ظمِئ الشرق، فيا شام اسكبي…/ سميح غنادري
حوار ليس بخصوص سوريا فقط
ظمِئ الشرق، فيا شام اسكبي…/ سميح غنادري
|سميح غنادري|
اخترقت مواقفنا المتناقضة نحن العرب الوطنيين، من الوضع الجاري في سوريا، حتى البيت الحزبي الواحد بخلفيته الأيديولوجية الواحدة. فكم بالحري المستقلين واللامؤطرين على اختلاف مشاربهم؟ وظهر على السطح أن مواقفنا المتناقضة قد تصل حدّ العداء، وكأن أصحابها يقفون على جانبين متحاربين من المتراس. هذا مع العلم أنهم يقفون على جهة واحدة، رغم اختلاف وتعددية وحتى تناقض المواقف.
يدعم أحدنا النظام السوري، وآخر يدعم المعارضة، وثالث يقف ما بين البَيْنين. هو يعترف بضرورة إجراء إصلاحات في النظام، لكنه يشكك بنوايا المعارضة وبمن يقف وراءها، وينبّه إلى أن المستهدف هي سوريا المقاومة التي تتعرض لمؤامرة الثالوث: الاستعمار الأمريكي والأوروبي، وإسرائيل الصهيونية، والرجعية العربية.
لكن رغم هذا، لسنا أمام آراء -خطوط مستقيمة- لا تلتقي. والأقرب للحقيقة هو أنه يرتسم أمامنا مثلث واحد غير متساوي الأضلاع. وفي تعدّد أضلاعه –مواقفه– اختلاف لا خلاف عدائي، إذ يجمعها المنطلق الوطني الجامع. خصوصا أن كل ضلع منها قد يُبرز جانبا وموقفا يقلقه ويهمه في الأساس، فيغفل عن وجود جانب آخر لا يعتبره هو الأساس. وبناء عليه قد نجد في حقيقة كل موقف من هذه المواقف الثلاثة بعض الخطأ، وفي خطا كل منها بعض الحقيقة. هذا مع وجود الاختلاف في ما بيننا – وهذا طبيعي – في تقدير مدى هذا الخطأ والحقيقة.
لذلك، من الأجدى بنا جميعا، و”بشبيحة” الفكر من بيننا، ألا نسرع في إطلاق أحكام الإدانة للموقف الآخر منكرين منطلقه الوطني. لقد وصلت الإدانة إلى حد التخوين حين، مثلا، قال البعض إن الذي تظاهر في الناصرة تضامنا مع الشعب السوري وضد ممارسات النظام… تماهى مع الموقف الإسرائيلي الرسمي المتآمر(؟!). علما أنه من الأجدى بنا وبقضيتنا الوطنية، في بلادنا هنا وفي سوريا هناك، أن نحدّد نقاط الاختلاف في ما بيننا حتى نعرف نقاط الاتفاق وعلى ماذا نتحد. بكلمات أخرى: دعونا نختلف حتى نتفق!
..
جدلية السياسة والأخلاق…
لم ألحظ في موقف أي متضامن وطني مع الحراك الاحتجاجي للمعارضة السورية، إنكارا وتنكرا للدور الوطني لسوريا النظام الحاكم، ولرفضها التبعية للمخطط الإمبريالي والرجعي تجاه الشرق الأوسط والقضية العربية عموما. كذلك الأمر بخصوص إصرار الدولة السورية على بناء علاقاتها، في المنطقة وعلى الصعيد العالمي، خارج خيمة ما يسمى بـ”محور الاعتدال” (اقرأ/ي محور التفريط). هذا عدا عن ممانعتها ودعمها للمقاومة. مع العلم أنه توجد عندنا ملاحظات سلبية عديدة حتى بخصوص بعض سلوكيات النظام في هذا المجال أيضا. ننتقد النظام السوري لأنه بعدم تنفيذه لإصلاح طال انتظاره، وبدكتاتوريته وبإذلاله المهين لشعبه اقتصاديا واجتماعيا وحرية، وبقمعه الدموي… يمسّ بأبسط حقوق وقيم الكرامة المعيشية والعدالة الاجتماعية للمواطنين. وبهذا هو يسيء ليس فقط لشعبه معيشيا، وإنما أيضا لنجاعة وحصانة الشعب والنظام في إفشال المخططات الإمبريالية إزاء سوريا والمنطقة. أي أننا نعارض النهج السلوكي للنظام ونتضامن مع المعارضة، من منطلق الدفاع عن حقوق الإنسان السوري، ولتعزيز ممانعة النظام وتصدّيه للمخطط الإمبريالي والصهيوني والعربي الرجعي. ولا يجوز أو يمكن أصلا الفصل بين الأمرين، مع ضمان تحقيق الهدف الوطني المنشود. ومن يفصل بينهما يمس بصالح الإنسان وبصالح الممانعة، ويخدم موضوعيا عندها المخططات الغربية والرجعية المبيّتة ضد سوريا، نظاما وشعبا.
