مفاهيم أساسية في نظرية لاكان للتحليل النفسي/ هشام روحانا (2)
تعريف بمفاهيم لاكان النظرية، في سياق دعوته “للعودة إلى فرويد”، وفي سياق تطوّرها المفهومي لديه، وسيرورة تكوّن هذه المفاهيم في علاقاتها وتمايزاتها واختلافاتها مع نظرية فرويد نفسه، ومع نظريات التحليل النفسي اللاحقة لفرويد، وفي نفس الوقت مع الخطاب الفلسفي والألسني والأنثروبولوجي
مفاهيم أساسية في نظرية لاكان للتحليل النفسي/ هشام روحانا (2)
|ترجمة وإعداد: د. هشام روحانا|
أقدم في ما يلي وتباعًا على حلقتيْن، عرضاً للتعريف بمفاهيم لاكان النظرية، المستخدمة لديه في سياقها التاريخيّ، أي في سياق دعوته “للعودة إلى فرويد”، وكذلك في سياق تطوّرها المفهومي لديه هو. وأعني بهذا سيرورة تكوّن هذه المفاهيم في علاقاتها وتمايزاتها واختلافاتها مع نظرية فرويد نفسه، ومع نظريات التحليل النفسي اللاحقة لفرويد، وفي نفس الوقت مع الخطاب الفلسفي والألسني والأنثروبولوجي. من المتعارف عليه تفسير استعمال لاكان لأسلوب لغويّ معقد، وامتناعه عن تقديم محاضراته الشفهية لاحقاً على شكل نصوص مكتوبة، برغبته في فسح المجال لتأويلات وتفسيرات مختلفة وعديدة ممّا يقلل من إمكانية تحولها إلى عقيدة مغلقة ناجزة. إنّ هذا الأمر، بالإضافة إلى أسباب أخرى عديدة، يجعل مهمة التعريف الدقيق والنهائي لهذه المفاهيم مهمة مستحيلة. على هذا، من المفضل التعامل مع هذه التعريفات، كـ “أدوات عمل” فكرية، إن صحّ التعبير.
تُرجمت هذه المواد من كتاب “AN INTRUDICIONARY DICTIONARY OF LACANIAN PSYCHOANALYSIS” لمؤلفه Dylan Evans، حيث تزخر هذه النصوص باقتباسات من نصوص لاكان. عندها يُكتب الاقتباس بالحرف المائل والمشدّد بين قوسي الاقتباس ويليها مباشرة مصدر الاقتباس ويكون ذلك على شكل الحرفE ، ليشير إلى Ecrites (“كتابات” لاكان بترجمته الانجليزية)، أو على شكل Ec ليشير إلى النسخة الفرنسية الأصلية والتي لم تترجم بالكامل بعد، إلى الانجليزية، أو على شكل الحرفS للإشارة إلى “سمينار” (أي إلى سلسلة المحاضرات التي كان يلقيها لاكان كل عام على جمهور مستمعيه). يلي هذا الحرف مباشرة رقم الصفحة أو الرقم التسلسلي للسمينار ومن ثم رقم الصفحة. يجري في سياق النصّ تشديد (تسويد) مصطلحات محدّدة للإشارة إلى أنها أيضًا عناوين يجري بحثها على انفراد في هذا المعجم.
لقد تم اختيار المفاهيم المتعلقة بأنظمة لاكان الثلاثة: الرمزي، الواقعي والخيالي، لنبدأ بها وليتم مستقبلاً عرض مفاهيم أخرى.
الذات والآخر
ذات subject Sujet
المصطلح “ذات” حاضر في كتابات لاكان النظرية المبكرة جداً (أنظر، Lacan 1932)، ومنذ عام 1945 وصاعداً يحتل مكانةً مركزية في أعماله. وهذا ما تتميز به أعمال لاكان، إذ أن هذا المصطلح لم يكن قائماً في المخزون اللغوي النظري لفرويد، وإنما يتصل أكثر ما يتصل بالخطاب الفلسفي والقانوني والألسني.
لا يشير المصطلح “ذات” في نصوص لاكان ما قبل الحرب على ما يبدو، إلا إلى “إنسان” (للنظر، Ec, 75)، ويستعمل المصطلح أيضاً للإشارة إلى المتحلل نفسيًا (Ec, 83).
