البطل/ هشام عبد الرّزاق
قصة قصيرة ● فجأة برز شابان في مقتبل العمر. وقفا على مقربة منّي ومن زميلتي وجهًا لوجه أمام الوزير. إلتفت أحدهما إليّ وقال بغضب شديد: “بتقدموا ورد لواحد قتل وشرّد شعبكم؟”
البطل/ هشام عبد الرّزاق
.
|هشام عبد الرّزاق|
بدأ اليوم الدراسي في مدرستي الابتدائية عاديًا. كنت وأصدقائي قد وصلنا قبل موعد قرع الجرس بنصف ساعة لنلعب ونتحدث في أمور دنيانا، كما في كل يوم. اجتمع خمسة منا في ركننا الخاص، بمحاذاة سور المدرسة، غير بعيد عن البوابة الرئيسية. وكانت البوابة أيامها ما زالت مشروع بوابة فقط، بُني إطارها من الإسمنت المسلح بالحديد، ولكن البوابة نفسها كانت بعد غائبة، ولذا كان بإمكان كل من هب ودب أن يدخل ساحة المدرسة بلا حساب. وبغياب البوابة كانت وظيفة بواب المدرسة صنع الشاي والقهوة للمعلمين ومنعنا من دخول مبنى المدرسة قبل أن يأذن الجرس بذلك، مهما كان الطقس خارجها.
كان أصدقائي في ذلك الصباح يعبّرون عن إعجابهم بعملي البطولي يوم الأمس خلال درس “الطبيعة” مع الأستاذ “م” ولن أبوح باسمه الكامل.. أولًاً احترامًا لمشاعره، ففي النهاية “من علمني حرفا كنت له عبدًا”. وثانيًا حتى لا ينتقم مني وقت الامتحان في نهاية السنة أو عند وضع العلامة النهائية.
سألني أحدهم : “ما خُفتِش؟”.
“أنا بَخَفْش!” قلت باعتداد، مع أن الحقيقة هي أني كنت أرتجف رعبًا، لكن ما لا يعلمه أصدقائي لن يضرهم.
“واللهِ إنك بطل!” قالها أحد الأصدقاء.
“إنُه تْوَقِف هيك بوِجِه عدوّك؟ هاي هي الشجاعة.. بطلْ!.. يا عمّي.. بِدْهاش حَكِي” واتسعت ابتسامتي طربًا بما قيل.
“السفاحْ! حتى البنات ما رَحَمْهِنِشْ… كل واحدة ضربها خمس عصي كاملات”.
ارتسمت على وجوهنا جميعًا علامات الغضب من جديد، فضرب الأولاد الذكور يمكن العيش معه، أما ضرب البنات فهذا لا يطاق.
“لَوِنَكْ بَسْ ما إستَنيتِشْ وعملت اللي عملته قبل ما ظربني بعصايتُه”، قال صديقي السمين الذي قلّما سمعناه يشكو من قبل، فقلت ممازحًا:
“أيْ دَشِرْنا.. ما إنتِ كُلْ يوم بتوكِلْ عُصِي وبتْفَرِقْ، شو جديد؟”
قال متحمّسًا: “عادةً بِظْرُبونِي لأنه جوابي غَلَطْ وهايْ مَعْهُمْ حق فيها والحق حق، بس إمبيرِحْ جاوَبِتْ صَحّ والحقّ كان معي، الله لا يْوَطْرِزْ لُه”.
“ولا يهِمَكْ”، قلت له، “تْعِيشْ وتوكِلْ غِيرها!”
ضحكنا جميعًا، ثمّ قرع جرس المدرسة فقمنا لنصطفّ، كلّ شعبة وطابورها. سارعت مزهوًّا ووقفت على رأس طابور شعبتي، لم يزاحمني أحد، واصطف أصدقائي ورائي.
ساد الصمت حين رأينا مدير المدرسة يعتلي ما يشبه المنصّة وبيده “مايكروفون”. لا يحدث هذا كل يوم، فقط في “عيد الشجرة” حيث يخطب فينا خطبته العصماء التي لا تتغير مع السنين. في كل سنة يحمل مايكروفونه ويقف على المنصّة، وبصوت هادئ يعيد علينا خطبته التي حفظناها جميعا “الشجرة… ذلك المخلوق الأخضر…” إلى آخر الخطبة التي تنتهي عادة بتصفيقنا الحماسي تعبيرًا عن سعادتنا بانتهاء الخطبة. إلا أنّ عيد الشجرة يصادف في شباط وليس هذا موعده. احترت ثمّ فكرت: “لعلّ المدير يريد أن يذكر حادثة الأمس بيني وبين الأستاذ “م”؟ هل سيجعلني قدوة على مثال ما حدث مع عمر بن الخطاب حين قال “صدقت امرأة وأخطأ عمر”؟ لا. لا أظن. فهو بذلك يفضح الأستاذ ويقلل من هيبة المعلمين في المدرسة. “لا.. لا، كل شيء ولا هيبة المعلمين!” ثمّ أني لست امراة، وبعيد هو عن عمر بعد الثرى من الثريّا.
