عن عملية تبادل الأسرى: لا تأسروا الأسير مرتين…/ سميح غنادري
. |سميح غنادري| احتفائية الهزيمة وهزيمة الاحتفاء قال […]
عن عملية تبادل الأسرى: لا تأسروا الأسير مرتين…/ سميح غنادري
.
|سميح غنادري|
احتفائية الهزيمة وهزيمة الاحتفاء
قال إسحق رابين عن إسرائيل إنها دولة تتنقل بين “السكاندال والفيستفال”، أي من الفضيحة والبهدلة إلى المهرجان الإحتفالي، وبالعكس. هذا ما عايشناه في مهرجان استقبال الأسير المحرر غلعاد شليط، وما سبقه وما تبعه. ففضيحة أسره، وهزيمة بقائه في الأسر خمس سنوات وأربعة أشهر، وبهدلة فشل كل جرائم إسرائيل العسكرية ضد غزة لفرض إطلاق سراحه، يجري اختتامها بمهرجان “انتصار” استعراضي واحتفالي. وذلك استقبالاً للمحرَّر بناءً على اتفاق -لا استسيغ كلمة صفقةــ تبادل الأسرى.
كان هناك رئيس الحكومة ووزير الأمن وقائد الأركان وكبار رجال المخابرات والأمن (شاباك وموساد وشرطة). كلهم وقف وقفة “تعظيم سلام”، بذواتهم لذواتهم، احتفاءً “بالانتصار”. جعلوا من شليط النقيض للبطل، بطلاً قومياً رغم أنفه. تصرفوا وكأنهم يستقبلون عسكرياً مهولاً اقتحم مواقع العدو وأبلى فيها بلاءً حسناً حتى وقع بالأسر. وكأنهم أعادوه للبلاد إثر عملية عسكرية شجاعة أعدتها قيادة الأركان، أو إثر ضربة مخابراتية ذكية شلّت وقرفصت العدو وانتزعت البطل المغوار من بين أيدي آسريه.
ذكرتني هذه المشاهد السركية والبهلوانية بصورة جندي اسرائيلي عائد من حرب لبنان الثانية، مضرج بدمائه وشبه غائب عن الوعي ومحمول على حمّالة طبية، محاطاً بالأطباء، لكنه نجح بعد جهد جهيد برسم شارة النصر باصبعيه ـ V. أصبحت تلك الصوره في إسرائيل دليلاً على انتصارها. الجندي المضرج بالدماء والمشوّه والمحمول على حمالة طبية- رمز للنصر! على حرابك تعيشين يا صهيون. وعلى أكاذيبك تتغذين، وبهزائمك تحتفين وباحتفاءاتك تنهزمين.
وكان قد سبق ذاك السيرك الاحتفائي بتحرير شليط، التسمية السرية لاتفاق تبادل الأسرى بـِ “ساعة الإغلاق”. وهي صلاة الختمة التي تغلق العيد اليهودي “يوم الغفران”، وهو يوم يُكفّر فيه اليهود عن خطاياهم. فلأية “ختمة” ترمز الحكومة وعن أي غفران تتحدث، غير غفران دولة اليهود بذاتها لذاتها؟ لا يوجد أصلاً كمّ من الغفران والتكفير عن الخطايا يكفي لهكذا حكومة وهكذا دولة عصية عن الغفران والتكفير. ولا أستبعد أن يكون المنطلق لاختيار تسمية “صلاة الختمة”، بأن إسرائيل تختتم بهذا “غفرانها” للفلسطينيين بقبولها التوقيع على اتفاقية تبادل، فهذا قد يكون آخر اتفاق تبادل تقبل توقيعه. إذ أن الأمور تتجه، حيب التوصيات الجديدة، نحو تبادل أسير بأسير وجثة مقابل أخرى. وأظن أيضاً أن من وقـّع على اتفاق التبادل من الطرف الفلسطيني قد يكون وقع على صك اغتياله من قبل إسرائيل. لأنها لا تغفر لمن يهزمها ويمرمغ أنفها بالتراب، وإن احتفت بهذا التمريغ كيوم نصر.