يميز لاكان في عام 1945 ثلاثة أنواع من الذات؛ أولاً، هناك الذات غير الشخصية، الغير متعلقة بآخر، الذات الصرفية البحتة، الذات العقلية، الموضوع المُقنع في جملة “معروف أنه….”؛ ثانيًا، هناك الذات التبادلية، غير المعرفة، المتساوية بالكامل مع كل ذات أخرى والقابلة للتبديل مع أيّ ذات أخرى، هذه الذات التي يتم التعرف عليها بالتوازي مع الآخر. ثالثاً هناك الذات الشخصية والتي تؤسس لتفردها من خلال الإقرار الذاتي (Ec, 207–8). المفهوم الثالث للذات؛ الذات في فرديتها هي الذات التي تتواجد دائما في مركز أعمال لاكان.
يؤسس لاكان في العام 1953 فارقاً بين الذات والأنا، ليبقى هذا التمييز واحداً من التشخيصات الأكثر أساسية في أعماله منذ الآن وصاعداً. ليست الذات إذًا موازيةَ ببساطة للشعور الواعي بأتيان الأفعال، والذي ليس سوى وهم ينشئه الأنا، بل هي موازية لللاوعي، ذات لاكان هي ذات اللاوعي. يدعي لاكان أنه من الممكن العثور على أصول هذا التمايز لدى فرويد:”كتب[فرويد] الأنا والهو (Das Ich und das Es ) من أجل الحفاظ على التمييز الأساسي بين الذات الحقيقية لللاوعي وبين الأنا، كما يتأسس في بؤرته من خلال سلسلة التماهيات المُؤسلِبة “(E, 128). وعلى الرغم من أن للعلاج التحليلي تأثيره على الأنا، ألا أن التحليل النفسي يفعل فعله أولاً، وقبل كل شيء على الذات وليس على الأنا.
يؤسس لاكان في العام 1953 فارقاً بين الذات والأنا، ليبقى هذا التمييز واحداً من التشخيصات الأكثر أساسية في أعماله منذ الآن وصاعداً
يتلاعب لاكان بالمعاني المختلفة للمصطلح ذات. في الألسنية وعلم المنطق ؛ ذات البلاغ هي الذي يتم إسناد تصريح ما حياله (Lacan 1967 :19)، وتتخذ موقعاً نقيضاً لـ “الموضوع”. يستعمل لاكان التباينات الفلسفية المختلفة لمفهوم الموضوع من أجل أيضاح مفهومه الخاص حول الذات، حيث أنّ هذا المفهوم يتصل لديه بتلك الجوانب في الإنسان، التي لا يمكن (أو من الممنوع) أن يتم تشييئها (أي التوجه حيالها وكأنها مجرد أغراض) أو فحصها فحصاً “موضوعياً”. ” ما هو هذا الأمر الذي ندعوه ذاتاً؟ أنه بالضبط ما يبقى خارج الموضوع خلال المعاينة الموضوعية (Objectivation) “ .(S1, 194)
تسيطر الإحالات إلى اللغة على مفهوم الذات لدى لاكان منذ الخمسينات وصاعداً. إنه يميز بين ذات التصريح (statement) وذات الملفوظية (enunciation)، مبيناً أنه وبما أنّ الذات في جوهرها هي كائن متكلم ((parlêtre) فإنها منقسمة، مخصية ومنفصمة لا محالة. في سنوات الستين المبكرة يعرف لاكان الذات على أنها ما يتم عرضه من قبل الدال أمام دال آخر؛ أي أنّ الذات هي نتاج اللغة (Ec, 835).
فيما عدا موقعها الألسني والمنطقي فإنّ لمفهوم الذات تضمينات فلسفية وحقوقية. يفيد هذا المفهوم في الخطاب الفلسفي، الإدراك الذاتي الفردي، بينما يشير في الخطاب الحقوقي إلى الشخص الخاضع لسيادة آخر (subject of). وحقيقة أنّ هذا المصطلح يحمل كلا المعنيين معاً تعني أنه يُظهِر بالكامل مَوضوعَة لاكان القائلة بأنّ الوعي يتحدّد على يد الرّمزيّ: “الذات هي ذات لأنها في الحقيقة خاضعة (subjection ) لمجال سيادة الآخر” ( S2, 188). كما يشير المصطلح في الخطاب الحقوقي إلى تثبيت الفعل، الذات هي مَن يُمكن الإشارة إليها كمسؤولة عن أفعالها (للنظر فعل).