رفع المدير مايكروفونه إلى فمه وتنحنح، وبعد ديباجة “أبنائي الطلبة” و”العلم يبني بيوتًا لا عماد لها”، أعلمنا أن هناك زائرًا مهمًا جدًا سيزور المدرسة في الأسبوع القادم، لذلك ينبغي علينا، ومن اليوم، أن نساعد على بقاء المدرسة نظيفة، فإنّ “النظافة من الإيمان.. ومن رأى منكم ورقة على الأرض فليلتقطها”. وهكذا شرح لنا أكثر من خمس عشرة دقيقة أهمية النظافة، والأهمّ منها زائرنا المرتقب. ثم أومأ لنا بالدخول إلى غرف التدريس من دون أن يذكر لنا من هو هذا الزائر المهمّ.
دخلنا غرفة الصفّ وكانت الحصة الأولى “طبيعة”. احترت كيف أواجه الأستاذ “م” بعد الذي حدث في الحصة الخامسة من يوم أمس، هل ابتسم؟ هل أحافظ على وجومي ورزانتي؟ احترت، وكان مقعدي الأول والأقرب إلى طاولة الأستاذ، وهو المكان الذي يحفظ عادة لأكثر الطلاب اجتهادًا وأحيانًا لأقصرهم قامة. هل سيضربنا ثانية، خاصّة بعد فضيحة الأمس؟ لا. لا أعتقد. ثمّ إن هو فعلها فما عليّ إلا أن أعيد ما فعلته أمس، سأداويه بنفس الدواء. ارتحت لهذه الخاطرة وسرحت بفكري أسترجع أحداث الأمس…
●
قُرع جرس المدرسة معلنًا ابتداء الحصة الخامسة، الأكره على نفسي. طالما أحسست بأن الزمن يتباطأ في هذه الحصة. وحده الأستاذ “محمد نجيب” كان قادرًا على جعلنا نجتاز محنتها بحنكته وروحه ومقدرته على جعل “الحساب” موضوعًا محببًا، لكن حصتنا الخامسة اليوم مع الأستاذ “م” والدرس “طبيعة”. خمس واربعون دقيقة من العذاب النفسي، والطريق إلى نهاية الحصة السادسة، أي انتهاء الدوام، ما زالت طويلة.
جاء الأستاذ “م” يدفع أمامه نموذج الهيكل العظمي للإنسان، ويتأبط كتابه ودوسيةً لم نفلح يومًا بمعرفة ما فيها، وعصاه الغليظة المشهورة. بدا لنا الأستاذ متجهمًا ومهمومًا أكثر من العادة. دخل من دون تحية، وضع دوسيته على طاولة المعلم وفتح كتابه وقال:
-”اليوم إمتحانْ على إلِلي تْعَلًمْنَاه إمْبارِح.. جسم الانسان”.
سرت رهبة بين الطلاب، فالامتحان هكذا وبدون تحضير لا يكون خبرًا لطيفًا على الإطلاق. فكرت بنظريتي التي تقول: حين يكسل المعلم عن التعليم، فإنه يبتدع قصة الامتحان الفجائي، وقد يفلسفها بينه وبين نفسه بأنّ هناك منفعة منها. قال:
- “بَنَاديكُم واحَدْ واحَدْ وبَسأَلْ سُؤال والِلي بِعْرِفِشْ بِفْتَح إيدُه”.
أسرعت كما بقية الطلاب بفتح كتابي لألقي نظرة أخيرة على المادة قبل أن يصيح فينا:
-”ظُبُّوا الكتب والدفاتر بْشَنْتاتْكُم!”. ثمّ أردف: “اللي بَشُوفْ على طاوِلْتُه كتاب ولا دفتر بِدُّو يوكِلْ خَمْسِه.
خمس عصي، هذا ما قصده أستاذنا ولم أفهم ما دخل الأكل في الموضوع. ربما يعتبر المعلم الضرب ضرباً من الغذاء لعقول التلاميذ!
نادى الاستاذ على الطالب الاول وسأله ان يؤشر إلى عظمة الساعد . لم يفهم الطالب فصرخ فيه :
“الساعِد.. الساعِد. وين عَظْمِة الساعِد؟ أَشِّرْ لي عِليها وحْياةْ والدِيكْ.”
وارتعب الطالب ولم يفلح بإلاشارة إلى عظمة الساعد. طلب منه ان يفتح يده وضربه بالعصا خمس مرات.
نادى بعدها على طالب آخر، صديقي السمين، وسأله نفس السؤال فما كان من صديقي الا ان مد يده وبسبابته أشار الى عظم الساعد.
تقدم الاستاذ اليه وقال:
-”غلط.. افتح ايدك.”
سرت حينها همهمة بين الطلاب وكنت منهم، فصديقي أجاب إجابة صحيحة، أنا واثق منها، لكن الاستاذ يقول “غلط”. نظرت الى زميلتي ناديا مستفهما، وكانت ناديا الطالبة الاولى في شعبتنا، دائمًأ متفوقة. وجدتها تنظر إليّ هي أيضًا وفي عينيها تساؤل وحيرة.
صاح فينا الأستاذ ثانية:
-”إسُكْتُو يا بَقر!”
ساد هدوء ونال صديقي ما لم يكن قسمته ولا نصيبه، خمس عصي، وعاد إلى مقعده متألمًا ومقهورًا.
توالى بعدها النداء على طلاب آخرين، ستة منهم، طلاب وطالبات، وكلهم أشاروا إلى المكان الصحيح، وفي كل مرة يعلن أستاذنا أن الإجابة “غلط” ويضرب الضحية بعصاه.
