صرخة صمت/ إسماعيل إبراهيم
|إسماعيل إبراهيم| منذ مدّة لم تغمر الابتسامة وجهه كما ا […]
صرخة صمت/ إسماعيل إبراهيم
|إسماعيل إبراهيم|
منذ مدّة لم تغمر الابتسامة وجهه كما الآن، كان يرى أن حلمه أكبر من أن يتحقّق، أو أن الشعور الذي يرافق كلّ حلم، كان يرافق حلمه أيضًا… الخوف، وأحيانًا التشاؤم. إمتلاك بيت صغير له، وله وحده، بعيدًا عن تلك الغرفة الصغيرة، في بيت والديه، التي عاش فيها سنوات زواجه الأولى وأنجب فيها ابنيه..
الحلم كالطفل، نحيطه بحنان وحبّ، نخاف فقدانه، نحميه، ندفع اليه بدماء شراييننا كي يبقى ويكبر.
البرد قارس، الريح تشتدّ، لكنه مع هذا، وقف أمام البيت في العراء، يتأمّل حلمه الذي تحقق. ابتسامته تملأ وجهه وهو لا يدري. إلى جواره ابناه وزوجه، يتأملون الحلم. الحلم الذي كاد أن يُكسر في مراحل الجفاف المادّي، واليأس الذي لحق به عدّة مرات، لولا دعم زوجه له وتشجيعها، واشعالها فتيل الحلم من جديد كل إنكسار.
مساحة كبيرة من العراء، رمال الصحراء ووسطها، كالواحة تماما، يجثم بيت بناه بقطرات عرق وسنيّ شباب، وحديقة زرعتها زوجه بالحُب والحلم.
عمل حارسا في إحدى المنشآت، وكلّما تحرّش به البرد، قال لنفسه سأقهر هذا البرد ببيت دافئ. كان عملا مقيتا، لا يفعل فيه سوى الجلوس على كرسيّ طوال الليل يراقب الساعة، ويراقب محيط المنشأة، ويكافح برد الشتاء القارس، وإن أمطرت السماء، فلسوء حظة سيحظى بحمّام إجباريّ قاتل! والأجر الذي يتقاضاه لا يتواءم والعذاب الذي يعانيه. لكنه أصرّ على الاستمرار؛ فكلّ قرش يدّخره هو لبنة جديدة في بيته، هو خطوة كبيرة في حلمه.
طُرد من العمل ذات مساء لأنّ نفسه سوّلت له إشعال نار صغيره يدفئ بها جسده الذي نخر البرد عظامه، وهذا مخالف لتعاليم العمل في المنشأة. بحث عن عمل والإنكسار والاحباط يقتلانه. وجد عملا في مصنع تصنيع الحديد ووافق! وكان أيضًا عملا قاهراً هو أقرب للعبودية، والأجر كالعادة لا يتناسب مع الجهد، فاضطر للعمل ورديتين متتاليتين! كان يعارك قضبان الحديد طول النهار. يجب عليه أن يحافظ على القضبان متراصّة، ويمنع أيّ اختلاط وتشابك بينها. وكان الحديد أحيانا يصله حارّا خطِرا. وقد حذّره المسؤولون: “أحيانا يكون قضيبا مضغوطا فينفلت ويكون كالرمح، فكن حذرا لأنه قاتل!”
يعود كل مساء لتستقبله زوجه بألم! فهي ترى أنّ القدَر يخطّ في وجه هذا الشاب تجاعيد لم يحن أوانها، فلا يكاد يجلس معها وابناءه ساعة حتى يغفو في منتصف الحديث، لينام سويعات يتابع بعدها العمل، ومعاركة الحديد.
قررَت أن تثنيه عن حلمه.. إكتفت بالغرفة والحصار البيتي الخانق! لكنه علِم أنّ هذا تعاطف وشفقة، فاستمرّ وهو يهدئها بقوله: “سأتعب الآن فأنا شابّ، عندما نستقرّ في بيتنا سأختار عملا عاديّا، ونرتاح ونعيش كباقي الناس.”
هذه الذكريات الآن، وهو أمام بيته تجعله يشعر بالنشوة والفخر، وكلما تذكّر موقفًا من مواقف زوجه، ضمها إلى جانبه اكثر ورماها بابتسامة حب وعرفان.
قالت له: لقد تأخر الوقت، أم أنك اعتدْت عدم النوم… الأولاد سينامون وقوفا من شدة النعاس.”
ابتسم، وشدّها ناحية البيت وقال: هيا.. سننام…
دخلوا البيت. ذهب الأولاد للنوم، ومن بعيد.. سمع صوت ضجيج، ذهب للنافذة.. ونظر!
كانت بلدوزرات حكومية معززة برجال الشرطة قادمة إلى بيته…
(رهط)