موقفٌ يبدو سورياليًّا.. في مَشْهدٍ يبدو سوريًّا/ عبد عنبتاوي
دِفاعًا عن: سوريا الدولة والموقف، المقاومَة والحرية، ابن رشد وابن خلدون.. ■ لا تُساهِموا في انتصار أمريكا وإسرائيل والسعودية، الغزالي وابن تَيْمِيّة..
موقفٌ يبدو سورياليًّا.. في مَشْهدٍ يبدو سوريًّا/ عبد عنبتاوي
..
|عبد عنبتاوي|
ما عادت المواقف تحتمل الرمزية او الإشارات في تعابيرها، وباتت الأحداث الكُبرى في حياتنا، لا سيّما تلك التي تُلقي بِظِلالها في رسم معالِم المستقبل، تتطلب قراءَةً ومواقفَ عميقة شاملة واضحةً وحاسِمةً، بعيدًا عن السَّطحية والسَّذاجة والموارَبة والانتهازية، وبمنأى عن الانفعالات العاطفية والشعْبَوِية والانتماءات القَبَلية والهويات الوهمية والمتخيّلة والمُشَوَّهَة.. ففي المحطات التاريخية، تستدعي مُقتضيات الحياة وضَروراتها الحسم في تحديد المواقف والخَيارات واتجاهاتها..
فالأحداث بيننا ومن حولنا تزدحم على أبواب حياتنا، الجمعية والفردية، الوطنية منها والقومية والكَوْنية، وتُطِلُّ علينا من غُرْبَتِها لتكشِف غُرْبَتَنا وغَرابَتَنا، فتستكتبُنا أحيانًا، حيث يقف بطلها ابن خلدون، عَبْرَ مقدِمته وعلى مُؤخرته، مُبتسِماَ واجِمًا قَلِقاَ، ساخِرًا ومشدوهًا، في الآن ذاته، من دون أن يخجل مِما جاء في مُقدِّمته، كما خجل محمود درويش، صارِخًا: تخلّصوا من قَبَلِيَّتكم حتى تنطلِقوا.. في حين يصرخ ابن رشد في وجوهِنا، مُؤَوِّلاً حالتنا بقوله الفصل، مُتسائِلاً: لماذا لا تفقهون ما قلته لكم يومًا؟! ولماذا توقفتم مُذّاك عن إعمال العقل وتحرير الإرادات؟!
أمَّا بعد؛ فإنّ مواقفي تأبى أن تتوارى خلف الأقنعة او تختبئ وراء الاعتدال والتسويات و”الأخلاقيات” ومُصطلحات الحَداثة، وما بعدها، كما يفعل معظمُ المُثقفين الجدد، من ليبراليين وقوميين ويساريين وديمقراطيين وإسلاميين ودينيين وحقوقيين.. وأَعْترِفُ جِهارًا هنا، كما في كل مكانٍ وزمان، أن بُنْيَتي الذهنية والعقلية والفكرية والنفسية والقيمية والسلوكية ترفُض الأنظمة والمَنظومات، خصوصًا الموروثة منها، وتدعو إلى تحطيم الأصنام والمُسَلَّمات، ولا تُقَدِّس الأيْقُونات، في الفكر والسياسة والحياة.. كما أنني لستُ علمانيًا، ولا أنطلق من العلمانية، في تناولي الأحداث والأمور والمواقف، لأنني أعتبرها تسويةً، كَمَنْزِلَةٍ بين مَنْزلَتَيْن، ومَكانَةٍ بين نَقيضَيْن، وليستْ موقفًا أو مُنْطَلَقًا، ولاعتباري الاعتدال في التفكير خيانةً للعقل وَتقويضًا للإرادَة.. من دون أن يعني هذا تَبَنيِّ العَدَمية، وإنْ كانت هذه، أحيانًا، أكثر عقلانية مما هو واقع راهن..