بعدها نادى الأستاذ على زميلة أخرى من المجتهدات، وسأل السؤال نفسه فأجابت الإجابة نفسها، لكنها أشارت إلى الساعد الأيسر في حين أشار كل من سبقها إلى الساعد الأيمن. عندما شرع الأستاذ بضربها لم أتحمل أكثر، أحسست بالدم يفور في عروقي، قمت من مقعدي وصرخت:
“جوابها مَزْبوطْ”.
في هذه اللحظة رفع أستاذنا رأسه وتوقف عن ضرب زميلتنا، وقال بغضب:
“مزبوط؟! إنتِ بِتِعْرف أكثر مني ..تعالْ هُون”.
تقدمت خطوتين هي كل ما كان يفصلني عنه. نظر إليَّ بازدراء شديد وقال:
“فَرْجِيني يا حَبِيب إمكْ، وين عظمة الساعد”.
تقدمت مرعوبًا، أبلع ريقي خوفًا، لكن كان بي إصرار وتحدّ . ساد صمت رهيب ثمّ أشرت إلى نفس المكان الذي أشار زملائي إليه، الساعد الأيمن وقلت:
“هاظ هو الساعد اليمين”، ثمّ أشرت إلى الساعد الأيسر وقلت: “وهاظ الساعد الشمال”.
صاح بي الأستاذ: “حمارْ!… غَلَطْ.. تعال تا أفَرْجِيك يا وقح”.
في هذه اللحظة قررت أن لا تراجع، وكنت الأقرب إلى باب الغرفة، قفزت بسرعة باتجاه الباب، فتحته، وركضت خارجًا. لم يلحقني الأستاذ، ولم أتوقف حتى وصلت غرفة المدير، قرعت بابها، لم أسمع ردًا، احترت، ماذا أفعل الآن؟ التقطت أنفاسي ثمّ ذهبت إلى غرفة المعلمين. وجدت المدير هناك يتحدث إلى نائبه. رفع رأسه ورآني. قال حين أحس بحالتي:
“يا ساتِرْ؟ ، شُو في يا هشام؟”.
قلت وقد تحوّل ارتعاشي دموعًا:
“الأستاذ “م” بِعْرِفِشْ وين الساعد ومْبَّلِشْ بينا خَبِطْ”.
لم يفهم المدير ما قلت وحاول أن يهدّئ من ثورتي. قام عن مقعده وقال:
“إِتْخَفِشْ ، اتخفش! إِهْدَا.. إِهْدَا، تعال معي”. وأخذني من يدي ومشى معي إلى غرفة شعبتي وطرق الباب ثمّ دخلنا معًا.
كان الأستاذ قد نادى على طالب آخر وكان يهمّ بضربه. وحين رآني مع المدير طلب من الطالب أن يعود إلى مكانه.
تقدم المدير إلى الأستاذ وقال:
“خِيرْ يا استاذ “م”؟ مالُه هشام؟ ليش مْزَعْلُه؟”.
قال الأستاذ: “سألته سؤال ما عرفش وفوق هاظ بِتْواقَح وأخِرْتْها شَرَد من الصف”.
اندفعت موضحًا الأمور للمدير:
” سألنا كُلَياتْنا نفس السؤال.. وين عظمة الساعد.. وكلياتنا جوابنا صح”، ثمّ تقدمت إلى الهيكل العظمي وأشرت مرة أخرى إلى الساعد وتابعت: “هايْ هي عَظْمِة الساعد”.
صاح عندها الأستاذ “م” متحديًا: “غلط”!
سررت عندما قالها ثانية أمام المدير، فشبكت ذراعي ووقفت وقفة المتحدي وقلت:
- “طيب قُلْنَّا إنتِ وين عظمة الساعد؟”. أردت أن أضيف “يا فالح” إلا أني تأدبت، ويبدو أنّ نظرة المدير إلى الأستاذ أكدت ذلك الطلب، فتراجع الأستاذ خطوتين إلى كتابه ونظر فيه… وطالت نظرته.. وتبيّن له عندها أننا كنّا على حق وأنه هو الخاطئ.. مرّت برهة حبس فيها زملائي من الطلاب أنفاسهم. الكل في انتظار ما سيقوله الأستاذ. إلا أنّ سكوته طال وكأنه كان يبحث عن مخرج من هذه الأزمة في صفحة الكتاب، لكن لا مخرج. “أجاك الموت يا تارك الصلاه”. بدأت همهمة خافتة بين زملائي، وفجأة صاح زميل من طرف الغرفة البعيد بصوت قوي جهور:
“الله أكبر”.
عمّ التصفيق بعد ذلك وساد هرج ومرج، والأستاذ “م” ما زال مُكبًا على كتابه يبحث فيه عن الساعد. غضب المدير من هذه الفوضى، وصاح بنا أن نهدأ ثم طلب مني العودة إلى مقعدي، وأمر الجميع بمراجعة الدرس من الكتاب وقال:
“قراءَه صامْتَة ، بدِّيش أسمع حِسّْ!” ثم أخذ الأستاذ وخرجا.
●
أفقت من شرودي حين عاد الأستاذ “م” ووضع كتابه على طاولته القريبة مني. لم أبتسم؛ “كيف عساه يفهم ابتسامتي؟ هل يفهمها اعتذارًا؟ لا والله، لا يكون، فأنا بطل، هل يعتذر بطل عن بطولته؟”حافظت على وجومي. نظرت إليه، خلت أني أرى ابتسامة على وجهه، ولاحظت أنه لم يحمل عصاه الغليظة معه. واجه بقية الطلاب وقال:
-” اليوم يا وْلاد.. نِبْدا موضوع جديد إسمه دورة المياه في الطبيعة”.