بعد “يوم الغفران” يأتي “عيد العُرُش”. يخرج الناس فيه من بيوتهم للعيش في عرائش احتفائية لا يتركونها إلا عشية يوم “فرح التوراة” ــ نزول التوراة على شعب إسرائيل. وفيها يعد الله “شعبه” بتحكيمه على أوطان الآخرين ورقاب شعوبها ونباتاتها وحيواناتها أيضاً. فإذا كان هذا صحيحاً، وليس مجرد أسطورة، وإذا كان الله حقاً يختار شعباً واحداً من سائر شعوب الناس الذين “خلقهم على صورته ومثاله”، ويجيز إبادتهم وأوطانهم… أعلن كفري بهكذا “الله”. وأقول حاشاه أن يكون على شكل نتنياهو وحكومته، وسابقيه وسابقاتها، من الفارضين على شعبنا العيش في عرائش وخيم اللجوء القسري منذ 62 عاماً. ويتهمونه، هو الخارج من المخيمات، بالإرهاب لأنه خطف جندي إحتلال أملاً وسعياً منه لاستعادة أسراه ووطن مخطوف…
الأجدى بمن يحتفي بعودة شليط أن يعدّ نفسه للتوقيع على اتفاقية تبادل جديدة إثر عملية اختطاف جديدة، ما دام الشعب الآخر بعيش في عرائشه ــ خيمه. أو يجنح نحو السلام العادل…”سلام الشعوب بحق الشعوب”، فتتحرر عندها الأوطان وأبناؤها من جدلية المخطوف الخاطف والخاطف المخطوف.
الآسر المأسور والأسير الآسر
دعونا نتحدث “دُغري”، كما قال نتنياهو في الأمم المتحدة -لكنه تحدث بالأعوج. شليط ليس طفلاً ولا ولداً، ولم يُخطف من أمه وأبيه حين كان معهم في نزهة عائلية. ولم يكن ابناً ضائعاَ أعيد إلى أهله، وما من عصابة اختطفته مطالبة بفدية مالية. شليط… جند د د ي ي ي. جندي “اختطفته” إسرائيل من أهله “ونفته” إلى حدود غزة ضمن كتيبة عسكرية محاربة، لحراسة الاحتلال وضمان أمن خطف حرية واستقلال الفلسطينيين.
لنتحدث “دغري”: لم يخطف الفلسطينيون المخطوف وطنهم شليط من غرفة في بيته. اختطفوه جندياً مدججاً بالسلاح من داخل دبابة هي الأفضل تحصيناً في العالم، ومن بين أيدي طاقمها العسكري في أثناء أداء مهمتهم العسكرية. وكانت الدبابة داخل معسكر لجيش من أفضل الجيوش تسلحاً في العالم.
لنتحدث “دغري”: لم توفر حكومة إسرائيل وجيشها أية جريمة إلا وارتكبتها بحق غزة وأهلها، خلال كل سنوات الاختطاف، بحجة تحرير شليط. لكن جيش إسرائيل “الكلي القدرة” والذي “لا يقهر”… انقهر ولم يقدر على الوصول إليه. أما “الموساد” وسائر تنظيمات المخابرات العسكرية الأمنية “القادرة على الوصول لأي مكان في العالم”، فلم تنجح بالعثور على مكانه، ولا حتى بشراء ذمة فلسطيني واحد يدلها عليه.
لذلك ما من مكان هنا لا لاتهام المقاومة باختطاف ولد من أهله، ولا لمجد يبرر الاحتفاء الرسمي والعسكري بعودته. وإذا كان يستحق أحد التمجيد والاحتفاء فهو المقاوم الذي “لا يقهر” و “كلي القدرة” والمتمكن من “الوصول لأي مكان” والحافظ للسر والمحافظ على صحة الأسير، والفارض على إسرائيل تحرير 1027 سجيناً مقابل تحريره.