يشدّد لاكان بالتحديد على النواحي الفلسفية المرتبطة بمفهوم الذات، رابطاً إياه بفلسفة الكوجيطو لديكارت: من خلال المصطلح “ذات” [...] لا أشير إلى الطبقة التحتية الحية الضرورية لهذه الظاهره والتي هي الذات، وليس إلى كل أمر أو مخلوق حامل للمعرفة ببديع بيانه (pathos) ولا حتى إلى عقل ما وقد تجسّد وإنما إلى الذات الديكارتية، المنبثقة في لحظة إدراكنا الشكّ على أنه يقين (S11, 126).
حقيقة ان رمز الذات (S) هي ملفوظ المصطلح الفرويدي Es (أنظرالـ هو) توضح كون الذات وبعيني لاكان هي ذات اللاوعي. في العام 1957 يخط لاكان على رمز الذات S، خطاً كاسراً، للإشارة إلى “الذات المنشطرة”، لإيضاح حقيقة أنّ الذات منقسمة في جوهرها.
آخر/آخر other\Other autre\Autre
مفهوم “الآخر” هو لربما المفهوم الأكثر تعقيداً في أعمال لاكان. عندما قام لاكان في الثلاثينيات باستعماله، فان هذا المصطلح حينها لم يكن قد أمتلك حضوره الخاص، وكان يرمز بشكل عام إلى “أناس آخرين”. وعلى الرغم من أن فرويد كان قد أستعمل مصطلح الآخر وتكلم عن الشخص الآخر، الغير(dere Andere) وكذلك الغيرية (das Andere)، إلا أنّ لاكان وعلى ما يبدو قد استعار المصطلح من هيجل والذي تعرض لفلسفته من خلال محاضرات ألكسندر كوجيف في École des Hautes Études ، ما بين الأعوام 1933-1939 (للنظر Kojève, 1947).
في العام 1955 يرسم لاكان حدًا فاصلاً ما بين “الآخر الصغير” (الآخر) وبين الـ آخر الكبير(الـ آخر) (S2, ch. 19)، مثبتاً تمايزاً يحافظ على منزلته المركزية طوال أعماله منذ ذلك الحين. وانطلاقا من هذه النقطة فصاعداً يُشار في الجبر اللاكاني للـ آخر الكبير بالحرفA / الحرف الكبير،(مُمثلاً لـAutre بالفرنسية)، بينما يشار للآخر الصغير بالحرف a (الحرف الصغير المائل ممثلاُ لـ outré بالفرنسية). يدعي لاكان أنّ التنبه لهذا الفارق ضروريّ للممارسة التحليلية وأنّ على المحلل النفسي أن يكون “مسكوناً بشكل مطلق” بإدراك هذا الفارق بينA وa (E, 140) كي يستطيع أن يُموضِع نفسه في موقع الـ آخر وليس الآخر
(Ec, 454).
- الآخر الصغير وهو الآخر الذي ليس بآخر فعلاً، وأنما الصورة المتخيلة وإسقاط (Projection) الأنا (EGO) (من هنا، الدال a يمثل تارة الآخر الصغير وتارة الأنا في الشكل (L ؛ إنه في ذات الوقت النظير والصورة المنعكسة. ومن هنا فإن الآخر الصغير مُسجلٌ بالكامل في النظام المتخيل (لتفصيل إضافي حول الدال a عند لاكان يمكن مراجعة الموضوع a صغيرة).
- الـ آخر الكبير يمثل الغيرية المُطلقة والمتجاوزة لغيرية النظام المتخيل الوهمية، حيث أنها غير قابلة للتمثل من خلال التماهي. يوازي لاكان هذه الغيرية الجذرية مع اللغة والقانون، ولهذا فإن الـ آخر الكبير مُسجلٌ في النظام الرمزي. وفي الحقيقة فإنّ الـ آخر الكبير ما هو إلا الرمزي متشخصًا، على صورة فردٍ ما مقابل ذاتٍ ما. ووفقاً لهذا فإنّ الـ آخر هو ذات أخرى في غيريتها الجذرية وتفردها غير القابل للتمثل، وفي نفس الوقت النظام الرمزي القائم كوسيط للعلاقات المتشكلة مع الذات الأخرى.