وإذا كُنَّا، الآن وهنا، لسنا بصدد تقييم شامل وحَيْثيّ ونهائي لِما حدث ويحدث في بعض الدول العربية، مُنذ عِدَّة أشهر، من حَراك سياسي وشعبي، إلاَّ أنه من الضرورَة الموضوعية إلقاء بعض الإشارات حوله، ونحن نَسْتبطِن كُنْهَه ونستشرِف مستقبله، بينما نحاول تناوُل وتفكيك “المشهد السّوري” الرّاهن، لبلورة موقف هو في حقيقته البُنيوية والتاريخية والجغرافية السياسية والفكرية، أوسع من الحَيِّز السوري ومن حدود واقع الأحداث وما يتمظهر منها ويتجلى وفيها. نعم، إنَّ معاني ودَلالات ما يحدث في سوريا تُقلقني أكثر مما يقلقني حسابي البنكيّ المأْزوم و/أو “شعبيتي” المُضْمَحِلَّة. فها هي سوريا، وبعد نحو ستة أشهر من مَخَاضِها، تستكتبُني أكثر مما فعلتْ مصر وتونس وليبيا والبحرين واليمن.. ولا يطلب هذا المقال المستحيل، لكن لا يمكن إختزال كلماته بالقليل، فهو ليس قنبلة بصيغة مقال إنما مقال إنشِطاريّ..
وفي سياق هذا التمهيد الاضطراري والإستباقي، وإنْ بَدا رمزيًا وذاتيًا ومُطوّلاً، لا بد من الإشارة النقدية الى حالة السطحية والإسهال لدينا، في استخدام المصطلحات والمفاهيم عند توصيف وتحليل وتقييم الأحداث، وإلقاء الكلام على عواهِنِهِ، من دون رَقابة عقلية وعلمية..
فيمكن أن نتفق على أنّ ليس كلَّ تغيير هو نمو وارتقاء بالضرورة، وأن الثورات الحقيقية والتاريخية ليست محصورة في إحداث تغيير في النظام السياسي فحسب، على أهمية ذلك، إنما بإحْداث تغيير جذري وشامل في المنظومة الثقافية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية للمجتمع، وفي المفاهيم ومعانيها، وبالتالي في مَناهج الحياة ومَناحيها. وأن الثورات لا بُدَّ لها أن تكون وطنية وأن ترتقي بالشعوب وبالإنسان وتدفعهما نحو الأمام.. كما أنّ “الثورات” التي لا ترفع الحجاب عن عقل المجتمع وأفراده، ولا تُحَفِّز الإرادات ولا تحرِّر الأفراد والحاضر من سَطْوَة الماضي، إنما هي وَهْم، سرعان ما يتبدَّد في أول لحظة مواجهة مع المستقبل وتحدّياته الوجودية. ويمكن أن نتفق مبدئيًا على أنّ بوصلة الفِعل الوطني التقدمي والثوري الحقيقي لأيّ حَراك سياسيّ، في حالتنا، تُبنى على ثلاثة اُسس: العداء للسياسة الأمريكية والاستعمارية والإمبريالية العالمية؛ ومواجَهة المشاريع والمخططات الإسرائيلية – الصهيونية؛ ومعاداة ومواجهة الرجعية العربية وتخلُّفها من أنظمة حكم وحركات وأفكار.
ونحن إذْ لا نُقلل من أهمية وتاريخية ما يحدث في العالم العربي، ومن إسقاط النظام المصري على وجه التحديد وليس الحَصْر، وطنيًا وقوميًا، ولكن بَوْنًا شاسِعًا يفصل بين هذا وبين الثورة. فمَصادر تشريع الدستور المصري “المُستحدَث” ومرجعياته ما زالت على حالِها، وآلية وسرعة ونتائج الاستفتاء على هذا الدستور وَجَّهتْ أكثر من إشارة ورسالة، في مدى الابتعاد عن نظام سياسي وطني ومجتمع مدني تعددي وتنوّعي وتقدمي حقيقي، وأنّ قيادة الجيش المصري “الحديث”، بِبُنْيتها الكامب ديفيدية، ما زالت صاحبة القول الفصل، وقد تُعيد إنتاج النظام المصري بصورٍ جديدة. بالمقابل فان الإخوان المسلمين كادوا ينجحون في إجهاض عملية إسقاط نظام مبارك، وكان موقفهم، وما زال، متخاذِلاً فيما يتعلق بمواصَلة الاحتجاجات الشعبية-الشبابية لترسيخ مسار “التغيير”، خصوصًا ضد بقاء السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وأخشى أن ينجح “الإخوان” وأمريكا في اختطاف منجزات ما حدث في مصر.. وما ستُفضي إليه نتائج الانتخابات بمصر في قادم الأيام، وما ستُفرزه تلك “الديمقراطية” العددية الهَشَّة، ستقطع الشكّ باليقين.. من دون أن يعني هذا تغييبًا لشخصيات ودوافع وطنية وثورية وتقدمية حقيقية وصادقة، في مصر وفي غيرها، بما فيها سوريا، لكن تلك الشخصيات لم تكن وليست هي، في حقيقة الأمر، وللأسف، سيِّدَة الحركة وطاقتها وصاحبة الحسم في النتائج المُكَوِّنة للاتجاهات والاحتمالات والنهايات.
