اعتذاراتُ عاشقٍ سوريّ/ علي نصوح مواسي
عذرًا للميادينِ/ للشّوارعِ والحواري والأزقّة/ لسوائلِ الأرواحِ تجري في مساماتِ إسفلتٍ وأحداقِ ترابْ
اعتذاراتُ عاشقٍ سوريّ/ علي نصوح مواسي
عذرًا خليلٌ وهبة
يقودني التّوجّسُ كلَّ يومٍ إلى افتراضيّةِ صفحتيكما
أبحثُ عنْ دليلِ حياةٍ
أو بالأحرى
لا موتَ
يعلنهُ بالأزرقِ
تعليقٌ مُفاجئْ
صارتِ الحياةُ في أمسِّ حاجَةٍ إلى شهادةٍ
تكذّبُ مشاعيّةَ الوفاة
لم تعُدْ سماؤُنا
تحتملُ المزيدَ منْ أرواحِنا
وجودُنا
صارَ
لا وجودَ
لا وجودْ
.
عذرًا لعمامةٍ حلبيّةٍ
تدلّتْ منْ خيوطها فأسُ حرفٍ
تُفَتِّتُ الأصنامَ فينا؛
صَدِأَتْ
تغلّبتْ طبائعُنا على تطبّعاتِنا
خنّا دروسَ الإمامِ الكواكبيّ
علّمنا أنّ الله نحنُ
عدلٌ
وقتلنا فينا
الإله..
.
عذرًا زكريّا تامرْ
أذني لمْ تصغِ جيّدًا لصهيلِ جوادكَ الأبيضِ يعدو في سهولِ السّياطْ
لصراخِ الدّماءِ في ربيعِ رمادِكْ؛
كانتْ منهمكةً بنعيقِ أرنبٍ
تنكّرَ بصدى الزّئيرِ
واسمِ الأسدْ
نهشَ البلدْ
حيٌّ صمدْ
أحدٌ
أحدْ
.
عذرًا سميح شقير
فتحتَ بزندِ عودِكَ نوافذَ كلِّ الشّعوبِ الصّامدة
وعندما استصرختنا
بالحروفِ الخالدة:
“افتحوا نافذتي
كيْ تدخلَ الشّمسُ إليّْ
أو فاخرجوني يا أصدقائي
ضاقت الجدرانُ
عليّْ”
تعثّرنا
تلعثمنا
تحجّرنا
وبِتْنا
وثنيَّةً جامدَة..
.
عذرًا أحمد مطر
فقوافيكَ العَذابُ مرّتْ بي خفيفةً كماكَ
أضحكتْ قلبي فكاهةٌ جارحةٌ في ترانيمِ غناكَ:
“نحنُ نرجو كلَّ منْ فيهِ بقايا خجلْ
أنْ يستقيلا
نحنُ لا نسألُكُمْ إلّا الرّحيلا
وعلى رغمِ القباحاتِ الّتي خلّفتموها
سوفَ لنْ ننسى لكمْ هذا الجميلا
ارحلوا..
أمْ تحسبونَ اللهَ لمْ يخلقْ
لنا عنكمْ بديلا؟
أيُّ إنجازٍ لديكمْ؟
هل مِنَ الصّعْبِ على القردِ إذا ملكَ المدفعَ.. أنْ يقتُلَ فيلا؟”
عذرًا
لأنّني عرفتُ
أنّكَ عندما قُلْتَ فطرِبْتُ
وانتشيتُ
قصدتَ كلَّ أصنامِ بلادي
كلّهم دونما استثناءٍ
لكنّي تغاضَيْتُ،
عذرًا إذ ضحكتُ
وضحكتُ
حتّى ثملْتُ،
وما بكيْتُ
وما نحبْتُ
وما لطمْتُ
هَزُلْتُ..
.
عذرًا حمزة الخطيب
انهمكتُ باستيعابكَ أيقونةَ عذابٍ
واكتفيتُ ببشاعةِ الشّكلِ في تفصايلِ جسدكَ
دونَ أنْ أتوقّفَ كثيرًا عندَ مضمونِ الألمْ..
.