يقارع الناس الاستعمار ليس من باب الرغبة بالمقارعة لأجل المقارعة، وإنما دفاعا عن مصالحهم وعدالة قضيتهم التي يدوسها الاستعمار. وفي مقارعتهم هذه يريدون تحقيق تطلعاتهم المعيشية وذواتهم الإنسانية وكرامتهم وامتلاكهم للوطن ولمقدراته ولمصيرهم ولحقهم بالديمقراطية وبالحرية، قولا وفعلا. لكن الحاصل في سوريا وغيرها هو القمع لهذه الحقوق والقيَم… بحجة الانشغال بمقارعة الاستعمار. أي أن حكام العرب أصبحوا يقارعون الاستعمار عن طريق “استعمارهم” هم لاوطانهم ولشعوبهم!
هذا هو الحاصل إلى حدٍّ ما في سوريا. إذ توجد هوّة سحيقة بين القول والفعل، وبين الخطاب السياسي للنظام السوري إزاء الخارج، وممارساته السياسية والاجتماعية إزاء الداخل. وهنالك فصل بين السياسة والأخلاق، والممانعة والعدالة الاجتماعية، والادوات والأهداف، والتنظيم والفكر… إلخ. ولا بد إلا أن يؤدي هذا الفصل الميكانيكي إلى تشويه المجتمع ككل، نظاما وبشرا، اقتصاديا واجتماعيا وحقوق إنسان. وكذلك إلى اتساع الهوّة بين الحاكم وبين الناس. فالنظام يضمر ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل، ويفعل عكس ما يقول. أما الناس الذين طال انتظارهم للخلاص وطال قمعهم وفقرهم… فينتفضون. يقومون بهذا ليس ضد ممانعة النظام في مواجهة العدو الخارجي، وإنما ضد “استعمار” النظام لهم. وهكذا أصبحت المعارضة، لا النظام، هي… قوى الممانعة والمقاومة حقا التي تستأهل الدعم!
يرفض النظام السوري فهم حقيقة أنّ العلاقة بين السياسة والأخلاق، وبين الوسائل والأهداف، علاقة جدلية مترابطة ومتبادلة التأثير. ففصل الموقف الأخلاقي عن السياسي، وتنفيذ الهدف الوطني المنشود بأدوات قمعية ولا أخلاقية… يقود حتما إلى ضد السياسة والأهداف الوطنية المنشودة. ثم الأهداف بحد ذاتها وفي نهاية المطاف ليست هي أهداف لذاتها وبذاتها وبمعزل عن رفاهية الإنسان وحريته. فالاشتراكية، مثلا، هدف لكل حزب شيوعي. لكنها في الوقت نفسه أداة ووسيلة لصالح الإنسان. وإن لم تكن هكذا، فإنها تكف عن كونها اشتراكية رغم وجود الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.
بنى ستالين “الاشتراكية” في الاتحاد السوفييتي عن طريق تأميم وسائل الإنتاج وتعميم الملكية الجماعية. لكنه فعل هذا على جثث ما يقرب 25 مليون ضحية من المواطنين (ما يساوي عدد كل شهداء الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية ضد النازية). فكانت الاشتراكية التي بناها تعميما للفقر وللقمع. هو حقق الهدف –بناء الاشتراكية- لكنه بناها بدماء شعبه التي أسالها. وجعلها، ثانيا، هدفا مطلقا بغض النظر عن مضمونه، لا أداة ووسيلة هي الأخرى لضمان رفاهية الإنسان. بهذا زرع ستالين البذور لانهيار مستقبلي، ليس فقط للاشتراكية وإنما لدولة الاتحاد السوفييتي عموما، رغم أن “ورثة” ستالين بذلوا جهودا للتخلص من الفكر الستاليني، لكنها لم تكن لا كافية ولا جذرية.