لا نتطفل بهذا ولا نتطاول على احتفاء أهل شليط وعموم الناس العاديين بعودته. فنحن الفلسطينيون، العطاشى للفرح الإنساني، لا يجوز لنا ألا نفرح للفرح الإنساني للآخرين. سمعتها ورأيتها تلك الأم ــ الجدة الفلسطينية، حين ظهرت على شاشة التلفزيون ودموع الفرح تغمر وجهها الكهل وتغطي أجاعيد عليه حفرها طول مأساة اللجوء والاحتلال، وعشرون سنة حرمان من ضم ابنها السجين إلى صدرها. كانت تنتظر وصول موكب تحريره وزملائه عائداً إلى زوجته وأطفاله الذين كبروا وأصبحوا رجالاً بغيابه. قالت الأم ــ الجدة: “آه أنا فرحانة بعودة ابني إلي ولبيته، والدنيا مش واسعتني. وفرحانة كمان بفرح أم غلعاد بعودة ابنها لعندها”.
أما المهرجان الاحتفائي النتنياهي ــ الأمني ــ العسكري فكان مهرجان كراهية وترح، لا فرح. هدد فيه نتنياهو بالإطاحة بمزيد من رؤوس الفلسطينيين. وصوّرهم وحوشاً يحتفون ويرقصون لتحرير القتلة، ويحملونهم على أكتافهم في مهرجانات كراهية وموت. هذا دون أن يعي أن فرحته هو الفاشل عسكريا ومخابراتيا في تحرير شليط، والمحاصر والمدمر لغزة في سبيل ذلك، أشبه بفرح الراقص على جثث القتلى من ضحاياه.
حرص نتنياهو في مهرجانه الاحتفائي لتعظيم ذاته، وهو المهرج والمخرج والممثل القادر، على تمثيل دور الأب الحنون بعناقه الأسير العائد ــ عناق الدب ــ وعيناه تتجهان نحو الكاميرا…”صوّروني، صوّروني”. لا نعرف إذا كانت قد خطرت عندها في ذهن غلعاد شليط القصة للأطفال التي كتبها عندما كان طالباً. اسم القصة: “عندما التقى القرش والسمكة الصغيرة لأول مرة”… لكن ما من شك عندنا أنه خطرت ببال نتنياهو أن الصورة تساوي ألف كلمة. آسف، أقصد تساوي ألف صوت… في انتخابات قادمة تثير فزعه. فالذي خاطر وتاجر بالأسير وهو في الأسر، لا يتورع عن استثماره في صناديق الاقتراع. هذا هو “ايتوس” ــ أخلاق نتنياهو وائتلافه الحكومي.
أما كاتب هذه السطور فخطرت بباله فكرة أن الجندي غلعاد تحرر من أسره الفلسطيني بإرادة خاطفيه. فمن يحرر المواطن شليط من أسره الإسرائيلي، ومتى تتحرر فلسطين من أسر احتلالها؟ لقد تشهّت هذه البلاد، فلسطين التاريخية التي أصبحت وطناً مشتركاً لشعبين، الفرح منذ مائة عام. وتقدست تربتها ليس لكونها مهدا للأديان فقط، وإنما لكثرة ما تشبعت بدماء ودموع المرارة والمعاناة لأهلها، وعطشا للحرية والفرح.
الآسر أصبح مأسوراً، والمأسور آسرا. وكلهم ولدوا بشراً، ناسا لم يحلموا بأن يصبحوا جنوداً لاحتلال وطن ولا مقاتلين لتحرير وطن. ولن تتحرر فلسطين من مأسوريتها إلا إذا تحررت من أسر الاحتلال الاسرائيلي. ولن تتحرر إسرائيل من مأسوريتها إلا إذا حررت نفسها من أسر احتلالها لفلسطين. فمتى يتحرر شعبا البلاد من هذا الأسر المزدوج؟ لقد صدق كارل ماركس حين قال: “إن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً”. وأضيف أن من يسلب حق الفرح من الآخرين، لا يمكن أن يكون فرحه أخلاقياً وإنسانياً.