لكن معنى “الـ آخر كذات أخرى” هو حصراً ثانويٌ لمعنى” الـ آخر كنظام رمزي” إذ “يجب أدراك الـ آخر أولاً وثانياً كموقع، هذا الموقع الذي يتأسس فيه الكلام” (S3, 274). من الممكن الحديث إذاً عن الـ آخر كذات، فقط ضمن المعنى الثانوي، أي بالمعنى الذي تتخذ فيه ذات ما هذا الموقع، وبهذا “تُجسِد” الـ آخر مقابل الذات الأخرى (S8, 202).
من خلال الادّعاء بأنّ مصدر الكلام ليس الأنا ولا حتى الذات وإنما الـ آخر، يشدد لاكان على أن الكلام واللغة يتواجدان خارج مجال السيطرة الواعية للإنسان، أنهما يحضران من مكان آخر، من خارج الوعي، لهذا فـ “إن اللاوعي هو خطاب الـ آخر“( Ec, 16). ومن خلال أدراك الـ آخركموقع، يشير لاكان إلى مفهوم فرويد عن حلبة الأحداث النفسية والذي وفقه يتم وصف اللاوعي بالـ “حلبة أخرى” (للنظر حلبة).
في العام 1955 يرسم لاكان حدًا فاصلاً ما بين “الآخر الصغير” (الآخر) وبين الـ آخر الكبير(الـ آخر)، مثبتاً تمايزاً يحافظ على منزلته المركزية طوال أعماله منذ ذلك الحين
إنها الأم؛ هي أول من يحتل موقع الـ آخرالكبير قبالة الطفل، إذ أنها هي أُول من يستقبل الصراخ البدائي للرضيع فتعطيه وبأثر رجعي، معنىً ما، جاعلةً منه رسالة معينة (للنظر punctuation تفصيل المعنى). تتكون عقدة الخصاء عندما يتضح للطفل أن هذا الـ آخر ليس كاملاً. هناك نقصٌ في الـ آخر. بكلمات أخرى: هناك دوماً دالٌ ناقصٌ في معجم الدوال المؤسس من قِبَل الـ آخر. الـ آخرالمتكامل الأسطوري (والذي يكتب بالحرف اللاتيني الكبيرA في الجبر اللاكاني) غير قائم. في عام 1957 يقدم لاكان عرضاً شكلياً لهذا الـ آخر الناقص،عن طريق مدّ خط مائل يقسم هذا الرمزA ليغدو A، واهاباً اسماً أضافياً للـ آخر المخصي فيغدو الـ آخر الناقص وهو الـ آخر المثلوم.
الـ آخر هو أيضا “الجنس الـ آخر “( S20, 40)، الجنس الـ آخر هو دائماً امرأة، مقابل الذات الذكرية والذات الأنثوية على حد سواء، ” يقوم الرجل بدور محطة تبديل حيث تغدو المرأة آخرَ تجاه نفسها كما هي آخرُ تجاهه“( E,732).
جدل السيد والرغبة
سيد master maître
غالبا ما يحيل لاكان في أعماله خلال الخمسينيات إلى “جدلية السيد والعبد” والتي عرضها هيجل في فنومنولوجيا الروح (1807). وكما في جميع الحالات التي يوجه فيها لاكان إلى هيجل فإنه يعتمد قراءة ألكسندر كوجيف لهيجل، والتي انكشف لها كمشترك في محاضرات كوجيف حول فلسفة هيجل في الثلاثينيات (للنظرKojève, 1947).
