بسمة وعبسة/ جواد بولس
|جواد بولس| “إنجاز تاريخي للمحامين العرب”؛ […]
بسمة وعبسة/ جواد بولس
|جواد بولس|
“إنجاز تاريخي للمحامين العرب”؛ “رافعة لمكانة القضاء واستقلاليته وداعمًا لسلطة القانون وحقوق الإنسان …”؛ هكذا وصفت جهات قانونية عربية حدث انتخاب المحامي خالد حسني زعبي عضوًا يمثّل نقابة محامي إسرائيل في لجنة تعيين القضاة في الدولة.
حيّرتني تلك البهجة الصاخبة وما لاقته من إجماع بين أضداد. وحيّرني أكثر تغييب هذه المسألة المبدئية الهامة عن مواقف الأحزاب والحركات السياسية وعدم تطرّق قادة هذه الأحزاب إليها. من حقّنا أن نسمع ما يقوله هؤلاء القادة في مثل هذا الحدث ولنسمع أيضًا مبررات من يحتفي بالنصر وكذلك من لا يعتبر ذلك إنجازًا أو ربما تواطؤًا وأسرلة.
سكوت القادة والمحللين ومعاهد إعداد الدراسات فيه بعضٌ من قصور، ولدى البعض ينمّ عن انتهازية لا سيمّا لدى من اعتاد إطلاق عنان القذف والتقريع واصفًا أحداثًا أصغر من هذا الحدث بالأسرلة والانبطاح وتشويه الهوية.
أمّا أنا فأبدأ مبارِكًا للزميل خالد وأعتبر ما حصل إنجازًا، فرحتي به ستبقى محدودة فمشاركة عربي في لجنة هامة جدًا لن يوقف التدهور المتفاقم في ميدان “العدل” والقضاء والقانون. هو أقرب إلى فرحِ من يذهب للحج والناس منه عائدون. لأننا بسكوت البعض عندما استوجب الحديث وبصراخ البعض عندما استوجب السكوت أضعنا الفرص أو رقصنا على ظهر غيمة.
أبارك وفي حلقي غصة كتلك التي تتمكن من الرجال عندما يتيقنوا أن المدى سُدّت جهاته إلّا واحدة تؤدي إلى هناك لجبال القدس حيث كانت البداية التي لم تنته بعد، بدايتي والحلم.
أنهيت دراستي الثانوية في ربيع عام من بدايات السبعينيات. في شتاء العام ذاته بدأت دراسة الحقوق في الجامعة العبرية التي شيّدتها الحركة الصهيونية عام ١٩٢٥، صرحًا وشاهدًا على براعة في التخطيط ووضوح في الرؤيا وإصرار على تحقيق كثير مما استسرّته تلك الحركة وقليل كشفه قادتها ومعاول “طلائعيّيها” التي دقّت في أراضٍ خانها أصحابها أو أصحاب أصحابها. بعضهم، يا للندامة وآه من السخرية، شارك في المناسبة محتفيًا حفاوة عبدٍ يفرح بنيرٍ هدية من سيّده.
ما أذكره جيّدًا أنّني لم أتخبط، كما كانت تجربة أقراني وزميلاتي، سأكون محاميًا. بيقين راهب وإصرار ريح مشيت في طريقي ولم يكن إلّا من مرايا. فهناك على قمة ذلك الجبل تفوّق ثانية، قبل قرن، قايين العصر على هابيل، وانتصر عقل الحكيم المخادع على سذاجة التراب وجهل الرعاة. على تلك القمة تعلّمت، سنة بعد سنة، أنّ أيوبَ ما زال يتأسى جرّاء امتحان الرب ورهان الشيطان. تعلمت أن “الحقوق” قدَّت من عقوق وإلى الالتباس هي أقرب، من يوم ما التبست علينا وعلى أجدادنا حكمة سكين إبراهيم، أبينا المدّعى، تكاد تهوي على عنق إسحق أو إسماعيل.
