فيلم “تناثر”: لغز اللقاء المحتدم بين الرجل والمرأة/ مصطفى قصقصي
ينجح الفيلم في سرد دراما نفسية تثير القلب والعقل، وفي تصويره للفردانية المفرطة كحالة عقم شعوري، وفي إدخال المشاهد إلى الغرف الداخلية لعلاقة زوجية تتهاوى جدرانها من دون ضجيج سياسيّ، إلاّ أن نجاح الفيلم يظلّ متفاوتاً في رسم الشخصيات رغم توفّر المواد الدرامية القوية
فيلم “تناثر”: لغز اللقاء المحتدم بين الرجل والمرأة/ مصطفى قصقصي
.
| مصطفى قصقصي|
في مشهد من فيلم توفيق أبو وائل الجديد، “تناثر”، الذي عرض مؤخراً في مهرجان حيفا السينمائيّ، تمشي نور، الزوجة الجميلة والعصابية، على حافة أحد الأسوار المطلّة من بعيد على القدس القديمة، وتمتحن قدرتها على “الطيران” والتخفّف من الثقل الوجوديّ الذي يشدّها إلى مكان ما يعتقلها بين براثنه غير المرئيّة، بينما يحذّرها زوجها الطيب والمكتئب من مغبة عملّ طائش قد يودي بها إلى الهاوية. ويتابعان بعدها مشيهما الغروبيّ المنحسر عن قدس ضبابية لا شيء يلمع فيها سوى ذهب قبة المسجد الأقصى.
تحضر المدينة بألقها الدينيّ الطاغي الذي يحيل البشر إلى ظلال، أو كينونات غامضة، عصيّة على السبر، أو آيلة إلى سقوط صامت و مكتوم، حيث لا صوت إنسانيّ حميميّ يعلو فوق صوت الجماعة وصوت معركتها من أجل خلاص سياسيّ أو روحانيّ موعود.
المشهد يختزل بمفردات بصرية قليلة وبأناقة متقشّفة عاطفياً، كسائر مشاهد الفيلم، خروج المخرج على سلطة التمثيلات والتنميطات التي غالباً ما تتحكم بأقدار الفلسطيني السينمائية، وتحرمه ممارسة حقه بالتخبّط والتأمّل في مصيره الإنسانيّ العاديّ، كأن يحب ويكتئب ويتشظّى لأسباب غير سياسية، أو أن يحقق ذاته أو أن يغترب عنها، أو أن ينشغل بهمومها الفرديّة “الثانوية”، باعتبار كلّ ذلك “زخرفات فلسفية” فائضة عن حاجة الواقع الفظّ والاستثنائي. هكذا يحتلّ الاحتلال الشاشة ويتسيّد المشهد الفلسطينيّ من الداخل ويغدو رقيبه الآمر الناهي الذي يتحكّم بشخوصه وخلجاتهم الفردانية، ويحجب ذواتهم ويقصيها إلى هامش الحدث “الأهم”: الذات الجماعية المجروحة والمقاومة.
لكن فيلم أبو وائل يسعى إلى الإفلات من مصيدة الصورة الجاهزة معلناً، عبر مقاربة ثورية في خفوت صوتها؛ الحدث الجوهريّ هو الذات وتقاطعاتها مع الذوات الأخرى، وبحثها الدائم عن تناغم معها أو عن معنى فيها أو سكينة من دونها.
يتحرّك أو “يتناثر” الفيلم داخل الفضاء الكلاوستروفوبيّ لعلاقة زوجية مغلقة تنفتح شبابيكها أو لا تنفتح على الزمن المخنوق في مدينة مقدّسة ومحتلّة، ويروي المعاناة البورجوازية لأبطال الفيلم المختلفين في حيّز احتلاليّ ينفذ هواؤه المحتقن في مسام الشخصيات وسلوكياتها ولا يحضر إلا ذبولاً في الروح والخطوات والنظرات وحركات اليدين وشوقاً إلى الحياة في مكان آخر.
إياد (طبيب) ونور (ممثلة صاعدة) يبحثان عن أفق لمأزقهما الزوجي في هجرة إلى مدينة تحتفي بجماليات الفردانية المتيّمة بنفسها، باريس. علاقتهما، المولودة في لحظة حياة غير مكتملة (تلجأ نور إلى الطبيب -زوجها المستقبليّ- ليساعدها على الأجهاض)، تترنّح وتدنو من موتها الذي يشبه انهيار بنيان بحركة بطيئة ومن دون سماع دويّ انفجار.
يصطدم مشروع هجرتهما بحدث مفاجئ يفجّر أزمة في علاقتهما المأزومة أصلاً. يتحوّل سفرهما المؤجل قسراً إلى سفر داخليّ في لغز اللقاء المحتدم دوماً بين الرجل والمرأة.
نجدهما بعد سنوات عديدة على لقائهما الأوّل، مضرّجيْن بالنقصان، هائميْن على نفسيهما في الفراغ المتولّد عن انخطافات نرجسيّة لا يغذيها شيء. مأساة النرجس في نسختها الزوجية. تتناثر الذات من داخل وليس من خارج، تحت وطأة سوء التفاهم المزمن بين الرجل والمرأة، بين الذكورة والأنوثة المتنازعتين بين سيطرة وخضوع، ويمرض الحبّ بتلك الجرثومة الخفية التي اجتهد الفلاسفة في التعرّف عليها من دون طائل، ويتسع الشرخ الأصليّ في الروح متكشّفاً عن عزلة متفاقمة.
