كل ما أردت..أن أكون في مصر!/ راجي بطحيش
. |راجي بطحيش| اختلقت في الشهر الماضي جميع الأسباب -أكث […]
كل ما أردت..أن أكون في مصر!/ راجي بطحيش
.
|راجي بطحيش|
اختلقت في الشهر الماضي جميع الأسباب -أكثر من مئة ألف سبب- أبرر فيها نيتي زيارة مصر في إجازة العرش القصرية. كانت أولى الحجج وأسخفها على الإطلاق هي سعيي لإخراج شهادة وفاة وأوراق ثبوتية لعمي الذي كان يعيش في القاهرة وتوفي في ظروف طارئة وغامضة قبل عشر سنوات (يمكن استخراج هذه الوثائق عبر السفارة الفلسطينية بالقاهرة). أما الحجة الثانية فكانت محاولة تنظيم توقيع لكتابي الأخير “بر-حيرة-بحر” من قبل بعض الأصدقاء القاهريين من الحقل الأدبي. أمّا الحجة الثالثة فكانت رغبتي بكتابة مجموعة نصوص عن مصر ما بعد الثورة من خلال شخصيات كنت أنوي مقابلتها ومحاورتها من وجهة نظر شخصية حول السينما المستقلة، والموسيقى والشعر والمثلية وغيرها.
كل هذه الحجج كانت واهية وغير مقنعة على الأقل بالنسبة لي أو بالأساس بالنسبة لي، خاصة أنني كنت سأسافر وحدي وأقيم وحدي في أحد الفنادق. فقبل زيارة القاهرة لا حاجة لتخطيط أي شيء… تتناسل الأمور وحدها.. هكذا… وأحيانا تتغير كل المخططات ولا يحدث شيء بمجرد أن يتعثر الشخص في أزمة سير على “كوبري 6 اكتوبر” في طريقه من وسط البلد لمنطقة مصر الجديدة أو بالعكس. كل الحجج إذا منطقية وقابلة للحدوث ولكنها قد لا تحدث أيضا. أما السبب والذي أكشفه بعد فوات الأوان أن رغبتي كانت بزيارة “القاهرة” والتواجد هناك… ببساطة هكذا. فالقاهرة هي مدينة شبابي بامتياز. فذلك هو المشهد المديني الحقيقي الذي ارتطمت فيه منذ البداية، المشهد المديني بالعربية؛ فحيفا والقدس وتل ابيب-يافا كانت تبدو كالقرى الصغيرة والفقيرة بعد كل مكوث في القاهرة لزيارة دار عمي والفرار من الفندق والتسكع في الشوارع وخوض المغامرات التي يتضح بأثر رجعي أنها خطيرة جدا. ولكنه الإحساس بالألفة والأمان والبيت في المدينة التي كان دفء حضنها يذوب كل خوف ورهبة.
لا زلت أذكر كيف كانت أمي تنتظرني ذات ليلة وانا في التاسعة عشر من عمري في بهو فندق “سميراميس” هي وأختي وشرطة السياحة والكثير من نزلاء الفندق في الساعة الرابعة فجرًا بعد ان خرجت من الفندق برفقة منتج وعد أن يكتشفني ويقدمني نجما للسينما. لا يهم ما حدث ليلتها.. ولكنني لا زلت باستطاعتي أن أستحضر ذلك الألم الخفيف في بطني والممزوج باللذة وأنا خارج من الفندق بإتجاه كورنيش النيل نحو بريق الشهرة وأضواء المجهول ودغدغة الخطيئة. تلك هي القاهرة مدينتي التي فضت بكارتي الكاثوليكية بأناقة عذبة لم أعرفها في مدينة أخرى..
عندما حصلت أحداث السفارة الإسرائيلية كنت بصدد تقديم طلب الحصول على فيزا ووجدتني أحوم بالسيارة حول مقرّ السّفارة المصرية في شارع بازل في تل أبيب مستثقلا الذهاب مباشرة وتقديم استمارة الطلب، ولكنني لم أجد في جميع المرات مكانا أوقف فيه عربتي (حجة أخرى) أو أنني لم أرد خيانة رغبة الثورة في قطع العلاقات الإسرائيلية المصرية. فسلمت جوازي لمكتب سياحة نصراوي وحصلت على الفيزا بسهولة مريبة شجعتني على السفر. وبما أننا كبشر نسعى دائما “لتجميد” علاقتنا بالأماكن وحفظها كما يناسبنا ويحلو لنا فقد جاءت أحداث ماسبيرو المؤلمة في 9 أكتوبر لتزرع الهلع في بدني قبل أسبوع تمامًا من موعد السفر. الهلع والوساوس والسيناريوهات المرعبة. خفت (ويا لأنانيتي) من أن تتحول مشاعر الأمان والألفة والبيت لمشاعر ريبة وخوف ورغبة بالهروب وبالتالي ذكرى… ماذا لو أوقفني أحدهم في الشارع وطلب مني جواز سفري واكتشف الجواز الإسرائيلي… كيف سأتجول بالجواز الإسرائيلي وسط هذه الظروف وهذه السجالات؟ وكيف سأميز فلول الوطني من الناشطين الحقيقيين؟ وما موقفي مما يحدث؟ لم أعد أعرف… وهل يمكنني أن أصرح بسهولة في جلسات المثقفين كما لسائق التاكسي وبصفتي مسيحي سابق أنني غير مقتنع بالنضال على أساس طائفي وأن الإنسان بفطرته وبغايته ليس كائنا دينيا بمعنى أنه ليس أيقونة دينية على شكل الله، بل إنها خدعة وأن الأقباط لديهم ما يكفي من الكنائس واحتجاجهم يجب أن يكون جزءًا من النضال الوطني المصري الشامل من أجل الحياة الكريمة والكرامة والحرية أولا وأخيرا ووجودهم لا يُختزل ببناء أو هدم مبان مقدسة إفتراضيا لا تساهم بشيء في رفاهية الفرد. وماذا لو احتد النقاش بيني وبين أحدهم وقرّر متكرما انني لست فلسطينيا بل إسرائيلي لأجد نفسي منبوذا في أحسن الأحوال في مدينة شبابي أنتظر موعد الطائرة المغادرة إلى تل أبيب قرب قبر عمي.
ولكني لم أُلغِ رحلتي إلا عندما اتصل بي محامي العائلة ليبلغني أنّ موضوع الوثائق غير مُلحّ وهو يحتمل شهرًا إضافيًا وتلك بحق حجّة قوية.