صحيح أنّ الأمور والأحداث مُركَّبة ومُتداخِلَة ومُتسارِعة، ومُترابطة من حيث التأثير والتأثُر، وتسير في حركة لَوْلَوبية، ويختلط فيها الداخلي والخارجي، الوطني بالتآمري، وتختلف فيها بعض الحيثيات والدوافع والغائيات، وبالتالي تتباين الوسائل والتجلِّيات، إلاَّ أنها غير معقدة وغير عَصِيّة عن الفهم والإدراك والإمساك بتلابيبها، ومن ثَمّ تحديد المواقف منها وفيها. فَما يحدث في سوريا وحولها اليوم، من مَخاضٍ، يضعها (ويضعنا جميعًا- كأفراد وكقضية وثقافة) أمام مُفترق طرق تاريخي، من حيث موقفها وموقعها ومكانتها ودورها وتوجهاتها، إقليميًا ودوليًا، وهو أبلغ الأحداث التي تستوجب وقفة تأمُّل حقيقية ومجرَّدة، وسريعة بلا تسرُّع، بعدما وضعتْ الكثيرُ من التفاصيل والحيثيات أوْزارَها على قارعة هذا المشهد، بالرغم من أنّ بلورة هذا الموقف لا تحتاج إلى “هذا الانتظار”؛ فقد كانت وِجهة الأحداث ودوافعها واضحة المعالِم منذ اليوم الأول، من دون الاعتماد لا على العبقرية ولا النُّبوءة.. وبات المشهد يحتاج إلى قراءة جينيولوجية- جَذرية حتى يُفضي إلى استنتاجات ومواقف تتناغم فيها الأبعاد السياسية، الوطنية والقومية، مع الفكرية والثقافية والاجتماعية، دونما انفصام أو تلعثم.
حقيقةٌ هي: النظام السياسي السوري نظام موروث، نظريًا وعمليًا، وهذا ما يُضعِف من شرعيته ومصداقيته في عدد من الجوانب.. كما أن الفَساد قد ضرب الكثير من أجهزته السياسية والإدارية بحكم التراكُم وسُلطة الحزب الواحد، والحريات السياسية في سوريا أصابها الكثير من التجاوزات والقيود والإضْمِحْلال، والأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية والمعيشية للشعب السوري ليست في أحسن أحوالها، والإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي وإطلاق الحريات، الفردية والجماعية، وتقليم أو استئصال بُؤر الفساد في بعض أجهزة النظام، غَدَتْ ضَرورات حياة ووجود وتطور في سوريا، وليست تَرفًا. ولكن بالمقابل، حقيقة أيضًا هي: أن النظام السوري، ومُنذ أكثر من أربعين عامًا، هو أكثر الأنظمة العربية مواجَهَة للمشاريع الأمريكية- الإسرائيلية – الأوروبية – الاستعمارية والرجعية في المنطقة، ورَفضًا للخضوع لها ولشروطها، وأن مواقفه الوطنية والقومية والتقدمية لا غُبار عليها، ولا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها، مهما بلغ الخلاف أو الاختلاف مع هذا النظام، وأنّ النظام العربي الوحيد، تقريبًا، في العقود الأخيرة، الذي مارس الحكم بسيادة حقيقية وفعلية، وبعيدًا عن التبعية والاذدِناب، وأن الدوافع والمصالح الوطنية والقومية غالبًا ما كانت وما زالت مُنطلقات وأهداف هذا النظام، في تحركاته ومواقفه وسلوكياته، الخارجية منها والداخلية أيضًا، وأثبت، إلى حدٍ بعيد، أنه لا حرية بلا سِيادَة ولا سيادة بغير إرادة.
كما أنّه النظام العربي الوحيد، من دون تقريبًا، الذي مَدّ المقاوَمات العربية جِهارًا، بكل أسباب الوجود والقوة والتطور والتأثير الفاعل، خصوصًا في لبنان وفلسطين، في مواجهة الاحتلال والعدوان الإسرائيليَيْن، وشكَّل هذا الدعم ورقة قوة في يده نحو تحرير الجولان السوري المحتلّ، وهذا من حقه بل من واجبه، وإنْ استخدمَ أحيانًا أدوات ناعمة لهذه الغاية، من دون أن تُجدي نَفْعًا. وصحيحٌ أن النظام السوري قد يُنتقَد، وبِحَق، في بعض القضايا والمواقف السياسية وغيرها، لكنه اتخذ المُمَانَعَة سبيلاً ونهجًا، وهو أضعف الإيمان، ضد المشاريع الاستعمارية الجديدة والرجعية المُتجدِّدة، في ظروف اختلال توازن القوى الدولي، وفي ظِلّ هيمنة أمريكية شِبْه مُطْلقَة، وفي عالم القُطب الواحد، وهو أمْرٌ ليس باليسير او الهامِشيّ، في سياق الحديث عن دولة.