“هكذا إذن..”، شردت مع نفسي ثانية، “بلا مقدمات، وكأن شيئًا لم يكن، وبراءة الأطفال في عينيه.. موضوعك مملّ اليوم أيضًا.. قد تعلمناه في السنة الماضية.. تتبخر مياه العيون والبحار والأنهار فتصعد إلى السماء وتشكل غيومًا، ثمّ تمطر علينا السماء.. ويعود المطر ليملأ هذه البحار والأنهار والعيون.. وهكذا دواليك.. قل لي إذن كيف تقِّلّ المياه في “عين خالد” و”عين النبي” و”عين الشعرة” وغيرها كثير من عيون قريتنا؟ هل تأتي الريح فتأخذ غيومنا لتمطر في أراضٍ أخرى ولا تأتينا بغيوم الآخرين بدلاً عنها؟ هل هو عقاب سماوي على شيء فعلناه أو ربّما شيء لم نفعله؟
-”هشام.. هشام خليك معنا”، ردّني الأستاذ عن شرودي. نظرت إليه وكانت هناك ابتسامة قد ارتسمت على محياه، لم أفهم معناها. فجأة طرق الباب ودخل بواب المدرسة واستأذن الأستاذ أن يأخذني أنا وزميلتي ناديا إلى مكتب المدير:
-”المدير عاوِزْهُم بموضوع مهم ، بَعِد إِذْنَك”.
-”طبعًا.. طبعًا”، قال الأستاذ، “قوموا يا أولاد”.
قمت من مقعدي محتارًا.. ما عساه الموضوع المهمّ الذي يريدني فيه المدير “وهيك بنص الدرس؟”، لعله يريد تأنيبي على ما فعلت في الأمس؟ وماذا يريد من ناديا؟ ما ذنبها؟
نظرت إلى زميلتي وفهمت على التوّ أن حيرتها لا تقل عن حيرتي. مشينا مع البواب منكسي الرأس وكأننا معاقبون. لم يقل لنا البواب كلمة واحدة. دخلنا إلى غرفة المدير، ورأيناه ونائبه جالسين حول طاولة، وبالقرب منهما ثلاثة مقاعد شاغرة.
-”اتفضلوا يا أولاد..اقعدوا”، قال المدير على عجل وكأن هناك قضية يريد تسويتها بسرعة.
“عارفين ليش ناديتكم هون؟”، قال ولم ينتظر إجابتنا. ” أنتو طبعا إسمعتوني في ‘خطبة الصباح’ لما قلت إنو لازم الطلاب يْديرو بالهم عنظافة المدرسة، مَزْبوط؟”
اكتفينا أنا وزميلتي بحركة من رأسنا تصديقًا لأقواله، بدأت أشك أنه سيعاجل في اتهامنا بتوسيخ ساحة المدرسة، “لا بد أن الأستاذ “م” دبّر لنا هذه التهمة الباطلة، ما أقواه! هكذا ينتقم مني؟”.
تابع المدير: “وأكيد سمعتوني لما قلت إنه في ظيف جاي عالمدرسه.. انتبهوا شو بِدِّي أَقُلّكُم.. الظيف هو وزير التربية والتعليم.. بجلالة قدره.. جاي يزور مدرستنا”.
لم افهم بعد ما دخلي أنا وزميلتي ناديا بهذه الزيارة، وحاولت أن أستوضح الأمر: “يعني مهم كثير الوزير يا أستاذ؟”.
-”طبعًا مهم يا حبيبي، أكثر ما بتتصوّر”.
-”أهم من أبو جابر؟”، وكان أبو جابر رئيسًا للمجلس المحلي. ضحك المدير وقال: “أهمّ .. أهمّ”. وحاولت البحث في ذاكرتي عمّن هو أهم.. هل يكون عبد الناصر -أبو خالد- الذي تزيّن صوره صدر كل بيت في بلدتنا؟ لكني أعرف أن عبد الناصر مات منذ سنتين أو أكثر.. بأم عيني رأيت جنازته التي طافت الأربع حارات.. مع أن ولدًا يكبرني سنًا قال لي يومها إن التابوت الذي يحمله رجال البلد فارغ وإن الجنازة رمزية.
شرح لنا المدير دورنا في الموضوع. سيأتي الوزير لافتتاح المدرسة، يعني ليقصّ شريط الافتتاح، سيستقبله أهالي البلد.. أنا وزميلتي سنقدّم له الورود، شكرًا وعرفانًا على تكرمه بالزيارة. ومن ثمّ سيصرف جميع الطلاب إلى بيوتهم ويبقى بعض الأهالي والمعلمين للاشتراك بوليمة الغداء التي ستقام على شرف الوزير.