وفقاً لكوجيف فإنّ جدلية السيد والعبد هي نتيجة محتومة لحقيقة أنّ الرغبة لدى الإنسان هي الرغبة في اعتراف الآخر به. ولكي يتم للذات الاعتراف بها فإنها بحاجة لأن تفرض تصوّرها عن نفسها على آخر، ولهذا فإنّ الذات موجودة في علاقة تناحريّه مع الآخر. يتوجّب على هذا الصراع من أجل الاعتراف، أي الحصول على” الهيبة الخالصة“، أن يكون “صراع حياة أو موت” (للنظرS1, 223 وأيضاً Kojève, 1947:7)، إذ أنه فقط من يكون مستعداُ بالفعل لأن يخاطر بحياته من أجل الحصول على هذا الاعتراف، هو إنساني حقاً. ومن الوجهة العملية فإنّ على هذا الصراع ألا ينتهي بمقتل أيٍّ من الطرفين، وبما أن الاعتراف لا يتم إلا من قبل الأحياء، فإن الصراع ينتهي عندما يستسلم أحد الطرفين، متخلياً عن رغبته بأن يتم الاعتراف به. المستسلم هو من يقرّ للمنتصر بـ “السيادة” متحولاً إلى “عبدٍ” له. وفي الواقع، فإنّ المجتمع الإنساني يغدو ممكناً فقط في الحالة التي يوافق فيها بعض الناس على عبوديتهم عوضاً عن الصراع حتى الموت، فمجتمع الأسياد غير قابل للوجود.
بعد انتصاره يقوم السيد بجعل العبد عاملاً منتجاً له. تتأتى ثمار عمل العبد من التغير الذي يحدثه في الطبيعة، ليقوم السيد باستهلاك هذه الثمار والتمتع بها. إلا أن هذا الانتصار ليس انتصاراً مطلقاً كما يبدو للوهلة الأولى، ذلك أنّ العلاقة ما بين السيد والعبد هي علاقة جدلية بطبيعتها لأنها تنفي موقِع الطرفين. فمن جهة أولى لا يأتي هذا الاعتراف الحاصل للسيد من طرف إنسان آخر وإنما من مجرد عبد، منظورا إليه من طرف السيد كحيوان أو غرض ولهذا فـ “إن الإنسان الذي يتصرف كسيد لن يبلغ الرضا أبدًا” (Kojève, 1947:20). في المقابل يحصل العبد من خلال عمله على تعويض ما، إذ انه ومن خلال عمله يرتفع بمنزلته فوق الطبيعة محولاً إياها إلى شيء مختلف عمّا قد كانته سابقاً. من خلال قيامه بتغير العالم يتغير العبد متحولاً إلى مبدع لذاته، بينما، لا يستطيع السيد ذلك إلا بتوسط من العبد. يغدو التطور التاريخي في هذه المرحلة “نتاجاً لعمل العبد العامل وليس السيد المحارب” (Kojève, 1947:52). تقود العملية الجدلية في النهاية إلى نتائج مناقضة وعكسية لما هو متوقع، إذ يجد السيد نفسه في موقف غير مُرضٍ، “انسداد أفق وجودي“، بينما تتأتى للعبد إمكانية تحقيق حالة رضا حقيقي بواسطة هذا “التجاوز الجدلي” لعبوديته.
يعتمد لاكان على جدلية السيد والعبد من أجل توضيح مجال واسع من القضايا. مثالٌ على ذلك، صراع الذات من أجل حصولها على الاحترام الخالص، الأمر المتعلق بالطبيعة البيْن ذاتية للرغبة، ووفقاً لهذا فإنّ ما هو مهم للرغبة هو تحصيل الاعتراف من الآخر. الصراع حتى الموت يمثل الطبيعة العدوانية المنقوشة في العلاقة ما بين الذات والمثيل (142E, ). وأيضاً عندما ” ينتظر العبد موت السيد” بخنوع (E, 99) فإنه كمثيل للمصاب بالعصاب القهري، المتميز بالتردّد وعدم الحسم (S1, 286).
يستعمل لاكان جدل السيد-العبد منظراً لخطاب السيد. وفقاً لصياغته فإنّ السيد هو الدّالّ (S1)، الذي يستغل العبد (S2) لكي ينتج قيمة إضافية (a)، ليتملكها لنفسه. الدال سيد يمثل الذات أمام سائر الدوال، ويمثل خطاب السيد إذاً محاولة للتعميم (لهذا فإن لاكان يربط خطاب السيد بالفلسفة والانطولوجيا متلاعباً على التناظر السماعي لـ (maître) و(m’être) ["سيد" و"أن يكون لي"], S20, 33). لكن الفشل هو مصير هذه المحاولة، إذ أنّ الدال سيد ليس بمقدوره أبدا أن يشمل الذات كاملة؛ هناك دائماً فائضٌ يَفِرُ دون أن يتمثل بالكامل.
