الكتابة، والقطار الذي ضلّ طريقه/ سليم البيك
|سليم البيك| قال لي أحدهم معلّقاً على خبر صدور كتابي ال […]
الكتابة، والقطار الذي ضلّ طريقه/ سليم البيك
|سليم البيك|
قال لي أحدهم معلّقاً على خبر صدور كتابي الجديد: من المفترض أن تكون في هذا العمر قارئاً وليس كاتباً. اعتبرته مديحاً، أخبرت بذلك صديقتي فاعتبرَته تخابثاً، ولم نُولِ الموضوع أية أهمية. مضى أسبوعان على ذلك، لكن السؤال عن العلاقة بين القراءة والكتابة مازال يتأرجح في مكان ما في رأسي.
حسناً، بالنسبة لي، لم أمارس القراءة منذ طفولتي، ولم أكبر في بيت يحوي مكتبة مليئة بكتب الأدب وغيره، وكنت أكره الكتب وقراءتها وكذلك دروسَ اللغة العربية، وأذكر أن إحداهن أخبرتني بأني غريب؛ أني بدأت القراءة متأخراً، والكتابة متأخراً (مقارنة بأرتور رامبو ربّما!)، وأن ما أكتبه وما كتبته لا يدلّ على ذلك بالمرّة، عدا عن الكثافة التي أكتب بها. لا أذكر كيف اعتبرت كلامها، لكنّه مريح نوعاً ما.
السؤال يتأرجح كالبندول. والآن أفكّر فعلاً عن طبيعة العلاقة بين القراءة والكتابة. لا أعرف، لكني لا أظن أبداً أن إحداهما (القراءة) تقود بالضرورة إلى الأخرى (الكتابة)، أن العلاقة بينهما سببيّة وعضوية. قرأت مرّة أنّ مشكلة القارئ الجيد هي أنه يريد أن يصبح كاتباً، أنّه، ربّما، يرى الأحقيّة في أن يكون كاتباً، وكأن الأمر استحقاق ما، يمكن التهئية له. وهذه مشكلة كثيرين في اعتبار القراءة الجيّدة أنها الطريق (مع أل التعريف) إلى الكتابة، وهي الفكرة ذاتها، نقرأها مقلوبة، لافتراض أن يكون الكاتب أعرف من غيره من القرّاء في أمور يكتب هذا عنها ويقرأ ذاك عنها. أن الروائي مثلاً، لا بدّ أن يكون قد قرأ من الروايات ما يزيد بكثير عمّا قرأه قارئ جيّد لا يكتب الرواية.
لا أفهم كيف تُعتبر الكتابة مرحلة متقدّمة من مراحل القراءة، أي أن الكاتب هو قارئ متطوّر، أو أن القارئ الجيّد سينتهي به الأمر إلى الكتابة. هنا أذكر ما راج في السنوات الأخيرة، وهي الورشات الكتابية، والمُعلَن عنها بعبارات دعائية مثل “كيف تصبح كاتباً” أو “كيف تكتب رواية”. بكل ما في ذلك من تسطيح واستباحة لفعل الكتابة، كأنها كأي مهنة أخرى، دروة تدريبية تكفي أحدهم كي يحترفها، وكأن أمر الكتابة لا يعدو كونه تقنيّة ما يتم التدريب عليها لاكتسابها.
حسناً، حتماً أن القراءة هي الرفيق والتمرين الأهم والدائم للكتابة وأحد أسبابها، لكنها ليست هي. ولا يمكن للقراءة أن تتحوّل “خُلُقياً” لتصير كتابة. كما أنه لا يمكن للقارئ الجيّد أن يرغب في أن يصير كاتباً لمجرّد أنه قارئ جيّد. أي أن القراءة ليست شرط الكتابة، لكنها كما يقال في علم المنطق “شرط ضروري وغير كاف” أبداً.
لا أدري ما الذي قصده صديقنا حين قال بأني لا بدّ أن أكون في مرحلة القراءة في هذا العمر، رغم أني لست صغيراً ورغم أني أقرأ كثيراً (جداً)، وإن لم أكن من أولئك الذين يجيبون على سؤال الحوارات الأول بأنهم منذ نعومة أظفارهم وهم يقرؤون للمتنبي. بل كنت حينها أتفادى، وأهرب من، دروس تجويد وتحفيظ القرآن، إن اعتبرناه نوعاً من القراءة والأدب.
ما أعرفه أني منذ نعومة أظفاري كنت أرسم، كنت الأفضل في الرسم أينما ذهبت، لكن انعطافاً ما حصل في القدر، تداركٌ ما، كقطار مسرع لم يكمل طريقه إلى وجهته، شيء ما حصل، لا أعرف متى وكيف، انعطاف في غير توقّع، أحدهم عبث في أحد مقابض السكك ليتحوّل مسار القطار. لكني حالما وصلت إلى المكان الغريب، نزلت من القطار حاملاً حقيبتي. تأملت المكان الجديد، أحببته، لعلّه أجمل من الوجهة المكتوبة على التذكرة في يدي. اخترت الإقامة هنا، بين النصوص.