موتى يعيدون تشكيل الوجود/ عمر شهريار
|عمر شهريار| ينطلق ديوان “موتى يجرون السماء” […]
موتى يعيدون تشكيل الوجود/ عمر شهريار
|عمر شهريار|
ينطلق ديوان “موتى يجرون السماء” للشاعر موسى حوامدة والصادر مؤخرا في القاهرة عن دار أرابيسك، من مفهوم المخالفة للمستقرات الثقافية الراسخة، والتي تؤكد، أولا النفور من الموت بوصفه غيابا، فإذا بالذات الشاعرة تستعجله وتذهب إليه اختياريا بوصفه خلاصا من الجحيم الأرضي المفعم بالانكسارات والانهزامات الشخصية والجمعية، ممثلة في الذات ووطنها المحتل الضائع.
كما نرى هذه المخالفة للمستقر الثقافي، ثانيا، عبر إعادة تشكيل وبناء مفهوم الفاعلية، فالمعتاد في الثقافة هو أن السماء هي التي تمتلك الفعل، فهي الفاعل أبدا، في حين أن الإنسان يظل في خانة المفعول به، ولكن الشاعر قام بحالة قلب لهذه المفاهيم، فإذا بالموتى يقومون بالبدء في الفعل، فهم المبتدأ، وأيضا هم الفاعل المستتر عبر ضمير الغائب (هو) في جملة الخبر، فوجودهم مزدوج ومضاعف، على عكس السماء التي تأتي مفعولا بها في جملة الخبر.
بالإضافة إلى الملمحين السابقين نلمح، أيضا، حضور الموتى في العنوان رغم غيابهم الواقعي المفترض، في حين أن الأحياء الحاضرين افتراضيا يصبحون موتى وغائبين في العنوان، فحضور الموتى في العنوان يحيلنا مباشرة إلى غياب الأحياء، وفاعلية الموتى تحيلنا، كذلك، إلى لافاعلية الأحياء واستلابهم بطرائق شتى، فالموتى يحيلون إلى نقيضهم الذي لا ينفك، في الواقع المعيش، أن يباهي بحضوره الزائف وفاعليته المتوهمة.
ولعل ما سبق من مخالفات للأنساق الثقافية المهيمنة هو الذي دفع الذات الشاعرة إلى افتتاح الديوان بقصيدة “حين يأتي الموت” والتي يبدأها بمقطع كثيف الدلالة يقول فيه: “حين يأتي الموت/ سأبصق في وجه الحياة؛/ أقنع نفسي أن الدنيا بائسة،/ وأن الناس كل الناس ديدان صفراء”؛ فهذا المقطع يتسق مع ما ذهبنا إليه من إعادة تشكيل مفاهيم الموت والحياة، وإعادة ترتيب ثنائية الموتى/ الأحياء؛ إذ يحتل الموتى في هذا المتخيل الشعري المكانة العليا على الأحياء، بل وعلى السماء أيضا، كما أن جملة “الناس، كل الناس، ديدان صفراء” تبدو ناصعة في سياق إعادة تشكيل العالم هذه، إذ يستحيل معها الناس/ الأحياء إلى ديدان، مع ما هو معروف عن أن الديدان هي التي تأتي على جثث الموتى لتنهي عليها وتمحوها من الوجود المادي، فكأن الذات الشاعرة تعيد تأسيس العلاقة المركبة بين الأحياء والموتى، وتفكك الصورة التقليدية عن الأحياء الذين يتباكون على الموتي وينعونهم، بل تراها من منظور أكثر عمقا، حيث تصبح الفاعلية الوحيدة للحي هي أن يأكل يحمل أخيه ميتا، ولعل هذا يمثل تناصا خفيا مع النص القرآني.
يتضام مع المقطع السابق مقطع آخر من القصيدة نفسها، يقول: “كلما كان عدد المشيعين أقل/ كان ضميري أكثر بياضا،/ وكلما كانت الدموع أقل/ كانت أخطائي أجمل،/ لينصرف المعزون قبل تدشين البياض../ لينصرفوا؛/ ليست لي حاجة إلى مديح ناقص،/ ليست حسناتي مشجبا للنفاق،/ لينصرف الأوغاد.” فنحن بإزاء علاقة عكسية بين المشيعين والبياض، وكأن وجود بشر يتراوح عكسيا مع النقاء والصفاء، ومن ثم فإن الذات الشاعرة يأمر المعزين بالانصراف قبل تدشين الباض وكأن وجودهم يعوق هذا التدشين ويعطله، وكأن وجود أحدهما ينفي وجود الآخر.