الشيء بالشيء يُذكر. وكل تشبيه يعرج ويعجز عن تبيان تعدد أطياف الصورة وغنى الواقع. يحلم الوريث بشار، بل يهلوس، بدخول التاريخ كرئيس وطني حقق لدولته ولشعبه مكاسب وطنية على الصعيدين الخارجي والداخلي. لن يحقق هذا، وسيدخل التاريخ بصفته حاكما وضع مستقبله الشخصي ومستقبل بلاده على كفي عفريت، بإضاعته لفرص الإصلاح، وبإصراره على الفصل بين السياسة الوطنية الخارجية والداخلية، وبين السياسة والأخلاق عموما. ولن يستطيع إخراس المعارضة أبدا، حتى إذا نجح بإسكاتها مؤقتا. وحتى إن عبر النظام هذه الأزمة وأبقى على حكمه، وهذا احتمال وارد، سيكون هذا مؤقتا. إذ لم يتبق أمام النظام، عاجلا أو آجلا، إلا إجراء الإصلاح الجذري وتغيير شلة النظام المتنفذة، أو يذهب الرئيس وشلته وحزبه إلى حيث ألقت. لأن الشعب الذي “قتله” العطش للفرح لن يستطيع قتله أسد الترح.
..
عن الوطن والمواطنة، وعن العروبة…
الوطن هو المواطن أولاً. والأرض بلا مواطنين لا تسمّى وطنا وإنما قفراً. والوطنية ليست مجرد شعار، وإنما هي ممارسة وطنية لصالح الوطن والمواطن. وإن لم تكن الدولة دولة مواطنيها، قد تكون عندها دولة حرامييها ومفسديها وقامعيها الذين يتربعون على عرش حكمها وعلى صدر الوطن والمواطن. عندها، ما من ضمان لأمن الوطن والمواطنين، خارجيا وداخليا. ولا لدوام حكم النظام الذي ينطق بالوطنية دون أن ينفذ مستلزماتها إزاء الداخل الوطني. لا يحكم الإنسان على الإنسان الآخر بناء على ما يقوله عن نفسه، وإنما بناء على أفعاله بالأساس. كذلك لا يجوز الحكم على النظام بناء على النياشين التي يعلقها على صدره، وإنما بناء على ممارساته إزاء وطنه وشعبه أولا. لقد أتخمت الأنظمة العربية الوطنية شعوبها بفائض من الخطابات والشعارات الوطنية التي كانت بغالبيتها شيكات بلا رصيد. واحتكرت ليس فقط حق الشارع بالفعل الوطني، وإنما وسائل الإعلام أيضا. وصادرت حرية الوطن والمواطن، حتى لا يصدر أي خطاب وطني إلا من فم الحاكم الوطني، ومن أقفية أتباع له تـُفسي ما يمليه عليها هو ومصلحتهم الذاتية في مشاركته اغتصاب وسرقة الوطن.
ويحاول البعض إقناعنا بأنّ هذا “الفساء” الإعلامي السوري الرسمي يعكس حقيقة الوضع. أما الإعلام العربي والغربي، وتهريب الصور عن المظاهرات وعنف النظام، فما هو إلا محض تلفيق. ما دام الأمر هكذا يا نظام “صادق”، افتح المجال إذا لدخول وسائل الإعلام إلى بلادك ولعملها الحر حتى تكشف مصداقيتك أنت وإعلامك. ولا أريد أن أنفي أنه قد تلجأ مجموعة من المعارضين إلى “فبركة” صور ما. لكن الإعلام السوري الرسمي كله فبركة بفبركة لأنه إعلام للنظام وخادم له، وعند النظام ما يستلزم الإخفاء والكذب. لم تتورع تلك الأنظمة الوطنية عن احتلالها لأوطانها والتهامها لمقدراتها ولثروات وحقوق المواطنين… بينما يعلو زعيق خطاباتها الداعية لتوجيه كل الجهود لتحرير الأرض من الاحتلال الأجنبي. وقامت بتأجيل وبقمع كل المطالب السياسية والاجتماعية للمواطنين، بما فيها مطلب العدالة والديمقراطية وحرية القول والعمل، بحجة التحرير وبكون الوطن يمر بمرحلة طوارئ حشدا للمعركة ضد العدو الخارجي. فلا لمعركة حشدوا، ولا شعبهم أنصفوا.