كما أنّ سوريا هي من أكثر الدول العربية نُموًا واستقرارًا اقتصاديًا، رغم ضَحالة مواردها وثرواتها الطبيعية، وهي أقل الدول العربية تأثُّرًا بالأزمات الاقتصادية والدولية والإقليمية، بسبب عدم تَبعيّتها الاقتصادية، واعتمادها على الذات، ومحاولاتها المتواصِلة للنموّ والحداثة، بالرغم من الحصار ومَشاريع المَساسِ بها. وقد شكلت سوريا، في العقود الأخيرة، دَفيئة ومَلْجأً لمعظم الأدباء والمفكرين والفنانين والمُثقفين، المُطارَدين والمنفيين، من جميع أنحاء “الوطن العربي”، واحتضنت أهمّ وأرقى دور النشر العربية والإصدارات والترجمات، بكل قَريحة وعقلية مُسْتَنيرة وعلمية. كما أنها أكثر دولة عربية تقدمية وعلمانية، تفصل بين الدولة والدين، وتحتضن التعددية والتنوُّع الحقيقييْن، وتصهرهما في بوتقة مُجتمعية واحدة مُتناسِقة ومُتجانِسة، تحت سقف الوطن الواحد للجميع، رغم أن سوريا ليستْ ضَالَّتي المنشودة والنهائية، كدولة ومجتمع، وأن النظام السوري يُنْتَقَد، من وِجهة نظري، على تلعثمه أحيانًا في الممارسة العلمانية، حيث لم يُجَذِّرها، كمفهوم ثقافي وسياسي واجتماعي، بِما يكفي لتُحافِظ على بقائها ونموها ولتَحْفَظ المجتمع وتُحَصِّنه، وهو بهذا يَدْفع الآن أيضًا ثمن تلعثمه في هذا المَنْحى، وهي عِبْرَة تتجاوز سوريا وتتخطَّى الرَّاهِن.
ما يحدث في سوريا وحولها من مَخاضٍ، يضعها ويضعنا جميعًا كأفراد وكقضية وثقافة أمام مُفترق طرق تاريخي، من حيث موقفها وموقعها ومكانتها ودورها وتوجهاتها، إقليميًا ودوليًا، وهو أبلغ الأحداث التي تستوجب وقفة تأمُّل حقيقية ومجرَّدة، وسريعة بلا تسرُّع
لستُ مِمَّن يعتقدون أنّ التاريخ مُجرَّد سلسلة من المُؤامرات، لكنني أعتقد جازِمًا أنّ التاريخ لا يخلو من مُؤامرات؛ فتوقيت وأساليب ومواعيد وشعارات ومسار انطلاق وتطوُّر المُظاهرات والأحداث في سوريا كلها تُثير الرَّيبة، خصوصًا في الجوانب السياسية والأمنية والفكرية. فهل كان التوقيت، رَدًّا على ما حدث في مصر والبحرين، على وجه التحديد، ولِماذا؟ وهل كانت كلّ الأيدي الصانِعة لهذا الحِراك هي سورية وداخلية؟ وهل كل الأيدي السورية والداخلية هي بالفعل وطنية وثورية حقيقية؟ وهل الأيدي النظيفة هي التي تُحرِّك فِعلاً المشهد السوري؟ ولماذا كان سقف المطالب يرتفع كلَّما تقدم النظام السوري بخطوات إصلاح جدية تتجاوب مع تلك المطالب؟ ولماذا أُصْدِرَتْ الفتاوَى لتشريع التظاهُر في سوريا وتحريمها في “دول الملح” الخليجية المُستعرِبَة؟ وما هو حقيقة الدور التركي، كنموذج “إسلامي سُنيّ معتدِل”، مُنفصِم ومضلِّل، بين إظهار الخلاف مع إسرائيل لاكتساب المِصْداقية ونشر قواعد صواريخ إستراتيجية لحلف الناتو على الأراضي التركية؟ وهل باتت أمريكا هي التي تمنح شرعية الأنظمة أو تحجبها؟ وما هي حقيقة الأهداف الكامنة وراء المواقف الأوروبية؟ وما هي مواقف ودور الإخوان المسلمين في سوريا ومصر وغيرهما؟ وهل إسرائيل “صامتة” أو “مُحايدة” كما يُضَلِّل البعض أوْ يتوهّم؟ ولماذا لم نَرَ شعارات ومواقف واضحة لحركة الاحتجاج السورية ضد إسرائيل وأمريكا، بينما جرى استقبال السفيرَيْن الأمريكي والفرنسي في حَماة بالورود والأرُز؟ ولماذا لم تخرج مُظاهرة رجالية – نسائية مُشتركة ولو واحدة في سوريا ضد النظام؟! ولماذا افتعال الأزمات مع إيران، في هذه الأوقات بالذات، ولمَصْلحة مَنْ؟ وكيف يمكن لوطني تقدمي عاقل ان يكون في الجانب نفسه مع سمير جعجع وأمين جميّل وسعد الحريري وفؤاد السنيورة؟ ولماذا صَمَتتْ “حماس” وبدأت تُعدّ عِدّتها لنقل مكاتبها ومقارّها في الخارج من دمشق، التي احتضنتها، إلى القاهرة؟ ولماذا يصمت معظمُ الكَتَبَة والإعلاميين على حقيقة وجود ملايين السوريين، أي الأكثرية العظمى، المؤيدين للنظام ومُبادَراته الإصلاحية، إذا كانت القضية عَدَدية وشعبية “وديمقراطية” فِعلاً ؟ إنها مجموعة تساؤلات استنكارية، لا تنتظر الأجوبة، لشدّة وضوحها، وإنما هي إشارات تُدَلِّل على شمال البوصَلة ويقين اتجاهاتها!
إذًا، يتجلى يومًا بعد يوم، أننا لسنا أمام مُجرّد مُؤامرة، بل أمام مشروع ومُخطَّط واضح المعالِم والملامِح والدوافع والغايات، ضد سوريا الدولة، وضد رئيسها ونِظامها ومواقفها وخَياراتها، وضد المصالح الحقيقية والوطنية للشعب السوري، تتقاطَع خلاله مجموعة من القوى والمصالح المُشتركة في الداخل والخارج، تبدو وكأنها مُتناقِضة، لكنها في جوهرها مُتناغِمَة، وتستخدِم بعض فِئات الشعب السوري كوقودٍ “سريع الاشتعال” في سبيل تحقيق أهدافها. فقد تقدم النظام السوري ورئيسه، وبتسارُع غير طبيعي، بمبادرات مُتجاوِبًا مع مطالب المعارَضة والمحتجين مُنذ الأيام الأولى، فألْغى قانون الطوارئ، وصادق على قانون الأحزاب المتقدِم على قوانين الأحزاب في معظم الدول الغربية، ثم أقَرَّ قانونيّ الانتخابات والإعلام، ولم يتوقف عند تعديل المادة الثامنة في الدستور السوري (القاضية باحتكار حزب البعث لقيادة الدولة والمجتمع) إنما تَعدّى الرئيس السوري بشار الأسد ذلك، عارِضًا تغيير الدستور بِرُمَّتِهِ، إلى جانب مجموعة من الإصلاحات الجِدية في مختلف مَرافق الحياة، عبر حِوارٍ وطنيّ شامل وجَريء.. لكن من دون جدوى؛ فقد كان المعارضون الوطنيون أوْهَن من أن يتجاوبوا ويتخذوا موقفًا من هذه الخطوات أو إزاء ما يجري من تطوّرات، فتُرِكت الأمور للعُمَلاء والدّهْمَاء، ولم يجرِ التجاوب مع مبادرات القيادة السورية لأنها لا تُحقق الأهداف، ما دامت هذه القيادة مُتمسِّكة بمواقفها وخياراتها.. ليس الهدف هو الإصلاحات والحرية، ولا رغيف الخبز والديمقراطية، ولا يتمثَّل الهدف بمجرد تغيير القيادة السّورية، إنما المطلوب هو تغيير وِجهة سوريا وتوجهاتها وخياراتها، الوطنية والقومية والثقافية..