أيّ افتتاح هذا الآن والمدرسة مفتتحة منذ سنتين؟ أم هو فتحً مبين كالفتوحات التي نتعلم عنها في درس التاريخ؟
“ما تقلقوش، رَح نمَرِنْكُم كيف تقدموا الورد للوزير”، طمأننا المدير وأضاف، “بَس إللي بدِّي إياه منكم إنه يوم الزيارة تِلبَسو أواعي العيد.. أحلى ما عندكم .. إنتو عارفين انا والمعلمين اخترناكم لأنكم أحسن طلاب المدرسه.. وبدي تِكِرْبو وجهي”. إرتحت لقول المدير، وبخيالي رأيت حفل استقبال الوزير كما زفّة العريس.. رأيت الوزير يأخذ مكان العريس.. تحيط به حاشيته. ومن ورائه تتدافع النساء، ويتقدمه رجال البلد في صفين من كلا الجانبين، مستعدين دائمًا للردّ على الشاعر الشعبي الذي يصول ويجول بينهم. النساء من وراء الوزير، والرجال من أمامه، منعًا للاختلاط. ولكن أين يكون المعلمون وإدارة المدرسة في هذه الحالة؟ وماذا عن طلاب المدرسة؟ آه.. وجدت الحلّ.. طالبات المدرسة ينضممن إلى النساء خلف الوزير، أما الأولاد فمكانهم مع الرجال في “صفّ السحَّاجة”، وأمّا الهيئة التدريسية فموقعها في الوسط بين “صفّي السّحّاجة” للتحميس.
غرقت في خيالي أكثر واحترت كما ًأهل العريس.. أيّ شاعر سوف يدعى لاستقبال الوزير؟ هل يكون “أبو ليل” الشاعر الشعبي المعروف ابن القرية المجاورة برفقة زميله؟ أم “توفيق الريناوي” شاعر قرية “الرينة” الجليلية وزميله؟ الحق أقول.. طالما حيرتني إضافة “وزميله” على بطاقات الأعراس.. كأن “الزميل” هذا جندي مجهول، أو سرّ مهول لا يجوز الكشف عنه. أعتقد أن المدير سيدعو الشاعر أبو ليل وزميله لأنه أقرب إلى بلدتنا، فضلاً عن أنه إذا دبّ فيه الحماس، خلال الحفل، وراح يتقافز ويتنقل بين صفوف المرددين والمصفقين، سيأتي بشعر جميل “يوقف شعر الرأس” ويطرب له الجميع. أستطيع رؤيته الآن بخيالي متألقًا وهو يغني “البداوية” فيما الرجال تردد من ورائه “يا حلالي يا مالي”:
“شِدّوا الأيادي شِدّوا ……. لاجل الوزير ومدّوا
يُطْلُب مِنا شو بِدُّو ……… وإحنا نلبي طَوَّالي”
يا حلالي يا مالي…
ثم ينتقل إلى “يا حمام.. يا حمام.. يا رسول السلام”.
واحتفاء بالوزير وزيارته لا بد أن يبدع “مثمنًا” يرفع رأس قريتنا عاليًا:
شًّدوا السَحْجِة وقَوّوا الكَفّ ………. هيـكَ “وزيرنا” بِدُّو
يا رجالي صفوا عالصف ………. وبالصوت العالي ردوا
صوتي حواليكو رّف ………. وانتو ردّوا ما تهدّوا
دربكة ويرغول ودف ………. وعن يَميني وِشْمَالي..
يا حلالي يا مالي…
هل سيغني “روَّح الغالي عالدار” عندما يقترب الموكب من المدرسة؟! لا.. لا أظن، فهو في النهاية وزير وليس عريسًا، كما أن المدرسة ليست داره. لكن لا بدّ أن يغني “السَبِعْ صايد غزالِه” أغنيتي المفضلة، والأثيرة في كل الأعراس، حتى تلك التي لا يكون فيها العريس “سبعًا” ولا يحزنون. وبصراحة ليست كل عروس غزالة! لم أسمعهم مرة يغنون للبؤة اصطادت غزالًاً مع أن هذا مألوف في الطبيعة أكثر. ثم أني لم أفهم تمامًا قصد الشاعر بهذا التشبيه في يوم العرس بالذات.. هل فكر مثلاً ما الذي يحدث بعد أن يصطاد السبع غزالته؟ رأيت ذلك في فيلم وثائقي.. إنه يمزق جسدها ويفترسها!
” عندكم أسئلة”، سألني المدير وزميلتي، فقلت:
“أستاذ! شو اسمو؟”
“أنو؟”، استفهم المدير.
“الوزير اللي بدنا نقدم له ورد”.
“آه..”، قال المدير بارتياح، “عفارم عليك، سؤال مهم …الوزير اسمه يغآل ألون*”.
لم يبدُ لي الاسم كالأسماء التي أسمعها عادة، فطلبت من المدير أن يعيد ذكره، وكرر المدير اسمه من دون أن أستوعب، فسألته ثانيةً:
“يعني شو ِبقولوُله؟ أبو إيش؟”
ضحك المدير وضحك نائبه معه فشعرت بأنني قلت شيئًا لا يقال، وأحسست بإحمرار خديَّ وأذنيَّ. قال المدير:
“بيقولولوش أبو إشي، اسمه الوزير ألوووون”. ومطَّ الواو علّه يسهل استيعابي، ثم أضاف مسرعًا ودرءًا لمزيد من أسئلتي: “وهَسّا يالله يا حبايبي.. ارجعوا عالصف كملوا درسكم”.
اِحترت كيف سيزبط “المثمن” مع أبو ليل مع اسم كهذا.