وهكذا، باسم القومية والعروبة والوطنية، ديست كرامة الوطن والمواطنين، وصودرت لقمة العيش، وأخرست ألسنة الناس، وأطلقت النيران على الناس في بيوتهم وشوارعهم على أيدي قوى “أمن” وجيش عربي، ما من همّ له الآن إلا هم حفظ أمن النظام من شعبه و”تحرير” المدن السورية من أهلها. بينما الجولان السوري يستصرخ منذ 44 عاما “وأسداه”، وفلسطين منذ 63 عاما “واعرباه”… وما من سميع أو مجيب. فالأمن… يعني أمن النظام والرئيس وحاشيته. والتحرير، يعني “تحرير” البلاد من المعارضة الوطنية. حين يجري تفريغ الشعار/ الخطاب من فحواه، يصبح شكلا أجوفا تسيطر على جوهره الجريمة. لقد أصبحت العروبة والقومية والوطنية على أيدي هكذا أنظمة حجة لقمع العرب القوميين والوطنيين. وما من غرابة في هذا، فالقومية بدون فحواها الديمقراطي والتقدمي تصبح قناعا وقبلية وبلطجية وحتى… فاشية.
هكذا أصبح عند الأسد السوري الحاكم (أبا وابنا!) وطن يملكه، بدلا من أن يكون عند الوطن حاكما ينتخبه. وأصبح عند حزب البعث القائد الواحد الاحد دولة يملكها، بدلا من أن تكون عند الدولة أحزاب تتنافس بحرية على حكمها وحسن إدارتها. وعندما هب المواطن سلميا مطالبا باستعادة حقه بامتلاك وطنه وإنهاض عروبته وتحريرها من سجنها، قصفهم الحاكم بالمدافع باسم أمن الوطن والعروبة. فاتخذت العروبة والوطنية، في مهدها بلاد الشام، شكل وصورة يافع مقطّع الأوصال وامرأة مبقورة الرحم وشاب مشوّه الوجه وكهل مدعوس ببسطار الجندي على شاربه، وفنان تقتلع السكين حنجرته، ورسام مقطوع الأصابع واليد، وحصان عربي محكوم بالإعدام الفوري من قبل جندي شبيح لم يرتو بقتل الفلاح الذي يملكه ولا بحرق بيته.
لقد أصبح حال الشعب السوري كحال نزار قباني: “أنا يا صديقي متعب بعروبتي، فهل العروبة لعنة وعقاب”؟! أما أسد العروبة (الذي حسب تقييم البرلمان السوري “المنتخب”: سوريا صغيرة عليك يا بشار، أنت تصلح لحكم العالم كله) فيحذر المواطنين من وجود مؤامرة تستهدف سوريا العروبة والممانعة…
..
تآمر نظرية المؤامرة
لا ننفي وجود مؤامرات في التاريخ، لكن التاريخ ليس سلسلة من المؤامرات. ثم ما من مؤامرة خارجية تفلح إن لم تجد أرضا وطنية تتيح لها ذلك. ويحدثنا بشار الأسد عن فيروسات تنتشر في الأجواء السورية زرعها متآمرون اجانب. وكان الأجدى به، وهو الطبيب المتعلم، أن يعلم أن الفيروس يعيش في أجواء تتيح له الحياة. ويستطيع تخريب خلايا الجسم وحتى قتله، إذا لم يتم تطعيم الجسم بمصل الوقاية والتحصين. ثم ليس كل فيروس مستورد، بل غالبية الفيروسات تنمو على أرضها الوطنية وفي دفيئة النظام، وقد تكون هي الحاكمة! لا ننكر وجود قوى خارجية عالمية وعربية، وعلى ارتباط بقوى سورية داخلية رجعية وعميلة، تريد الإطاحة بالنظام وتغيير اتجاه ووجه السياسة الخارجية للدولة السورية. لكن هل مئات الألوف التي تتظاهر منذ ستة أشهر ليلا ونهارا، ولا تكف رغم القمع الدموي الرهيب، هي دمى شرائطية مرتبطة بخيوط يحركها متآمر أجنبي؟ طوبى “لمؤامرة” تجند مئات الألوف في مثل هكذا ظروف!