أما الهدف الآخر، المرتَبِط والموازي، والذي لا يقلّ أهمية استراتيجية، هو ضرب المقاومة اللبنانية ومحاولة القضاء على حزب الله ومُجْمَل ثقافة المقاومة، حتى يتبدّد “الكابوس” ويتلاشى من ناظِرَيْ المستعمِرين “والمعتدلين”، في سبيل تمرير مَشاريعهما معًا، أو كلّ على حِدَة. والأنكى من كل ذلك، والأكثر سوريالية وسُخريةً واستمراء ومُواربة للعقل، أن تتشدّق “دُوَل الملح” الخليجية المستعرِبة، التي تُسَخِّر التكنولوجيا لتكون في خِدمة الميثولوجيا، وفي مقدمتها السّعودية، وتستنكر ممارسات النظام السّوري “القمعية” ضدّ شعبه، فتشنّ حملات التحريض والتشويه والمؤامرات، الإعلامية والمالية والتسليحية، ضد القيادة السورية، حتى بَدَتْ السعودية، ورَبيبَتها “إمبراطورية” قطر القَرْضاوية “الحَداثية”، وكأنهما رموز للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ثم يأْتيهما الإسْناد النوعي من حليفتهما “جمهورية” الأردن الهاشمية، حتى تكتمل ملامِح الصورة، ويتكشَّف المعنى، فيبتسم سيدّهم وآمرهم، الكاوبوي الأمريكي.
إنّ مجرمي الوعي أشدّ خُطورة من مجرمي الحرب، وقَيد اليَديْن بالأغلال أكثر حرية من قيد العقول بالأوهام والتخلُّف والرجعية، والضعف والتَّبَعية. فأمام هذه المعطيات، وفي ظِلال هذه الحقائق الدامِغَة، تَنْشأ مُعادَلة من “حاضِرَيْن” اثنين لا ثالث لها، كما قد يبدو في مِخْيال البعض، فإمَّا أن تكون مع القيادة السورية برئاسة بشار الأسد ومشروعه ومُبادَراته الإصلاحية، المُتَّصِلِة عُضويًا بمواقفه وخياراته السياسية الوطنية والقومية والثقافية، وإما أن تكون في الجانب الآخر، كبديلٍ وحيد، والذي يجمع بين أمريكا وإسرائيل وأوروبا الرَّثة والسعودية وقطر والأردن وتركيا “والإخوان” ومَشاريعهم، بِمَنْ يدور في فَلكِهم المُظلِم مِن مُرتزَقة، أو أن تكونَ في حالة حَياد الأموات، ومع مَن يقفون خارج إيقاع الحياة والتاريخ.
وعليه، أعتقد أنّ تجاوُز هذه “الأزمة” يتطلب عِدة مَسارات مُتوازية ومُتزامِنَة وواثقة، وفي مقدمتها أن يَحْسِم الجيش السوري، سريعًا وقطعيًا ونهائيًا، الموقف الأمني والعسكري مع الجماعات والخلايا المسلحة والمشبوهة، والذي يتحمَّل النظام الأمني السوري نفسه مسؤولية دخولها لسوريا وتسلُّحِها، فَلم يعد المشهد والوقت يحتملان مزيدًا من التَردُّد أو الحَركات الإعلامية المُسيئة للجيش السوري نفسه.. وأن يواصِل الرئيس السوري، وبعض أركان نظامه، الحوار الوطني مع مَنْ يريد مصلحة سوريا من المعارضة الوطنية الحقيقية ويُعَمّق مسيرة الإصلاحات والتغيير والارتقاء ويجذّرها، خدمةً للأهداف الوطنية والقومية والتقدمية لا تجاوُبًا مع تَشدُّقات “الخارج” وتهديداته، من دون أن يُراهِنَ على أحدٍ، على أهمية التحالفات الداخلية والخارجية.
ثمَّة مواقف ادَّعت أنه لا يمكن للمثقف الوطني التقدمي والثوري أن يحمل مواقفَ مُجْتَزَأة أو انتقائية، فيما يرتبط بالحراك القائم في الدول العربية، على أن تكونَ مَثلاً مع الحراك الشعبي الاحتجاجي في مصر وبخلاف ذلك في سوريا، وأعتقد ان هذا الإدِّعاء لا يخلو من السَّذاجة والقَوْلَبَة، من ناحية، ومن ناحية أخرى يُعتبرُ مَسَاسًا بجوهر ودور وتعريف المُثقف، كصاحب رُؤية ثاقبة ونقدية وديناميكية، في قراءته وفهمه لطبيعة الأحداث وطبائعها، فالأحداث والقضايا ليست مُتماثِلَة.