عدت وزميلتي إلى غرفة الدرس. أحسست بفرح عارم. أولًاً، مهمتنا مهمة جدًا. وفعلاً فإنّ “أحسن طلاب المدرسة” وحدهم يستطيعون إتمامها بنجاح. آه.. يا له من انتصار على جبهتين.. أولاً، السادس (أ) تفوق على السادس (ب). طالما كان التنافس على أشده بين الشعبتين وها هي شعبتنا تنتصر. ثانيًا، هناك إجماع في شعبتي أن ناديا هي الأولى بين البنات بينما كان هناك تنافس دائم على لقب “الأول” بين الأولاد. كنت وصديقي عزّ الدين نتنافس على هذا اللقب دائمًا، بالنسبة لي، فإن المعركة قد حسمت بمجرد أن المدير قام باختياري. وفور انتهاء درس الأستاذ “م” أعلمت زملائي، وبفخر شديد، بأنني وناديا سوف نقدم الورد للوزير لأننا أحسن طلاب المدرسة بشهادة مدير المدرسة ونائبه معًا.
في طريق عودتي للبيت عزمت على إخبار أبي وأمي. “احزري شو صار اليوم”، سألت أمي حين استقبلتني على باب البيت. ومن دون أن أنتظر إجابة استطردت: “اختارني المدير من شان أقدم ورد للوزير اللي بدو يزور المدرسة”.
“مليح ” قالت أمي ببرود.
”أحطلك توكل هسا ولا تستنى أبوك؟”.
لم أفهم هذا الردّ البارد، ما الذي حصل لأمي؟ ألا تدرك أهمية هذا الوزير وزيارته لمدرستنا؟ غريب! أهذه هي الأم نفسها التي كانت تطير فرحًا كلما أحضرت شهادة إنهاء الفصل متوجّة بأحسن العلامات؟! اليست هي التي تغني لي دائمًا بمناسبة وبلا مناسبة :
“َقَلمُو بإيدو..
مين شافْ لي هشام
قَلَمو بإيدو..
قَلْبِي يِريدو..
ابن المدارس..
قلبي يريدو”.
بدا لي أنّ في الأمر سرًا لا استطيع أنا الصغير أن أفهمه. كان رد فعل أبي مشابهًا حين جاء البيت وأخبرته بالقصة: “مليح”.
لم أسأل عن سر هذا البرود، وخرجت لألعب مع أبناء الجيران وسرعان ما نسيت كل شيء.
●
في يوم زيارة الوزير، استيقظت مبكرًا. لم أنم جيدًا، انحصر تفكيري بأنني سأكون نجم هذا اليوم. أصرّت أمّي أن أتناول فطوري كاملاً بلا اختصارات. أكلت الخبز مغموسًا بزيت الزيتون وخليط من الزعتر المطحون مع السمسم المحمص (الدقّة). وشربت كأسًا من الشاي. لبست ملابسي وأعطتني أمَي كيسًا آخر فيه ملابس احتياطية في حالة اتسخت ملابسي بالوحل أثناء الطريق إلى المدرسة. حملته وحملت حقيبة كتبي وغادرت البيت قبل موعدي العاديّ بنصف ساعة على الأقل. كان الجوّ باردًا على عادته في هذا الوقت من السّنة، وبدا من برك المياه في الشارع أن أمطارًا غزيرة انهمرت ليلة الأمس.
اجتزت طريق “الجدوع”- حيث يقع بيتنا، باتجاه حي “الكينا”، نسبة لشجرة الكينا التي كانت على جانبه حتى قبل سنتين وتم اجتثاثها لتوسيع الشارع، فذهبت الشجرة وبقي اسمها. مررتُ أمام بيت أبو شفيق ونظرت إلى “الدالية” التي تظلل باحة البيت، لم أرَ عناقيد العنب، لم يكن موسمه. تقدّمت باتجاه بيت أبو عفيف وكانت التينة العملاقة أمام بيته تقف عارية بلا أوراق. من هناك بدأت أصعد الشارع الرئيسي باتجاه “الميدان”. والشارع من هنا شديد الانحدار. وصلت بعد جهد إلى بيت أبو العزّ، بيت صديقي عزّ الدين. وقفت هناك لأستريح من عناء الصعود ولأنادي على صديقي حتى نذهب إلى المدرسة سوية.
-”عزّ. ….عزّ!” صحت مناديا بأعلى صوتي.
نزل عز الدين من بيته حاملًاً حقيبة المدرسة، تبادلنا تحية الصباح وبدأنا سيرنا في اتجاه “الميدان”. الانحدار لا زال شديدًا، لكنّ أيّ انحدار لا يحول دون تصميم الأولاد على اجتيازه، الكبار فقط هم الذين يتحسّبون!
قال لي: “حفظت القصيده؟”
“أي قصيده؟” سألت.
“الولد الأعمى… عنّا مَحفوظات اليوم.. نْسيتْ؟.. طول الليل وأنا أتحَفَظ.. أول دَرْس.. الأستاذ طلال رَح يْطَلِعْنا واحَد واحَد نِلْقيها”.
يا للورطة، نسيت أمر المحفوظات بالمرة. قلت لعزّ محاولاً تخفيف وقع المصيبة على رأسي:
“ما فش وَقِت يْسَمِعِلْنا كُلْنَا”. وفكرت إن حدث وناداني الأستاذ طلال فسأعتذر وأشرح له المسؤولية الملقاة على عاتقي اليوم، وسيسامحني فهو يعرف أني طالب مجتهد، وأني الوحيد الذي يقرأ كتبًا كثيرة، حتى الروايات المعدّة للكبار كروايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي.