يعرف الفلاح البسيط أنه إن لم يعتن بشكل سليم بحقوله وكرومه، فيعزق أرضها ويهوّي تربتها، ويغذيها بالمقويات السمادية، ويقلم أغصانها اليابسة، ويعالج أمراضها بالأدوية الصحيحة… لن تنبت زرعا وتثمر فاكهة وتتفتح ورودا. فمتى يعي ويعرف هذا الرئيس الطبيب الأسد؟ وهل يقبل الرئيس، وكل المشيدين به هنا وفي سوريا والمعترضين على تضامننا مع المعارضة، ادعاء الفلاح أعلاه… بأن حقله لم يثمر بفعل مؤامرة خارجية زرعت الحشرات السامة في تربته؟ أقفرت أرض العروبة ويبست أشجارها وجفـّت ينابيعها، ليس بفعل المؤامرة وإنما لأن “حاميها حراميها”، ولأن سوريا نامت عن ثعالبها. لقد تآمرت علينا نظرية المؤامرة إلى حد كاد يضيع عنده أمرنا. ولم ينتفض الشعب السوري بقرار من مؤامرة خارجية، وإنما لإسقاط المؤامرة “الوطنية” الداخلية عله. فما من تآمر أشد خطورة من التآمر “الوطني” لحاكم الوطن على الوطن. هذا علما بأن الفاشل في تنفيذ الموكل به والمطلوب منه، هو الذي يلجأ أكثر من غيرة لنظرية المؤامرة لتبرير فشله و/أو قمعه ودكتاتوريته و/أو إصراره على عدم تنفيذ الإصلاح المطلوب. فحتى الإصلاح الذي يطالب أصحابه بالفصل بين السلطات وبتداول السلطة وشرعنة التعددية وتشكيل الأحزاب وبضمان حقوق الإنسان وإلغاء قانون الطوارئ، وبتطبيق القانون المدني وبإقامة دولة مدنية ومجتمع مدني… يصبح، بعين النظام، مؤامرة ودعاته متآمرين يستحقون التعفن في السجن أو الإعدام الميداني الفوري.
..
أي إصلاح هذا؟!
سكت الشعب السوري عندما جرى تغيير دستور البلاد في ساعة واحدة لتمرير عار توريث “الأمير”بشار ابن الملك “حافظ” للحكم في… الجمهورية! وصمتت غالبيتنا هنا أيضا، بمن فيهم كاتب هذه السطور. وها أنا أعتذر عن خطئي، بل خطيئتي. صمتنا لأننا توجسنا في حينه مع قطاعات واسعة من الشعب السوري من بديل أسوأ قد يحرف سوريا المقاومة والممانعة عن خطها الوطني. ولأن الرئيس الجديد والشاب المتعلم والمثقف وعدنا، في خطاباته الأولى، “بنبيذ وأقواس قزح” وبإجراء إصلاح جذري وبمحاربة الفساد والإفساد وبتعميم الديمقراطية… قريبا. لكن أصبح عمر “القريب” عشر سنوات، والحال على نفس المنوال، إن لم يكن أسوأ في بعض المجالات. انتفض الشعب مطالبا بإصلاح النظام، لا بإسقاطه. وطغت على شعاراته الأولى مناشدة الرئيس بشار، إلى حد التوسل أحيانا، بقيادة الإصلاح. فأنزل الرئيس قوات الأمن الخاص والشبيحة والجيش “لمحاورة” المنتفضين عن طريق البندقية فالمدفعية فالدبابة. أصبح الشعار: “الشعب يريد إسقاط النظام”، ومن ثم “الشعب يريد إعدام الرئيس”.