وتتساوق مع ثنائية الأحياء/ الموتى، ثنائية أخرى تتجاور معها على المستوي البنيوي، وهي ثنائية الجسد/الظل والتي نلمحها تطل من قصيدة “كما ليلي يطرق باب الفجر” والتي يقول فيها: “يمشي، خفية، ظلي علي الأرض/ خفية، يزور مدينة ساحلية/ يقتفي أثر وعول جافلة/ يدخل بارا قديما في حي من أحياء القاهرة،/يمر علي مقبرة المماليك،/ يداعب قطة سمينة عند موقف سفريات ألماظة،/ يري نفسه شهابا في مجرة نائية،/ يبني قصرا عامرا من كلمات”. فالظل هو الذي يمشي ويزور ويقتفي ويدخل ويداعب ويري ويبني، إنه صاحب الأفعال كلها، إنه الفاعل الحق، وليس محض صورة باهتة للجسد الحي، كما هو مستقر في النسق الثقافي التقليدي، وكأننا في حالة دائمة من المحاولات الدؤوبة لتدمير تلك الأنساق وتفكيكها.
في إطار هذه الحالة من إعادة تفكيك الوجود بغية إعادة ترتيبه وفق الرؤية الخاصة للذات الشاعرة، سنجد هذه الذات تلتفت التفاتتين مهمتين في قصيدة “أسوة بحليب الأم ندمي”، إحداهما للماضي والأخري للمستقبل، حيث يقول: “يا معلمي/ لم تعلمني باليقين ما نلته بالدهشة/ لم يفدني التراتب كما حررني العشق/ لم توصلني بالخشونة ما ذقته بالفتنة/ أدين لك بابتعادي عنك/ تجبرت بي حتى خسرت مقام الهوى”. فالذات، هنا، تحاكم الماضي وتخضعه للمساءلة واللوم، متخذة من المعلم رمزا لهذا الماضي وللصيغ الأبوية للثقافة وتلقين أنساقها الراسخة، وربما استحضار مفردة التراتب في مقابل “حررني العشق” يبدو استحضارا دالا على نمطين من الوعي أحدهما مولع بالتراتب الهيراركي ذي الطابع السلطوي البطريركي، والآخر يرنو نحو التحرر الذي لن يتأتي سوي بالعشق، فنحن أمام نمطين من المفردات كل منهما ينتمي لنمط معين من الوعي ورؤية العالم والتعاطي معه: (اليقين، التراتب، الخشونة) في مقابل (الدهشة، العشق، الفتنة).
في مقابل هذه الالتفاتة للماضي، نجد التفاتة أخرى للمستقبل، ابتغاء إعادة تشكيله وفق تصورات الذات لما يجب أن يكون، يقول: “أسوة بي كن مريدي/ ضم جنايتي/ لا تأبه لحماسة أبي تمام/ ولجد المتنبي/ باشر غناءك الخفي/ صلاتك السرية/ صن روحك من عطب النشوة” وسنجد هنا استخدام ضمير المخاطب وكأن الذات تخاطب نفسها باعتبارها ذاتا أخرى غير تلك التي تعرفها، ذات جديدة تماما ما زالت تتلقى أوليات المعرفة، في حين أن الذات القديمة التي خبرت الدنيا أخذت موضع المعلم، ولكنه المعلم غير التقليدي، ورغم إنه يستخدم كثيرا أساليب الأمر والنهي (كن، ضم، باشر، صن، لا تأبه) فإنه سشتخدمها نحو تدمير التراث الرسمي للمعرفة الجمعية (أبو تمام والمتنبي) وينحو باتجاه الاستماع إلي هسهسة الذات ووشوشتها الرهيفة، باتجاه الإخلاص لطقوسها الخفية والسرية بعيدا عن الصكوك التقليدية للمعرفة، حيث تبدو الذات وتشوفاتها هي مرجعية نفسها، بقطع النظر عن أيّ مرجعيات خارجها.
لا تكتفي الذات الشاعرة بإعادة تشكيل الوعي بالعالم فقط، بل يتحول نحو الشروع في إعادة تشكيل الوجود كله، بعد أن يصل إلى جنته المعرفية المبتغاة، فنراه في قصيدة “هناك في أعالي الجنة” يقول: “تلبسني شيطان الأرض ومد لي جسرا إلى بوابة السماء،/ هناك. في أعالي الجنة./ وجدت الدلفين يراقص الغراب؛/ الحمامة تأكل عين الأسد؛/النعامة تلدغ الأفعى؛/ السعدان يمط رجليه في وجه الحصان؛/ الجبال تتهادى بين يدي الهدهد؛/ الهضاب تمط إليتيها قرب ذقن الجبل؛/ الصحراء خضراء مكسوة بالشجر؛/ الواحات قفرا ترشح بالسراب”. فجميع مفردات الكون تنتزع من إرثها وأدوارها المعهودة، وتكتسب أدوارا جديدة، تتسق مع الوعي الجديد بالعالم، بعد أن يتم تدمير الصور التقليدية وتفكيكها.
(عن “أخبار الأدب”)
• صدور “موتى يجرون السماء” لموسى حوامدة عن دار “أرابسك”
21 أغسطس 2011
موسى حوامدة شخص يريد ان يصير شاعرا بالقوة(قوة العلاقات العامة/السامة) ولا نعرف من هذا الشهريار الذي دبج هذا المقال عن كتابه البائس ولماذا تعيد قديتا نشره…..