اقتربنا من نادي الحزب الشيوعي، وهو المكان الذي إذا وصلناه أدركنا أن انحدار الجبل قد انتهى ولا صعود بعد ذلك، وأنّ الطريق بعده مستوية وموحلة. على مقربة النادي كان هناك مقهى حيرني أمره دائمًا، فقد كانت “قهوة خضر” سقيفة من ألواح القصدير، تبدو لي مائلة دائمًا، وكأنها على وشك السّقوط على رؤوس الرجال الذين يلعبون الورق والطاولة والدومينو، ويشربون الشاي والقهوة داخلها. قبالة هذا المقهى المتهالك تقع “مكتبة صبيح”. كنت أشتري الكتب من هذه المكتبة وأحيانًا أقف لأتصفح الكتب الجديدة التي تصل بلدتنا بعد سنة أو أكثر من نشرها. بدا لي هذا الترتيب معقولاً، مقهى يجاور مكتبة لحفظ التوازن.
نظرنا –أنا وعزّ الدين- أمامنا وكانت الطريق موحلة كليًّا، بصعوبة بالغة كنّا نتنقل، خطوة خطوة، تبحث عيوننا عن حجارة طافية فوق الوحل لندوس عليها فلا تغرق أقدامنا. كان نجاحنا جزئيَا. فقد غصنا واتسخت سراويلنا وغمر الوحل أحذيتنا. اجتزنا بيت الأخوين حاتم وماجد السعد وتقدمنا باتجاه مقهى توفيق الرشيد، نظرنا بحسرة إلى طاولات البليارد المحظورة على أبناء جيلنا. لا لسبب تربوي وإنّما خوفًا على مخمل الطاولات الأخضر من أيادينا غير المدربة. هانت الطريق بعد أن وصلنا بيت أبو معروف وصار الوحل أقلّ. وسرعان ما كنا بجانب دكان “أبو الرايق” على مشارف بوابة ساحة مدرستنا المشرعة دومًا لكلّ من دبّ وهبّ. سوّلت لي نفسي -كما هي عادتها- أن أتوقف عند الدكان لأشتري “رأس العبد”، وهي حلوى تباع للأطفال قوامها الكريما المصبوبة فوق بسكويته شكلها نصف بيضوي، وتطلى بالشوكولاته. كنا نحبّ هذه الحلوى ولم نكن قد فهمنا بعد الأبعاد العنصرية لتسميتها بهذا المسمى. عدلت عن فكرة التوقف حين ذكرني عزّ الدين ثانية بقصيدة “الطفل الضرير” التي لم أحفظها.
●
في الدرس الأول نادى الأستاذ طلال على صديقي “مصطفى المحمد”، جاري على مقعد الدراسة. تنفست الصعداء، فهذا يعني أنه لن ينظر صوبي إلى حين. تضرعت إلى الله أن يطول هذا “الحين” حتى يأتينا فرج جرس انتهاء الدرس.
أدار مصطفى ظهره للوح الأسود ووقف قبالتنا، ثمّ راح يلقي القصيدة عن ظهر قلب وبكل ما أوتي من قوة جعلت صوته يجلجل في كل جنبات المدرسة:
يا أمّ ما شكل السماء وما الضياء وما القمرْ
بجمالها تتحدثون ولا أرى منها الأثرْ
ورغم ذلك، فقد ألقى القصيدة بإحساس مرهف إلى درجة أنه حين وصل إلى البيت:
وأنا ضرير قاعد في عقر داري مستقرْ
كان قد أبكى نصف زميلاتنا حسرة ولوعة على هذا الطفل الأعمى المستقر في عقر داره، وخلت إحداهنّ تقول: “يا حْسيرْتي عليه”.
اجتذب صوت مصطفى مدير المدرسة بنفسه الذي جاء ليتحقق بنفسه من هذا الطالب الموهوب الذي يصيح من قحف رأسه بهذه الأبيات الحزينة.
صفقنا لمصطفى طويلاً بعد أن فرغ من إلقائه، وشاركنا التصفيق الأستاذ طلال والمدير.
سررت كثيرًا حين استدعاني المدير بعد ذلك إلى غرفته مخلصًا إيايّ من ورطة “الطفل الضرير”، لكنه صعق حين شاهد بقع الوحل تعلو حذائي وملابسي. طمأنت المدير أني احتطت بنعل وثياب إضافية عملاً برغبة أمي التي تحسبت لموضوع الوحل. سرّ المدير كثيرًا وطلب مني أن أبدّل ملابسي وحذائي وأن أنادي زميلتي ناديا حتى نتدرب للمرة الأخيرة على تقديم الورد للوزير، وقد طمأنني المدير بأن الورد سيكون حقيقيًا هذه المرّة. امتثلت لأوامره وعدت إليه بصحبة زميلتي فمثلنا مشهد تقديم الورد بحيث أدى المدير دور الوزير فيما تأبطنا، أنا وزميلتي، باقة الورد التي أدهشني حجمها، كل من جهة وقدمناها له بخجل شديد.
لم نرجع إلى دروسنا بعد انتهاء التدريب فقد ارتأى المدير إبقاءنا في غرفته.
قرع الجرس في منتصف الحصة الثالثة، وكان ذلك مؤشرًا لجميع المعلمين بدنوّ وصول الوزير. فسارعوا إلى إخراج الطلاب إلى السّاحة محذرين إياهم بعدم إلقاء القاذورات.