نزفت بلاد الشام دمعا ودما. شام الثقافة والتاريخ الحضاري، والقومي العروبي، والنهضوي الحديث، والعلماني المدني. لقد اغتال نظام الأسد (الأب والابن) عراقة بلاد الشام وحلمنا الشامي العروبي. ويحتار الإنسان أية جريمة هي الأبشع، جريمة القتل الرخيص للناس المنتفضين، أم جريمة اغتيال ذاك التاريخ للشام؟ على كل، تعددت الجرائم والموت واحد، واغتيال الواحد يقود لاغتيال الثاني. لكن هذا لا يمنع البعض من التغني بإصلاحات وعد بها بشار مؤخرا، وينتقد المعارضة ويشكك بأهدافها لأنها تواصل التظاهر ولا تتيح للرئيس إمكانية تنفيذ مراسيمه الإصلاحية. يتناسى هؤلاء أنه كانت عند بشار عشر سنوات متتالية لإعلان وتنفيذ تلك الإصلاحات. لكنه ها هو “يقصف” شعبه بوابل من مراسيم ووعود الإصلاح على مدى عشرة أيام فقط، لأن الشعب حطّم قمقمه واجتاح الشارع. ويترافق هذا “القصف” الإصلاحي بقصف مدفعي يلتهم ما معدله (15) شهيدا في اليوم، عربونا ومهرا والتزاما “بالإصلاح” الرئاسي. ناهيك عن التشويه والنفي والاعتقال والتعذيب والإذلال غير المعقول عن طريق المس بكرامة الإنسان وبأبسط حقوق كونه إنسانا.
فأيّ إصلاح هذا؟ وبأيّ حق ينتقدنا بعض القوميين والماركسيين والوطنيين والتقدميين، لتضامننا مع الحراك الاحتجاجي ولنقدنا لنظام فقد عروبته وتقدميته ووطنيته ويساريته… حين ذبح شعبه لأنه يطالب بالإصلاح؟ هذا نظام يفقد شرعية وجوده، حتى لو نجح مؤقتا بالاستمرار بالوجود عن طريق المزيد من القتل والتعذيب. والذي، من القوميين والماركسيين، قال وبحق إبان غزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين أنه لا يمكن تصدير الديمقراطية ولا تحقيقها عن طريق الدبابة، من الحري به أن يقول اليوم إنه لا يجوز ولا يمكن تنفيذ الإصلاح عن طريق الدبابة، حتى لو كانت هذه عربية شامية.
“ما منحبك، ما منحبك، إرحل عنا أنت وحزبك”– هذا ما يهتف به ويريده المنتفضون في سوريا اليوم. لكن هذا ما جناه بشار على نفسه وحزبه حين جنى على الوطن. وكذلك نقول، نحن القوميون الديمقراطيون والماركسيون المنحازون إلى اليسار ولأخلاقية السياسة، إنه لا بد من إقالة الرئيس (مع أن الأشرف له ولسوريا الحاضر والمستقبل أن يستقيل). إذ أنه أحرق بقمعه الدموي كل إمكانية للحوار معه ولاستعادة ثقة المعارضة الوطنية والشعب به. ولن يثنينا عن موقفنا هذا احتمال وخطر حكم بديل أسوأ بعد الإطاحة ببشار وحزبه.
..