كما أنّ فهم الصراعات يُؤدّي إلى إدراك الضرورات، وبين الضرورات اليومية والخَيارات المصيرية مساحات من الوعي والإرادَة، وقد غَدَت الديمقراطية هي الاسم السياسي المُسْتَعار “حديثا” لاقتصاد السوق والثقافة السوقية، لاحتكامها لقانون العرض والطلب ولثقافة الأعداد لا الأنواع، إلى جانب كونها أداة جديدة للاستعمار الحديث. وَبيْن خَيارَيْ المقاومة والديمقراطية، أختارُ المقاومة من دون تردُد، لأنّ المقاومة هي طريق الحرية في حين أنّ الديمقراطية مَنفى الأحرار، فبِئس “الديمقراطية” حين تكون على حساب الوطن واستقلاله وسيادَتِهِ والإنسان وحريته، ورِفْعَة الشعب وتقدّمه.. ولا يحرر الأوطان والمجتمعات سوى الأحرار، ولا مَعنى لإرادة البقاء، من دون إرادة الحياة والحرية، للبقاء على قَيْد التاريخ.. ما يستدعي تحصين مجتمعاتنا من جهوزيتها البنيوية للاختراقات الطائفية والمذهبية والانتماءات الضيِّقة، في تركيبتها الاجتماعية والثقافية، وتحرير هذه المجتمعات، حتى تكون قادِرة على إدارة الصِّراعات كشعوب حيَّة، والانطلاق والتحليق في فضاء الحياة والوجود.
ليست قامَتَيْ ابن الرشد وابن خلدون هُما القامتين الفكريتين الأعلى، في نظري، لكنهما السّقف الفكري الأعلى في ثقافة وتاريخ الأمة العربية حتى الآن. فلا تُساهِموا في أن يُهْزَما أمام الغزالي وابن تيمية، فالمسألة لا تتوقف عند المواقف السياسية فحسب، ولا تحتمِل التّرَف، بل تَلِج جوهر الخيارات الوطنية الثقافية والحضارية، كأفرادٍ وشعوب وأُمَّة، ولا بُدَّ من لَجْم الماضي حين يُشَكّل عائقًا في مسيرة الحياة والتطوّر، وفي مسار الصعود نحو المستقبل..
إنَّها إطلالة على المشهدِ، أكثر منها مَقالة في الزَّبَدِ..
20 سبتمبر 2011
“كل سوري يعتقد نفسه سياسياً، وواحداً من اثنين يعتبر تفسه قائداً وطنياً وواحد من أربعه يعتقد بأنه نبي وواحد من عشرة يعتقد بأنه الله ، فكيف يمكن أن تحكم بلداً كهذا” شكري القوتلي
كيف ؟؟
20 سبتمبر 2011
كلنا مع الإصلاح, ولكن لم نكن نتمنى أن يأتي اليوم الذي يحدث فيه أن يكره السوري أخيه بناء على طائفيته, أو منطقته.. لذلك أخشى أن تكون هذه الثورة فعل حق, يراد به باطل.
أما الردة العربية عن سوريا, وكثرة التحريض عليها, يجعل الانسان يبكي على الخذلان الذي تقابل به هذه الدولة الشقيقة, سوريا في يوم من الأيام كانت فخرنا الأول, وكانت المجد لكل من ناصر الحق العربي, كيف تغير كل هذا؟! كيف حدث كل هذا الانقلاب؟!!
هل أصبح المثقفون العرب أداة بأيد الفضائيات؟ ألا يجب على المثقف أن يرى ويسمع من أهل البلد قبل الحكم على الأحداث من الغربة؟
اسألوا السوريين يا أخي, السوريين الوطنيين أعني, اسألوهم ولا تسألوا الطائفيين الذين افرزتهم هذه الثورة الإعلامية, سيقولون لكم لقد تعبنا: تعبنا من الكذب والتحريض, والمقاولات, والعصابات التي تفتك بالشعب, تعبنا من التفكير بالغد..
20 سبتمبر 2011
مقال رائع أستاذ عبد !!
سلمت يداك
20 سبتمبر 2011
بشار اختار الحل الامني والآلاف من الشعب قتلوا . الاعلام العالمي والعربي وايضا المنظمات الانسانيه ممنوعه بدخول سوريا لمعرفة ما يجري لماذا؟؟؟
الجواب دائماً:: مؤامرة على وممانعه …..والإصلاحات ستاتي في القرن القادم.
نظام قاتل لا شرعيه له بالإصلاح، وبناء نظام ديموقراطي اصعب من ازالة هذا النظام.