عذرًا إبراهيم قاشوش
لسربٍ كنارٍ يحومُ في بَراحِ حنجرتِكْ
يعشّشُ في غصنٍ سماءٍ مُذْ وُجِدَتْ سماءْ
حبستهُ أقفاصُ صُمّي في دهاليزِ الصّدى عقودًا من نداءاتِ النّداءْ
وعندما طالَتْهُ شفرةُ الذّبّاحِ
أدركتُ فقطْ حينها
معنى أنْ يقاومَ وترٌ
دبّابةً
بغناءْ..
.
عذرًا زينب الحصني
انشغلتُ بسؤالِ موتكِ أو حياتكِ
عنكِ
أكذّب بكِ نظامًا أمْ أصدّقُ ثورةً
أقارعُ روايةً بروايةٍ
دونَ أنْ ألتفتَ، وَلَوْ بالقليلِ،
إليكِ
إلى سُمْرَةِ عيْنَيْكِ
رجفةِ هَدْبَيْكِ
يَباسِ شَفَتَيْكِ
إلى مجالِ حنطةٍ في جهاتِ الخدودْ
ومخارجَ حروفٍ حمصيّةٍ عتاقْ
إلى اسمكِ الّذي صارَ مقرونًا
بجثّة
.
عذرًا ساري ساعود
فكلّ أفلامِ الإثارةِ والاحجياتِ المعقّدةِ الّتي عشقتُها حدّ الادمان
لمْ تُسعِفْ خيالي في استحضارِ حبكةٍ منطقيّةٍ تفسّرُ جرحًا غائرًا أسفلَ إِبْطِكَ اليسارْ،
تَغْرَقُ في دُكْنَتِهِ مقولاتُ اليمينِ، شعاراتُ اليسارْ
العذرُ منكَ إذْ شكَكْتُ وحِرْتُ، خِفْتُ، توجّستُ، سهرتُ، فكّرتُ، بحثتُ، تلعثمتُ، تبعثرتُ، تراجعتُ،
وكدْتُ أصدّقُ نعيقَ ذابحيكَ وأكفُرُ بنفسي
حدسي
وحسّي
تساءَلتُ: كيف يمكن لسيفٍ، مهما كان كبيرًا وحقيرًا، مريرًا ونذيرًا، أنْ يرسُمَ خرائِطَ الألسِنَة،
أن يلعنَ الأمكِنَة
يُصادِرَ الأزمِنَة
فتقولُ الثّكالى ما يَرْتَضيهِ؟
العذرُ منكَ إذْ نسيتُ
أو تناسيتُ
لوهلَةٍ
قُرونًا من خرائِطَ
قُطّعَت على طرقاتِها ألسنةُ شعوبٍ كامِلَهْ
وليسَ مجرّدَ عائلهْ،
العذرُ منكَ
فذاكرتي سافِلَةٌ بنتُ سافِلَةٍ من نسلِ سافِلَهْ..
يا ابنَ أحمَدِنا المسيحِ
قتلتكَ خطايانا ألف ألف مرّةٍ
حينَ أَصْغَيْنا لعواءِ الذّئابِ في زمنِ البلابلْ
حينَ تساءلنا عَنْ طفولةٍ مقتولةٍ لا طفولةٍ تُقاتِلْ
وحينَ توقّفنا لديكَ أطولَ مِنَ المعتادِ
لا لإنسانيّةٍ نبيلةٍ مسؤولةٍ تُسائِلْ
إنّما لصليبٍ مِنْ دمعِ أمّكَ
تدلّى
ولشاشاتٍ حقيرةٍ جعلت براءتكَ طبولَ حربٍ وألويةً تُنازِلْ..
.
عذرًا زنوبيا
فتدمرُ الّتي بَنَيْتِها
رملةً رملةً
تحترقْ
.