رغبة desire désir
المصطلح “رغبة” (désir) للاكان هو المصطلح المستعمل بالفرنسية كترجمة لمصطلح فرويد الألماني”Wunsch“، وكان ستراتشيStrachy قد ترجمه إلى Wish”" في الانجليزية في الـStandard Edition . يقف مترجمو لاكان إلى اللغة الإنجليزية أمام معضلة: هل يترجمونdésir كـ “أمنية” (Wish)؟ وهي الترجمة الأقرب للكلمة (Wunsch) المستعملة لدى فرويد، أم كـ “رغبة” ((desire؟ وهي الأقرب إلى المصطلح الفرنسي ولكنه يفتقد الصلة مع المصطلح الفرويدي. لقد وقع اختيار هؤلاء المترجمين على مصطلح “desire” الأقرب إلى الفرنسية والذي يتضمّن في اللغتين إشارة إلى طاقة متواصلة والتي هي أساسية للمفهوم اللاكاني. ويحمل المصطلح الانجليزي معه أيضا نفس العلاقات التي يُحضرها المصطلح الفرنسي مع المفهوم الهيجلي (Begierde). بهذا تستمرّ المحافظة على الدقة الفلسفية، والتي هي جوهرية لمفهوم لاكان désir”" وتجعله مفهوماً واسعاً ومجرداً أكثر بكثير من جميع المفاهيم التي يستعملها فرويد نفسه ((Macey, 1995:80.
يتوجّب على هذا الصراع من أجل الاعتراف، أي الحصول على” الهيبة الخالصة“، أن يكون “صراع حياة أو موت“، إذ أنه فقط من يكون مستعداُ بالفعل لأن يخاطر بحياته من أجل الحصول على هذا الاعتراف، هو إنساني حقاً
لو كان بالإمكان وضع مصطلح ما في مركز نظرية لاكان، لكان مصطلح الرغبة هو هذا المصطلح. يسير لاكان هنا على خطى سبينوزا حيث يجادل بأنّ “ الرغبة هي جوهر الإنسان” (275Spinoza 1677,S XI ,). الرغبة هي، قلب الوجود الإنساني وفي الوقت عينه هدف التحليل النفسي. وعندما يتحدث لاكان عن الرغبة، فإنه لا يتكلم عن كلّ رغبة بل عن الرغبة اللاواعية، ليس لأنه لا يعتبر الرغبة الواعية غير مهمة، بل لأنّ الرغبة اللاواعية هي ما يشكل الهدف المركزي للتحليل النفسي. الرغبة اللاواعية هي جنسية بالكامل: ” المحركات اللاواعية تقتصر (…) على الرغبة الجنسية (…) أما الرغبة الكبرى الثانية، الجوع، فإنها غير مُمثلة” (E,140).
هدف العلاج التحليلي هو قيادة المتحلل نحو التعرف على واقع رغبته. لكن الإنسان لا يستطيع التعرف على واقع رغبته إلا عندما يعبر عنها بالكلام:” فقط عند صياغتها، عندما يتم أعطائها اسماً بحضور الآخر تحظى الرغبة، أياً كانت، بالاعتراف بكامل ما تعنيه الكلمة“( S1, 183). ” ما هو مهم فعلاً[في التحليل النفسي]، هو تعليم الذات أن تسمي بالاسم، أن تُعبر عن الرغبة، وأن تُحضرها إلى كامل وجودها” (S2, 228). أذ أن المسألة ليس مسألة البحث عن طرائق جديدة للتعبير عن الرغبة، مما قد يعني أنّ هناك حاجة إلى نظرية تعبيرية للغة. بل على النقيض من هذا؛ فمن خلال التعبير عن الرغبة بالكلام يقوم المتحلل باستحضارها إلى الوجود: “على الذات أن تصل إلى تلك المرحلة التي تَعترف فيها برغبتها وتسميها بالاسم – هذا هو الفعل التحليلي . ليس الحديثُ ها هنا عن إدراك شيٍء ما، وقد كان مَعطيا لنا بالكامل [...]. من خلال تسميته فإنّ الذات تصنع، تُحدث، وجوداً جديداً للعالم“(S2, 228–9).