فزاعة البديل الأسوأ…
لا نقدّس كل أطياف وقوى المعارضة، ولا كل ما يصدر عن بعضها من بيانات وشعارات، خصوصا تلك الطائفية المثيرة للتقزز. وتتشكل المعارضة من عدة أطياف غير موحدة ولا حتى متجانسة. ففيها اليساري واليميني والليبرالي والقومي والإسلاموي والعلماني والديني. وليس صحيحا أن الاتجاه الإسلاموي هو الذي يسيطر عليها ويقودها. هذا مع عدم إنكار أن الخطاب الإسلاموي الأصولي والرجعي، للأخوان المسلمين وللسلفيين، أخذ يبرز بين شعارات البعض. وأخذت تتزايد قوتهم في بعض المظاهرات، خصوصا في حماة والأرياف بالذات. لكن لا نقبل ترويعنا بفزاعة البديل الإسلاموي المتخلف والمستتر والمتاجر بالدين، لتبرير دعم نظام الأسد – أبا سابقا وابنا حاليا – بموبقاته التي ينفذها تحت راية القومية. هذا نظام حكم العائلة الواحدة، والحزب الواحد، وشلة الفساد والمفسدين والديكتاتوريين الواحدة، وقانون الطوارئ الواحد، وإلى حد ما الطائفة الواحدة. وكل هذا على حساب الشعب الواحد والوطن الواحد، الذي أصبح سجنا واحداً.
يقلقنا طبعا البديل الإسلاموي. لكن هذا ينشأ ويقوى عوده على قاعدة وفي دفيئة فشل وسقوط المشروع “القومي واليساري والديمقراطي” البعثي الأسدي. وبشار هو الذي يتحمل المسؤولية عن إمكانية صعود وانتصار هذا البديل (مع أني أشك بأن يحدث هذا في بلاد شام العروبة والعلمانية والنهضة). ولن نختار ولن نفاضل بين الاوتوقراطية الشمولية (دكتاتورية الفرد المستبد/ الحزب السياسي الواحد) وبين الثيوقراطية الشمولية (دكتاتورية الاستبداد الديني)؛ فالأول يحكم الوطن جاعلا من نفسه “إلها” – مالكا للوطن والشعب، والثاني ينصّب نفسه “حاكما بأمر الله” على الوطن والشعب، بعد أن يكون قد صادر الله والدين جاعلا من نفسه رسولهما وناطقا باسمهما – زورا واغتصابا وتشويها.
الضدان، الأوتوقراطي العلماني والثيوقراطي السلفي والإخواني، يقود كل منهما إلى ضده الذي هو… مثيله! وساقطة ومرفوضة هي محاولة البعض لتأطير موقفنا ضمن ميكانيكية “إما مع هذا أو مع ذاك”. إذ يوجد بديل آخر وآمن للتخلص من الخراب القائم واحتمال الخراب القادم… هو بديل الإصلاح الجذري العلماني والديمقراطي المدني، حتى يصبح الوطن ملكا لأبنائه الأحرار المتساوين. صحيح أن هذا البديل قد لا يكون مؤكدا الآن. ولكن من المبالغة القول إن انتصار البديل الإسلاموي هو الأكيد. وواجب التقدميين أن يطالبوا بإسقاط السفاحين، لا أن يمنحوهم الشرعية بحجة إمكانية انتصار بديل أسوأ.
فهل تكفينا شام العروبة والحضارة شرّ الأصوليتين: السياسية والدينية؟ هذا أملنا نحن العطاشى للفرح، في صحارى الأنظمة العربية، منذ ألف عام. لقد آن الأوان لهذه الأرض الشرقية العربية أن تزلزل زلزالها وتنفض عن كواهلها حكاما يحتلونها، من المحيط إلى الخليج – لا أستثني منهم أحدا.
آن الأوان لأن تتحقق أمنية القباني التي نظمها شعرا، وصدح بها صوت فيروز غناءً: “ظمئ الشرق فيا شام اسكبي، واملئي الكأس له حتى الجمام”. قولوا: إن شاء الله. والله، في الحالة السورية، ليس بشار البعث، ولا إخوان السـّلف، وإنما هو الشعب “الذي لا يعرف المستحيل”.
21 سبتمبر 2011
مقالك اخ سميح واقعي . اذ مركز الوطن هو الانسان السوري المواطن. حريته وكرامته وحقه بالعيش الكريم من خيرات وطنه هي من اول البديهيات للمواطنه الكريمه . وهذا. ما فقده الانسان العربي السوري على مدى اربعة عقود من الزمن . الممانعة والمقاومة هى اختيار الانسان السوري ، حصانة سوريا مربوطه بشكل جذري بحرية مواطنيها. ممانعه بشار وشرعيته فقدت باختياره هو واقرباءه للحل الامني في زمن الربيع العربي.
إرحل الآن وليس غداً