عجز البطولة وبطولة العجز
ثمانون بالمائة من سكان إسرائيل، حسب الاستطلاعات، يؤيدون اتفاق تبادل الأسرى وفرحون لتنفيذه. لكن قبل أن تجف دموع الفرح، امتلات وسائل الإعلام بالمرارة التي تشوب ذاك الفرح، وذلك من خلال التوصيفات التالية للاتفاق: “الصفقة عسيرة الهضم” و “خنوع وخضوع مهين لإسرائيل” و “إهانة قومية” و “تركيع للدولة على ركبتيها” و “تآكل للردع” و”فقدان للصمود” و”نتاج عجز” و”انتصار للعاطفة على العقل” و”مصيبة وانهيار سياسي” و”هزيمة مدوّية لإسرائيل”. وهي كذلك: “تحرير بالجملة وأشبه بالتصفية العامة للبضاعة” و”جائزة تشجيع للإرهاب” و”تفريط بالمستقبل لصالح الحاضر” و”خطر أمني استراتيجي” ونتاج “فشل ذريع للجيش وللمخابرات وللقيادة السياسية”.
من الخطأ الظن أن هذه التوصيفات أعلاه لاتفاق التبادل تعود فقط لبعض غلاة اليمين السياسي الأكثر تطرفاً. إذ أنها بغالبيتها صادرة عن شخصيات وسطية وليبرالية وحتى شبه يسارية. فأمام عنجهية وأكاذيب نتنياهو، ومن لفّ لفّه، بأن الاتفاق نتاج لشجاعته وحكمته وتميز قيادته…علت الأصوات القائلة بأنه “يكذب، ومهرج خطير”. لأنه بدلاً من الاعتراف “بأننا انهزمنا وفشلنا”، وبدلاً من أن يفتح الآفاق نحو حل سياسي حكيم وآمن وعادل للجميع، والاعتراف بخطأ وخطورة أيديولوجيته وممارساته السياسية، يستمر فيها ويتوّج رأسه بإكليل غار لنصر متخيل.
لماذا ركعت إسرائيل ووقعت الاتفاق؟ ليس لأن “حماس” تراجعت عن بعض شروطها بخصوص المخطط الهيكلي الأولي للاتفاق، فتراجع حكومة إسرائيل عن اشتراطاتها التي كانت أكبر بكثير. لقد اضطر نتنياهو للحس كل شروطه وأيديولوجيته القديمة التي بنى عليها إلى حد بعيد شعبيته المحلية والعالمية وصعوده المراكزي، وضمّنها مؤلفاته. نقصد تنظيره لرفض “التفاوض مع الإرهابيين” و “عدم الخنوع للضغوط” و”الخطوط الحمراء”. وهي أيديولوجية متطرفة ولا أخلاقية، وكانت قد قادته إلى رفض كل اتفاقات التبادل السابقة.
لكنه خنع وتراجع هذه المرة، عن قصر ذيل يا أزعر، لا بسبب نضوجه السياسي والقيادي. وإنما لأن إسرائيل لم تستطع، عسكريا ومخابراتيا، تحرير أسيرها. ولم يخنع الفلسطينيون رغم ضغوط وحروب وحصار إسرائيل. وكان للحملة المدنية الجماهيرية الواسعة التي أطلقتها عائلة شليط أثر كبير على تصاعد رأي عام جماهيري ضغط باتجاه توقيع الاتفاق. لدرجة أن بعض المعلقين في إسرائيل قرروا أن حكومة نتنياهو كانت “تفاوض” عملياً عائلة شليط والحملة المدنية الإسرائيلية المطالبة بتوقيع اتفاق تبادل أكثر من مفاوضتها لحماس.
نعتقد أيضا أن التغييرات السياسية في المنطقة وعلى الصعيد العالمي، قادت هي بدورها إلى الموافقة على عملية التبادل وسرّعت التوقيع. نقصد ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي (مع أن فيه الكثير من الخريف) والأوضاع في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان وتركيا ولدى حماس أيضا، والرغبة بالضغط على القيادة الفلسطينية بسبب توجهها للأمم المتحدة وعدم خضوعها لإملاءات إسرائيل. وكذلك كل ما يتردد ويشتم من التغيّر الحاصل في التوجه الأمريكي والأوروبي تجاه الحركات الإسلامية في المنطقة وتساوق تلك الحركات مع ذاك التوجه الجديد… والرغبة بالتفرغ للملف الإيراني. هذا لا ينفي أن إسرائيل خنعت بتوقيعها. لكن هذا خنوع فيه الكثير من الاضطرارية ــ مكرهاً أخاك لا بطل، وفيه الكثير من البراغماتية ومن مواصلة العمل لتحقيق الأهداف إياها لسياستها القديمة في ظل أوضاع سياسية جديدة. أي أنه ما من “حلو” جديد تعد به إسرائيل، فجعبتها مليئة “بالمر” القديم إياه مموّها “بحلاوة” مريرة…
نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” (بتاريخ 21 أكتوبر) رسما كاريكاتيريا لجلعاد شليط النحيف الضعيف وهو يحمل على كتفيه، أي يمتطيه، نتنياهو بجسمه السمين الثقيل مؤشرا بإصبعيه شارة النصرـ V، وراسما على وجهه ابتسامة خبيثة. وكتب المعلق السياسي مئير أورين، في صحيفة “هآرتس” بتاريخ 14 أكتوبر، أن نتنياهو تصرف مثل تشمبرلن بتصويره للهزيمة انتصاراً، لكنه يعتقد أنه سيصبح تشرتشل. أي، وهذه إضافة مني، هو يعتقد أنه سيصبح بطلا يفرض هيبته ورهبته على أعداء إسرائيل.
