن مع هذا المصطلح الإشكالي: أي تعامل جدّي مع مفهوم “الثقافة الفلسطينية” لا بد أن يعترف ضمنياً بعدم وجود أيّ أساس لهذا المصطلح خارج سياق الاستعمار والنكبة ومشوار التحرّر الوطني الفلسطيني، ونحن لا نقصد الكليشيهات طبعاً، كما أنه سيكون من الغبي الإدعاء بأنّ أيّ عملٍ فنيّ وأدبيّ لا يعالج الحال السياسية يخرج من سياق “الثقافة الفلسطينية”، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ أيّ عمل يمتّ بصِلة للمجتمع الفلسطيني، مهما كان موضوعه، لا بد أن يتضمن، لا إرادياً، المركبات الأولى لهوية هذا المجتمع.
لذا، فمن الطبيعي أن تشكل إرادة التحرر قلباً نابضاً يشكّل هوية أي عمل يُقدم في سياق ثقافي فلسطيني، وضمانة هذه الإرادة، بما تعنيه من استعداد للتضحية والاستشهاد (بعيداً عن المعنى الديني والتقليدي للكلمة)، هي ضمانة فكرية في اللاوعي الثقافي (كحدٍّ أدنى) لصمود العمل في سياق الثقافة الفلسطينية.
ها نحن قد بدأنا نرسم ملامح المكان الذي انتمى إليه فرَنسوا: انتماء ثقافويّ للمكان والناس بالرغم من أن والديْه غريبان عن فلسطين، إنتماء لفلسطين كقيمة ثقافية فكرية تحمّل الحياة معنى نضاليًا، وتحمّل الموت معنى الحياة. ومن حقّ الجميع أن يسأل: ألا يتناقض هذا الكلام مع تعابير سياسية قدمها فرَنسوا عبر مسرحه، لا يتفق معها الكثيرون داخل فلسطين وخارجها؟ ألا يتناقض هذا الكلام مع النقد الذي وجّهه فرَنسوا في عمله الأخير “في ظلّ الشهيد…” ليس فقط للعمليات الإستشهادية بل لقيم كثيرة متعلقة بفهمنا لواجب النضال؟ لا تناقض برأيي، بل إثبات للفكرة.
أثبت فرَنسوا في نقده الذي اختلف معه الكثيرون أنه يضع الأسئلة الفلسطينية في صلب عمله، لا يحاول انكارها، ولا يحاول الابتذال في تقديمها. يتعامل بشفافية وثقة مع هذه الأسئلة من دون خوف، وكأنه يقول لنا: أنا ابن هذا النضال، ولا يمكن لأحد أن يمنعني من أن أسأل هذه الأسئلة. لنعترف أمام المرآة أننا كلنا نسأل الأسئلة ذاتها، لكن قلة منّا تجرؤ على إطلاقها. قد يختلف الكثيرون منّا مع فرَنسوا سياسياً، ولكن المشكلة أننا لم نفعل، المشكلة أننا لم نُبقِ لفرَنسوا مساحةً يعمل فيها، لكي نهاجمه حين يُخطئ.
ولكن ملامح المكان القائم قد تغيّرت، ولم يعد وعي المقاومة هو الوعي السائد في فلسطين، ولم يعد الإستعداد للتضحية شأناً طبيعياً في فلسطين. لأننا صرنا “نحب الحياة” وإن لم نستطع إليها سبيلا، المدن التي عاشها فرَنسوا تنازلت عن فكرة مقارعة الاحتلال، تنازلت عن روح الانتفاضة الأولى وغرقت في تذويت شطب البنود الكفاحية من الميثاق الوطني. لا يمكن لأيّ “ثقافة فلسطينية” بتعريفها المتواضع الذي وضعناه أن تنبت في هذه الأرض المسمّمة، لأنّ التيار الأوسلويّ الذي أتى على الأخضر واليابس في فلسطين، لم يترك فسحةً لإرادة تحرّر، ففقدت الثقافة عامودها الفقري.
تحدّثنا في الفقرات السابقة عن الإستئصال الموجع والقاسي للعمل الفني من عمق الكاتب، وهذا كلام يمكن تطبيقه مجازاً وحرفياً على مسرحية “أبو أوبو في سوق اللحامين” التي تحكي حالة الإقتتال الفلسطيني على فضلات أوسلو. لقد رواها فرَنسوا بصورة موجعة إلى حدّ القشعريرة والقرف، ليذكّر بأن الواقع مقرف فعلاً، كما نراه على الخشبة. لكن المقولة لم تكن سياسية فحسب، لأنّ أوسلو ليس فعلاً سياسيا فحسب، بل صار عقلية تسيطر على جميع أوجه الحياة الفلسطينية، تقتل الثقافة على شقي الإنقسام؛ مثلما قُتل جوليانو مير-خميس على يد وعي الخلافة الغزيّة، قتلت فرَنسوا يد السمسرة الأوسلويّة.
“نعرف أنّك متّ كمداً”، بهذه الجُملة اختتمت فرقة “الحكواتي الجديد” نعيها لمؤسّسها فرَنسوا أبو سالم. إنها الحكاية كلها؛ عاد فرَنسوا إلى فلسطين ليؤسس النقيض لوعي العصابات الأوسلوي الذي رُسّخ في مسرح الحكواتي “القديم” الذي كان قد شارك في تأسيسه، لكن الهرب الشجاع إلى المعاني المطلقة كان أكثر إغراءً لفرَنسوا من تكرار رحلة النحت في أرضنا الصخرية.
ما المقولة في انتحار فرَنسوا أبو سالم؟ هذا السؤال هو المفصلي: بين من تربطهم بالنضال لأجل الفكرة علاقة وجع إنساني، مبنية على الصدق والتضحية العنيدة.. وبين من تربطهم بالقضية علاقة منفعة ذاتية. بين من يرتبط الفكر بحياتهم حتى يصبح الموت لحظة بلوغ المعاني المطلقة، وبين من ترتبط مهنتهم بإدعاء الفن. بين من ينتمون لفلسطين كفكرة وقيمة إنسانية قائمة على التوق للحريّة، وبين من لا يربطهم بفلسطين سوى صلة الدم الرجعيّة. وهو الفرق بين خوض غمار البحث في وعي المقاومة والإستشهاد، وبين ابتذال شعارات فارغة عن أنّ شعبنا سئم الموت ويريد أن يعيش كيفما كان… إنه الفرق بين ثقافة فلسطين، وبين ثقافة أوسلو!
(حيفا)
30 يناير 2012
“هل يجوز أن نمرّ مر الكرام على مصطلح “الثقافة الفلسطينية”؟ فليعذرني دعاة “الوحدة العربية” في التعاطي المرن مع هذا المصطلح الإشكالي: أي تعامل جدّي مع مفهوم “الثقافة الفلسطينية” لا بد أن يعترف ضمنياً بعدم وجود أيّ أساس لهذا المصطلح خارج سياق الاستعمار والنكبة ومشوار التحرّر الوطني الفلسطيني”
مقال اكثر من رائع.
27 يناير 2012
المقال ذو معاني عميقة جداً لشدة عمقها لم امنع نفسي من قراءة المقال اكثر من مره، كل الاحترام