حاولت إرجاء الخيبة، فكيف لأحلام الشباب أن تتشظّى وأن تذبل باقات الورد على شرفات أمال الصبا والصباح. قارعتُ بصبر أصحاب الخوذ والبطش والافتراء وتقدمت ممسكًا بياقة حلمي المشاكس العنيد، كلّما اندفعت لأعلى تراجع هو وهوى. أشدّ بقبضتي على ياقته فأحسها أصبحت طوقًا لحلم يكاد يختنق. ما ارتضيت بهزيمة مبكًرة ولا بتنكيس راية. طريق المرايا كانت طريقي إلى هياكل العدل وحقوق البشر.
طريق المرايا يهشّمها سادة الوحل والمطارق، بطارك تلك الجبال وسادةُ النعام. لم أنكّس راية، لكنّني، أليوم أعترف أمام رب الحلم وسيّد الشقاء، أنّني مثل غطّاس تمتصه اللجة وهو بغريزته، مدمنًا رائحة شقوق الصخر وملمس الطحالب، يسبح في الأزرق أو ربما نحو الأزرق.
بدأتُ، يا سادتي، أتعب. رئات خيولي أنهكها الحنين إلى عشب البلاد، فكم تستطيع بعد أن تجر مراكب الحزن والخسارة والضباب؟ تتكسَّر المرايا على المرايا. فما كان ريعان حلم تيتّم. وما كان معابد أعددتها للروح والعزة تحوّل إلى بيوت لتجار السم ودفيئات لمربي السوس ومروّجي الزقرط.
هكذا هي حال بيوت العدل والقضاء ومن يخدم فيها ومن أجلها في هذه الدولة. الوضع استثنائي بخطورته. بنيان من ورق قابل للاشتعال أو الانهدام والمصابون الأوائل، كما في كل رزية أو لعنة، هم عرب هذه الدولة. فضاءات الدولة ملوّثة وأجواؤها موبوءة ولذا لن يسلم حيّز ولن ينجوَ عضو، فها هي منظومة المناعة الأخيرة المعدة للدفاع عن الجسم وحمايته، تصاب وتعلّ وتمس. أعراض الآفة واضحة في اللغة والفعل والضحايا. ما يخطّه زعران الهضاب بعد كل جريمة من إشعار بفاعلها وتحذير من فعلته القادمة يقوله بعض المدّعين العامين في مرافعاتهم أمام قضاة لا يعترضون ولا يهمسون بل يسمعون كأنهم بين يدي “غيشا” يابانية ساحرة.
لم يكن هذا حلمي حينما كان الطريق عندي واضحًا وطبيعيًا. لم يكن حلمي قانيًا بلون الدم ولا أبيض كالعدم كان أغبر بلون التراب وعلى ما أذكر برائحة تشبه رائحة الليمون لكنها أقرب إلى رائحة العرق. حلمي كان بلون ورائحة الجرح. هل كان ذاك الحلم كثيرًا عليّ؟
ما كان قصدي أن أسكن عبسة مكان بسمة ولا أن يطيّر قلق وسنًا، فأنا، كما قلت، يا رفيقي خالد ويا زملائي، ما زلت في الساحة وخيلي متعبة ويتعبني ضباب نصر مرتجى ورعشة الفوز بمقام جليل تدوي بجليل يلهث وراء مقام وفصل مقال.
هناك منذ عشرينيات القرن الماضي خسرنا من تآمرٍ وضياع وجهل وسذاجة وتردد ورياء ومزايدة، وطبعًا من خيانة. فمن يعطينا الآن القوة والشجاعة والحكمة والحنكة لنصفق معًا للنصر إن كان ذلك نصرًا أو عساكم تندبونها هزيمة؟
لماذا تسكت الحناجر، “وكيف يختلف الرواة على كلام الضوء في الحجر؟”.