لم تتميز السياسة الرسمية الإسرائيلية بالبطولة. وفائض قوة إسرائيل المدّعى ما هو إلا ننتاج فائض في العجز العربي. وحين “يأتيك يا بلوط مين يعرفك” تتلبك أمعاء إسرائيل وتعملها في سروالها. ولا توجد أية بطولة في تحرير أسير مقابل 1027 أسيرا. وإنما البطولة هي في فرض تحرير 1027 مقابل واحد. وتبقى البطولة الأكبر تحرير شعبي البلاد من أعباء البطولات الكاذبة والعجوزات الفاضحة الرابضة على أكتافهم.
وما عملية تبادل الأسرى إلا دليل جديد على أن البطولة (الإسرائيلية) تكون عاجزة أحياناً، وأن العجز (العربي) يكون بطلاً أحياناً، إذا ما أخذت الشعوب زمام أمرها بايديها.
الغيرة من الآخر غيرة على الذات
لكل أسير/ سجين وطني/ اسم. لكل أسير قصة. ولكل واحد منهم يوجد جد وجدة، أم وأب، أخوة وأخوات، أبناء وبنات، زوجات وحبيبات، ينتظرون وينتظرون. كم عدد الأسرى الفلسطينيين، إذ كدنا نضيع تائهين بين تعداد الأرقام المنشورة. وما هي القصة الخاصة بكل واحد/ة منهم وبأهاليهم؟ كيف يبدون، ما هو عملهم وتحصيلهم العلمي وهواياتهم، بماذا يحلمون، وماذا يفضلون من مأكل وشراب، وأي كتب يقرأون ولأية أغان وموسيقى يستمعون؟ ألا توجد صورة لأحدهم وهو يسبح في بحر غزة، يزرع شتلة عنب في الخليل، يصنع صابونا في نابلس، يقطف خضاراً وفواكه وزيتوناً في جنين. أو يشم وردة في منتزه في رام الله، يرقص في فرح، يدمع في ترح، يقرأ ويتعلم في مدرسة أو في جامعة، يضع رأسه في حضن أمه، يضم زوجته/حبيبته إلى صدره، يداعب طفله في حديقة ألعاب، يعلّق على جدار غرفته صورة قريته التي هُجّر منها، ومفتاح بيته فيها. بشراً هؤلاء، ناساً هؤلاء لا أرقاماً. فلا تغربونهم عن بشريتهم، ولا تبعدونهم عن التحامنا الإنساني بإنسانيتهم. تقولون إنهم أكثر من أن نستوعبهم ونعرّف بهم جميعاً. أقول فليهتم كل ألف منا بواحد منهم وبالتعريف به.
أنظروا ماذا فعلت عائلة شليط وكل الحراك المدني الجماهيري الإسرائيلي في حملة الضغط على الحكومة الاسرائيلية للعمل على إطلاق سراحه. جندوا البلاد والعالم عن طريق التعريف به ــ وسائل إعلام وفنانين وكتاب، مسيرات واعتصامات وسكن في خيام وحتى في زنزانة تحت الأرض يدخل لها الناس، فرداً وراء الآخر، وكلٌ لوحده ليعيش تجربة وحدة شليط ويذوّتها. عفوية العائلة الهادئة اندمجت بذكاء وخبرة مخططي الحملة من مكاتب إعلام ودعاية وعلاقات عامة. صوروا شليط ولداً، شابا بريئاً وحنوناً ضعيفاً، “ابننا جميعا”. لم ينشروا صورته مرتديا ثياب الجندية، وإنما اختاروا صورة قديمة له بلباسه المدني وهو مرتاح في بيته، يبتسم ويفكر.