شارك بعض المعلمين البوابَ بتجهيز الطاولات في إحدى الغرف الدراسية ليتم فيها تقديم وليمة الغداء للوزير. غُطّيت الطاولات بشراشف ناصعة البياض لا أعلم من أين جلبت، ووضعت عليها مزهريات في كل منها وردتان. أعدّت الطاولة الأولى للوزير، وجيئ بالمقعد الجلدي الخاصّ بالمدير ليكون كرسي الوزير.
طلب المدير منا حمل باقة الورد والوقوف على مدخل المدرسة ووقف هو ونائبه وراءنا. دخل موكب الوزير ساحة المدرسة التي غصت بالطلاب وببعض الأهالي الذين أجبروا كما يبدو على المجيء، أو أنّ حبّ الاستطلاع دفع بهم لإلقاء نظرة قريبة على وزير حقيقي.
اقترب الموكب منا وهمس لنا المدير بأنّ الوزير هو الذي يلبس بدلة رمادية وقميصًا سماويًا بلا ربطة عنق .
تقدمنا وقدمنا باقة الورد فتقبلها الوزير وناولها إلى أحد مساعديه، وقبّلنا على عادة رجال السياسة في هكذا مواقف.
فجأة ومن دون سابق إنذار برز شابان في مقتبل العمر. وقفا على مقربة منّي ومن زميلتي وجهًا لوجه أمام الوزير. إلتفت أحدهما إليّ وقال بغضب شديد:
“بتقدموا ورد لواحد قتل وشرّد شعبكم؟”
لم أفهم مراده، ولم يعطني فرصة لاستفسر، بل التفت إلى الوزير في نظرة تحدٍّ وقال له:
“إنت مجرم ، قتلت شعبي في اللد والرملة وغيرها كثير وشرّدت الكثير، مجرم حرب..”
قالها للوزير، ثم بصق في حضرته.
هاجت ساحة المدرسة، وانقض حراس الوزير على الشابين، ولم أرَ ما الذي حصل بعد ذلك. أبعدنا معلم عن موقع الحدث، ثم جاء المدير وحرّرنا إلى بيوتنا مع باقي طلاب المدرسة.
رأيت الوزير وحاشيته يدخلون إلى حيث الوليمة يرافقه المدير ونائبه وبعض المعلمين وأشخاص آخرون لم أعرف هويتهم.
بحثت عن صديقي عزّ الدين فعثرت عليه بعد جهد. مشينا سوية. بعد دقائق قليلة تجاوزتنا سيارة شرطة، نظرنا إليها سوية ورأينا من شباكها الخلفي الشاب إياه الذي بصق على الوزير وكذلك زميله الذي كان برفقته، رفع إلينا قبضته المكبلة بسوار حديدي مع قبضة صاحبه ولم أدر إن كان يحيينا أو يودّعنا..
سألت عزّ الدين عن هويتهما، فقال: هذا ابن عمي، غسان الفوزي، هو الذي بصق على الوزير أما رفيقه فحسن أبو علي**.
“وين بوخذوهم هسّا؟”، سألت بقلق.
“على السجن”، قال صديقي، وحكى لي ما كنت أجهله عن هذين الشابين وعن نشاطهما. وددت بعدها لو أصل بيتي بسرعة لأحرق الكتب التي كنت أقرؤها والتي لم تفدني شيئًا عن معنى الاحتلال والتشريد ومصادرة الأراضي، ناهيك عن مجازر عدة قتل فيها الكثيرون.
“كيف ما قلتليش من قبل؟”، سألت معاتبا، “خليتني أقدّم ورد لمجرم وما قلت إشي؟”.
أجاب صديقي: “يعني لو قلتلك بتصدقني؟.. شُفتك مبسوط إنه المدير اختارك”.
كان طلاب المدرسة في طريق عودتهم إلى بيوتهم، بعضهم أمامنا وبعضهم خلفنا.. فجأة سمعت صوت صديقي السمين يناديني من خلفي ويركض ليلحق بي أنا وعزّ الدين، وحين وصلنا قال معاتبا لأننا لم ننتظره ليعود في معيّتنا:
“شو يا بطل.. استنى شوية على إيش مستعجل؟”
طنّت في أذني كلمة “بطل” بشكل غريب.. ولم أطرب لها كما كان يحدث لي في السابق. نظرت إليه طويلاً، وفكرت بالأستاذ “م”. أحسست بفراغ مؤلم، فأيّ بطولة هذه؟ لقد بطلت بطولتي!
قلت له:
“بلا بطل بلا بطيخ.. البطل اللي عن جَدّْ هناك”، وأشرت إلى سيارة الشرطة التي كانت قد ابتعدت عنّا.
(واشنطن ، صيف 2011 )
* يغآل ألون: وزير المعارف والثقافة ونائب رئيس الحكومة في حكومة “غولدا مئير” بين عاميّ 1969 و1974. انضمّ لعصابات الـ”هاجاناه” عام 1931 وحارب إلى جانب البريطانيين في سوريا ولبنان كجندي استطلاع. من مؤسسي “البلماح” (كتائب الكوماندو اليهودية) وقائد هذه القوة بين الأعوام 1945 و1948، والقائد المسؤول في هذه الفترة عن تشريد وقتل الفلسطينيين في اللد والرملة وصفد وبئر السبع.
** غسان فوزي و حسن أبو علي قاما (مع آخرين) بتأسيس حركة “أبناء البلد”.