العذرُ درعا
فأنا لمْ أعرفْ قبلَ الآنَ كَمْ تشبهينَني
لهجةً وسُمْرَةً
وإيقاعَ ريفْ:
“معليشْ درعا معليشْ.. لا تسيلْ من عيونِتْشْ دمعة / معليشْ درعا معليشْ.. لا يهمِّتْشْ بشّار وربعَهْ / خلّيه يسجن، خلّيه يعذّب، خلّيه يقتُل، خلّيه يِظْرُبْ، خلّيه يحاصرنا بالجيشْ / لَوْلادِتشْ بِتْظَلّي قلعة / قاعِدْ يِظْحَتْشْ؟! / لا يغرّتْشْ ترى شاف الظّبعة! / معليشْ درعا معليشْ.. لبّى صوتِشْ كل من سِمْعَهْ.. / قامت سوريّا مجتمعة / ولا يفرَح.. رجعة ما فيشْ / ما في رجعة.. ما في رجعة.. / جاي تْصَلِّحْ؟! / وكْ بَعديشْ وكْ بَعديشْ؟! / اسمَعْ رااااحَ اسَمْعَكْ سُمْعَة / مهما تلاقِطْ مهما تعاقِطْ / وكْ بدّكْ تسقُطْ يا ساقِطْ / بدّكْ تُسقُطْ وبِدنا نعيشْ / شوف السّاعات المرتفعة / عارف شو بتقولّكْ، ليشْ؟ / بتقول بخمسطاشْ آذارْ سقوطَكْ بلّش عنّا بدِرْعا / وكْ عرظ كتافَكْ قدّيشْ؟ / ظُبّ اغراظَكْ وامشي بسُرعة.”
.
عذرًا دمشقُ
خيولُكِ البيضاءُ تجري في دمي مُذْ أوغاريتَ
آرامَ
آشورَ
أميّة
تكتبني أبجديّاتِ شعرٍ على شُمُسِ
المَعابِدْ،
شرقٌ
ياسمينُكِ البلديُّ
يغسلني بعبيرِ الضّيا مذ رضِعْتُ الهوا
يعلّقُ النّدى في قدودِ الصّباحاتِ
قلائِدْ
عذرًا لأنّي لَمْ أدركْ نسبًا إلهيًّا بيننا
وهوًى صفاءً كحليبِ أمّي
إلّا عبرَ بثٍّ ونصٍّ شبكيٍّ في ألفيتنا الثّالثة
عذرًا
فكتبُنا المدرسيّةُ سيرُ ملوكٍ وأمراءَ
أخبارُ حروبٍ وفتوحٍ،
فِقْهٌ
سُنَنٌ
تااااااااااريخُ إسرائيلْ
.
عذرًا شآمُ
لوّنتُ جُرْحَكِ بي
لوّنتُ جُرحي بِكِ
صِرْتُكِ
تِهْتُ عنكِ
إليكِ
فالرّسمُ “شجارٌ بين الأصلِ والنّسخِ
يخسرُ فيهِ الاثنانِ شوقهما للوحدةِ
الأصلُ ورسمُ الأصلِ،
يسرقُ أحدهما مِنَ الآخرِ براعةَ تعطيلِ الصّفاتْ”1
.
عذرًا يا يومَ الجمعة
دوّناكَ في أجنداتِنا “خدرًا”
علّبناكِ في تَنَكِ القعودْ
وها أنتَ تَنْعَتِقُ
انتفاضًا
صُمودْ
.
عذرًا للميادينِ
للشّوارعِ والحواري والأزقّة
لسوائلِ الأرواحِ تجري في مساماتِ إسفلتٍ وأحداقِ ترابْ:
هنا زَحْفٌ.. هنا نِصْفٌ.. هنا ضَعْفٌ.. هنا ضِعْفٌ.. هنا خَسْفٌ.. هنا رَصْفٌ.. هنا نَشْفٌ.. هنا عَصْفٌ
هنا “مليون”!
عذرًا إذْ “شَبَحْتُ” بمسطرةِ الكمّ
كيْفا
وانهمكتُ عن الموصوفِ
أناقشُ
وَصْفا
.
عذرًا لسيّدٍ صامدٍ في الجنوبْ
قدْ أحبّتْكَ شعوبٌ
حدّ القداسَةِ
احتفلَتْ برذاذِ نجمٍ حُسينِيٍّ يلوّن معانيكَ
في لَمَعانِ عيْنَيها
صلّتْ عَلَيْكَ
كما صَلَّيْتَ عَلَيْها
عُدْ إلَيْها
ولا تنقلبْ لَدَيْها
ستأخُذ بيَدَيْكَ
وتقبّل راحَتَيْكَ
طالَما أدرَكْتَ راحَتَيْها..