كل امرأة اسرائيلية احست أنه ابنها الجالس في الغرفة المجاورة أو أخيها الذي افتقدت مداعبته لها. أدخلوه لكل بيت ولكل قلب. وعرّفوا كل الناس به وأجلسوه على ضمائرهم، حتى أصبحت مهمة الضغط لتحريره ليس واجبا على الأهل فقط، بل واجب كل بيت، كل إنسان. ولم ينسوا أن يخبرونا ما هي وجبة الفطور التي يفضلها وكيف يحب أن تـُطبخ وجبة الدجاج أو المعكرونة. شليط الانطوائي اللامعروف والذي لا يتميز بصفات خاصة، عدا عن كونه إنسانا عادياً، أصبح الأكثر شهرة في البلاد وفي شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي من فيس بوك وتويتر. وأمام بيت رئيس الحكومة جرى تعليق عداد يبيّن يومياً عدد الأيام التي مرت عليه وهو في الأسر. وشعر عشرات الآلاف أنهم هم أيضاً مأسورون، وأصبح طول فترة الأسر واستمراره فوق احتمالهم. أصبح شليط إثر هذه الحملة “أيقونة”. وأصبحت المشاركة في حملة الضغط على الحكومة لإطلاق سراحه أشبه بالميسيانية والتجربة الدينية والتطهر النفسي والروحاني.
أعرف أن الطبيعة الانسانية تميل إلى التضامن والتعاطف مع الفرد الذي تعرفه. وأعرف أن معاناة الفرد الواحد حين يتعرف عليها الجمهور تصبح تراجيديا عامة. أما معاناة الآلاف، وهذا هو عدد الأسرى الفلسطينيين، فتصبح مسألة إحصاء جاف. لكن أعرف أيضاً أن الآلاف يتألفون من افراد. ولكل فرد اسم، ولكل فرد عائلة، ولكل فرد قصة. فلْنـَروِ قصصهم. الأسرى ليسوا كماً حسابياً، ليسوا قطيعاً بشريا، إنما أفراداً، ولدوا وكانوا مستعدين للجود بحياتهم لصالح المجموع. ألا فليحاسب نفسه المجموع من سلطات مسؤولة ومؤسسات مدنية وأحزاب وحركات مقاومة…الخ/ ماذا فعل حتى يصبح كل أسير واحداً منا يفتقده بيتنا وضميرنا ووعينا الجماهيري الوطني.
هل أغار من الحملة المدنية في إسرائيل لاطلاق سراح شليط؟ نعم أغار، جداً أغار. ومن شدة غيرتي على شعبي أغار. ولشعبي أناشد: لا تأسروا أسراكم مرتين، يكفيهم أسرهم الإسرائيلي. ولشعب شليط أقول: عندكم “شليطكم” وعندنا كذا ألف “شليط”، أسماؤهم: علاء ومريم وشادي وندى وعيسى وحنين و…، وأضيف: احتلالكم لوطني ولشعبي هو الذي أسر أبناءكم قبل أن يضطر شعبي المأسور لأسره. فلا تسمحوا أنتم أيضا بأسر أبنائكم مرتين، مرة بسياسة احتلالكم التي تسمّم شعبكم، ومرة من قبل شعبي لأنكم تحتلونه. تضامنكم الإنساني، الذي أتفهمه وأقدره، لإطلاق سراح ابنكم شليط لن يكتمل، أخلاقياً وإنسانياً، إن لم يتبعه التضامن والعمل لإرجاع كل أسرى المقاومة إلى بيوتهم، ولتحرير البلاد كلها من أسر الاحتلال لشعبيها:
عسى الكربُ الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريبُ
فيأمن خائف ويُفَكُ عانٍ
ويأتي أهله النائي الغريبُ