فيلم أنثويّ بامتياز يلقي الضوء على الصدوع في علاقة الرجل والمرأة نتيجة لذلك الاغتراب وذلك الحجاب
تحاول نور أن تتماسك كذات مستقلة ومتفرّدة، وأن تلملم أجزاءها المتخاصمة، لكن محاولاتها مبتسرة، لا تفضي سوى إلى مزيد من التبعثر. شيء ما منكسر ومعتم في أنوثتها، وفي أمومتها غير المتحققة، تحاول فكاكاً من علاقة ذوبانية مع الأم، الفنانة المتحرّرة المصغية إلى أنوثتها من دون حرج، لكنها ترتطم بسطوتها النفسية الابتلاعيّة الهائلة. في مشهد التدريب على المسرح نشاهد رعبها إذ تكتشف نفسها الشاغرة وذاتها المقفرة من مضامين حقيقيّة تتكئ عليها وتنهل منها لكي تعيش وتحلّق، فتنتحل حكاية غواية سمعتها من أمّها وكأنها لا تمتلك حياة داخلية لكي ترويها ارتجالاً سوى تلك المستعارة من دون نجاح من أمّ مفترسة نفسياً.
إياد الزوج، معّذب بأطفالٍ لا يتشبثون بالحياة رغم محاولاته اليائسة، خائف من حرية زوجته ومن رغباتها القلقة وحاجتها إلى اعترافه بغيريتها. “هذه السفرة رح تخلّص عليّ”- يقول في بداية الفيلم، مستشعراً الوحشة الرابضة في كلّ حركة للذات نحو الآخر، أو نحو نفسها. ثمة موت في كلّ سفر، كما يقال. ينظر الفيلم بحنان إلى الأنثى العربية في سفرها المخيف والمؤلم نحو اللقاء بذاتها المغتربة والمحجّبة، لذا فهو فيلم أنثويّ بامتياز يلقي الضوء على الصدوع في علاقة الرجل والمرأة نتيجة لذلك الاغتراب وذلك الحجاب.
ينجح الفيلم في سرد دراما نفسية تثير القلب والعقل، وفي تصويره للفردانية المفرطة كحالة عقم شعوري، وفي إدخال المشاهد إلى الغرف الداخلية لعلاقة زوجية تتهاوى جدرانها من دون ضجيج سياسيّ. وسام جبران ينجز معادلاً موسيقياً مرهفاً للتناثر الدراميّ الذي يرسمه الفيلم.
إلاّ أن نجاح الفيلم يظلّ متفاوتاً في رسم الشخصيات رغم توفّر المواد الدرامية القوية. على سبيل المثال يتعذّر على المشاهد فهم الدوافع الأعمق لشخصيّة نور. كما نفهم القليل عن علاقة إياد بما يبدو كشخصية أمومية للممرضة التي تعمل معه. كما أنّ الفيلم، على جرأته، يحجم عن استكشاف ما يلمح إليه من هويات جندريّة مركبة كما في مشهد رقص الزوجيْن.
الممثلان الرئيسيان، لنا حاج يحيى وعلي بدارنة، يبذلان جهداً مقنعاً في إحياء العوالم النفسية الدفينة للشخصيتين، الأداء خالٍ من المبالغة والحوارات غير متكلّفة، اللغة الجسدية للفيلم جريئة وفيها إيروتيكيّة مهذبة ومنسجمة مع إيقاع الفيلم، ولكن لا يمكن التخلّص من الإحساس بأنّ الفيلم يتردّد أو يتكاسل في الذهاب بعيداً في الخوض في الأعماق النفسية للأبطال. إلا أنه يظلّ إنجازا هاما في السينما الفلسطينية الحديثة المثيرة حقاً (إنتاج فلسطينيي الداخل خاصّةً) في مسيرة تحريرها من استبداد الموضوع السياسيّ المباشر والميلودراماتيكيّ أحيانا، والعودة سينمائياً، بوصف محمود درويش، من” أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلام”.
2 نوفمبر 2011
يعاني هذا العمل من مشاكل عديدة تعكس ما مر به السيناريو من تغييرات، فالشخصيات الرئيسية لا تحمل دوافع حقيقة تقودها مما يفرغها من مضمونها ويحول الفيلم إلى مجموعة مشاهد جميلة استيتيكيا لا غير..أما الحوارات فهي متكلفة وتعكس حالة برجوازية غير واضحة المعالم وبالتالي مزيفة، فالشخصيات تتحدث بنبرة شعرية غير مبررة فنيا تحاكي تريفو ولكنها لا تتكئ على شيء يستحق…بحيث تخرج من الفيلم تبحث عن الصراع وتعتقد أن أمرا ما عميقا جدا قد فاتك بسبب عدم البناء للشخصيات وكانك كنت في معرض تشكيلي