ارحل
19 سبتمبر 2011
القبايلية والعشائرية في “الهوشة” السورية تجلت في جغرافيتها, ودشاديش معارضتها, وشعارتها الرجعية والمتخلفة, فغالبية المعارضة السورية ينابيعها, إما طائفية أو مناطقية, أو في ارتباطها الرجعي مع الغرب..
هذه الثورة يقودها مشايخ النفط, من الشيخ عرعور الذي فمه يشبه بالواعة مجارة مفتوحة, أو الشيخ الصيصاني, او الشيخ البعبعاني.. يعني بدهم يرجعوا سوريا للقرن الأول هجري, هذا معاوية وهذا علي.
هذا المقال أرضى عقلي. أشكرك عليه وأفتخر بقلم فلسطيني متنور.
19 سبتمبر 2011
الأخ رياض بلان .. ممكن أعرف وين عايش ؟؟
بدنا حرية و بدنا إصلاح وبدنا عدالة إنسانية.. ماراح تيجينا على إيد المعارضة
٤٠ سنة من التفرد الحزبي و التفكير الفردي كان نتيجتو إنه مافي معارضة سليمة بهالبلد ..
بس مدام بلش يطلع صوت و تم كسر حاجز الصمت أكيد الوضع حيتغير
و نحنا مع الإصلاح و تغير الوضع للأفضل.. مابدي حكومة جديدة تابعة و مابدي ناس عم بتبعبع بالحرية والديمقراطية كذريعة لخراب البلد و مابدي بلد مبينة على أحقاد .
19 سبتمبر 2011
اطلالتك رائعة !!
لك وجهة سياسيّة طلائعيّة !!
نعم للإصلاح في سوريا لا لتغير الرئيس لا لتغير الدفة !!
19 سبتمبر 2011
لماذا لاتظهر التعليقات ؟؟؟ أم أنكم تنشرون مايناسبكم فقط ؟
18 سبتمبر 2011
” وَبيْن خَيارَيْ المقاومة والديمقراطية، أختارُ المقاومة من دون تردُد، لأنّ المقاومة هي طريق الحرية في حين أنّ الديمقراطية مَنفى الأحرار.”
الشعب السوري يطالب بالكرامة لا الإذلال ، حرية وعدل لا فساد وتوريث وسلطة الحزب المافي المعفن .الشعب هو من يقاوم والرئيس هو من يقود ضمن صلاحية من برلمان منتخب حقا من الشعب. الشعب السوري يدفع ثمن للمقاومه لا الرئيس وزمرته.
الشعب السوري مسلوب الحرية وخيرات بلده ،يعاني الفقر والفساد كل يوم ولكنه مقاوم ايضا ولا يمكن المزايده في ذالك.
لا يمكن ان نقبل ان يدفع السوري ثمن غالي حريته من اجل مزرعة شبعا ولا أيضاً من اجل القدس. الشعب يختار طريق المقاومة لا الرئيس ، الرئيس لدوله ممانعه هو من يقاوم من اجل حرية شعبه لا اضطهاده.
الحرية ثم الحرية والمقاومة الممانعة.
اختيارك مغلوط والشعب السوري لديه اختيار الحريه والقاومة معا.
18 سبتمبر 2011
مافي شي أسوء من النظام السوري إلا معارضته و الناس اللي ضده ..
لهيك أنا مع القيادة السورية برئاسة بشار الأسد ومشروعه ومُبادَراته الإصلاحية، المُتَّصِلِة عُضويًا بمواقفه وخياراته السياسية الوطنية والقومية والثقافية،
18 سبتمبر 2011
يس الهدف هو الإصلاحات والحرية، ولا رغيف الخبز والديمقراطية، ولا يتمثَّل الهدف بمجرد تغيير القيادة السّورية، إنما المطلوب هو تغيير وِجهة سوريا وتوجهاتها وخياراتها، الوطنية والقومية والثقافية..
مزبوط جداً هالمقال!!
18 سبتمبر 2011
عبقري !
وكما يقول االاخ (العبقري ايضا) أسعد عودة
“اسلم ودم”
18 سبتمبر 2011
حتما ستنهال عليك الإنتقادات بعد هذا التحليل الواقعي للأزمة السورية ، … فبعد أن فقد معظمنا ” البوصلة ” السياسية الأجتماعية ،أصبحت سلوكيات من يُنادي بالحرية والديمقراطية تخوين كل من يخالفهم الرأي وإلصاقه بمختلف الألقاب ، مُتناسين دعواتهم المسبقة للحرية والديمقراطية وحرية الرأي والتحليل ….