.
عذرًا فلسطينُ
خمرةٌ حبّكِ
غيبةٌ حضوركِ
سُكْرٌ صوفيٌّ نفيس
وكثرٌ شيوخ البازارِ
يبيعونَ لفظكِ ويشترونَ
يقامرونَ بكِ في مَزاداتِ الكلامْ
كسِدْتِ
إلّا في روحي
وروحي لن ترضاكِ بعدَ اليومَ إلّا طازجةً من تنّورِ حُلُمي
صناعةً يدويّةً تعمّدَتْ خيوطُها برمادِ نقشٍ مسماريٍّ ينامُ
في كفِّ جدّة
تركتْ ملامحَها
على غُصْنِ حَجَلْ
أَمَلْ
.
عذرًا “لقنواتِ الفتنةِ”
عجزتْ أدمغتُنا عَنْ ابتكارِ وصفةٍ كهنوتيّةٍ تشرحُ مأساتنا
فجعلناكِ كُلَّ كُلِّ القضيّة
.
عذرًا يا شمّاعةَ المؤامرة
علّقنا عليكِ كلَّ هزائمنا
تخاذُلِنا.. تخلّفنا
أثقلناكِ بنا
أطعنا باسمكِ أولي أمرِنا
وكلّما أضاءَ نبيٌّ شمعةً في ظلامِنا
نَهَقْنا:
مؤامرة.. مؤامرة.. مؤامرة
سمحنا لكلِّ غازٍ أن يستوطنَ أعضاءَنا التّناسليّةَ
- قرونًا –
أَنْ يتغلغلَ إلى منينا
وبويضاتِ نسائنا
وعندما بدأنا نستخلصُ أكاسيرَنا مِنْ صهيلِ دمائِنا
تذكّرنا فجأةً أنَّ في معاجمنا مصطلحًا عبقريًّا
يكفِنا جُهدَ الاجتهادِ
يريحُنا
نعقنا: “تدخُّلٌ أجنبيٌّ”
شَبِقْنا
نَزِقْنا
عَرِقْنا
وصدّقنا أكاذيبنا “البيضاءَ”
ولَمْ نكتشفْ
بعدُ
أنّا سفهنا
صفقنا..
.
العذرُ قلبي
صُوَرُ الضّحايا والجنائزِ والمآتمِ
مضغتْكَ
مصّتْ سوائلكَ
صِرْتَ ملحًا
ثمَّ
على رصيفِ البُرودِ
بلغمًا
بَصَقَتْكَ
بُغتةً
كما المعتادُ
تمرُّ صورةٌ أخرى
تصرُخْ قرفًا بعدَ أَنْ تكتشفَ
- على عُجالَةٍ -
أنّها داسَتْكَ
.
العذرُ عقلي
كلُّ العذرِ مِنْكَ
فعاطفتي تغلّبَتْ بي عليكَ
كنتُ أرى الأشياءَ بِعَيْنيْ آخرينَ
لا بعينيكَ
سأفقؤُ اليومَ كلَّ عينٍ ضلَّلَتْني
وأرتدُّ إليكَ
.
العذرُ منكِ يا أمّنا المواطنة
عَجَنّاكِ قطرةً قطرةً
فلمّا تدلّيتِ ناضجةً من شجرِ الشّوارعِ
رَفَضْناكِ
قُلنا لمْ يئِنْ أوانُ الحلاوة
قرفناكِ بِنا
نثرثرُكِ
نلوكُكِ
نجترُّكِ معَ الحرّيّةِ.. المدنيّةِ.. القوميّةِ..
الوطنيّة
معَ الأمميّةِ
والقيمِ الكونيّة
عذرًا
لأنّي اكتشفتُ متأخّرًا كَمْ يهوذا اسخريوطيّ بينَ تلاميذِكِ
وكمْ جاهلِيّة
سلامٌ عليكِ
يومَ وُلدتِ
ويومَ قُتِلْتِ
ويومَ تُبْعَثينَ اليومَ حيّة،
يا
هوًى
هواءً
هويّة
مجّدي أبانا الّذي في الأنا
خلّصي
خلّصي
خلّصي
سوريّة..
1. الأديب السوريّ سليم بركات.