إلا أن هناك حداً لمدى قدرة الكلام على التعبير عن الرغبة، إذ أن هناك وفي الأساس “ تعارضاً ما بين الرغبة والكلام“((E, 275؛ هذا التعارض هو ما يفسر عدم إمكانية اختزال اللاوعي (أي حقيقة أنّ اللاوعي، ليس ما هو غير معروف بل إنه، ما هو غير قابل للمعرفة). وعلى الرغم من أنّ الحقيقة في ما يخص الرغبة موجودة بدرجة معينه في جميع الكلام، إلا أنّ الكلام لا يستطيع أبدا التعبير عن كامل الحقيقة في بما يخص الرغبة؛ فكلما حاول الكلام التعبير عن الرغبة، تظل هناك بقية، بقية تتجاوز الكلام.
من أهم الانتقادات التي وجهها لاكان للنظرية التحليلية المعاصرة له، هو خلطها لمفهوم الرغبة بمفاهيم أخرى مرتبطة، كمفهوم الطلب ومفهوم الحاجة، وبالضدّ من هذا الميل أكّد لاكان على ضرورة التمييز بين هذه المفاهيم الثلاثة. يبدأ لاكان عام1957 بتوضيح هذه الفروق (للنظر S4, 100–1, 125 ) إلا أنه يُبلورها في العام 1958 (Lacan, 1958c).
الحاجة هي غريزة بيولوجية صافية، جوع يتصاعد مع توقد متطلبات الكائن الحي ليخبو نهائياً (حتى ولو لفترة محدودة) عندما يتم إشباعه. الذات الإنسانية المولودة في حالة من العوز التام وغير القادرة على تلبية حاجاتها بنفسها، هي بحاجة تامة للـ آخر ليقوم بسد هذا العوز. ومن أجل الحصول على المساعدة، يكون على الرضيع أن يجاهر بحاجته بالصوت عالياً؛ هناك ضرورة للإفصاح عن الحاجة بالصّوت لكي تغدو طلبًا. هذا الطلب يتم التعبير عنه بصورة بدائية أي بواسطة الصراخ الخام، الموظف من أجل دفع الـ آخر للقيام بتلبية حاجات الرضيع. إلا أنّ هذا التواجد للـ آخر سرعان ما يتخذ أهمية مستقلة، أهمية تتجاوز مجرد القيام بإشباع الحاجة، إنه يغدو رمزاً للحبّ من طرف الـ آخر. لهذا فإنّ الطلب سرعان ما يأخذ على عاتقه أداء وظيفة مزدوجة؛ أي إلى التعبير عن الحاجة وإلى طلب للحبّ. وبينما يستطيع الـ آخر تقديم مواضيع ضرورية للذات لتقوم بإشباع حاجاتها إلا أنه غير قادر على تقديم الحبّ غير المشروط والذي تصبو إليه الذات. لهذا وبعد أن يتم إشباع تلك الحاجات التي قام الطلب بالتعبير عنها يبقى الوجه الآخر للطلب؛ يبقى التوق إلى الحبّ في حاجةٍ إلى الإشباع، هذه البقية هي الرغبة ” ليست الرغبة بالجوع للإشباع وليست طلب الحب وإنما الحاصل المتبقي عندما نطرح الأول من الثاني” (E, 287).
الرغبة إذًا، هي هذا الفائض المتكوّن من خلال الإفصاح عن الحاجة طلبًا: ” تبدأ الرغبة بالتشكّل على الهامش حيث يتم انفصال الطلب عن الحاجة“(E, 311)، وخلافاً للحاجة والتي يمكن إشباعها بشكل تام ونهائي فتتوقف عن تحريك الذات إلى أن تنشأ حاجة جديدة، فأن الرغبة لا يمكن أن يتم إشباعها أبداً، أنها تقوم بممارسة الضغط الدائم، إنها أبدية. لا يتم تحقيق الرغبة عن طريق “أنجازها”، وإنما من خلال أعادة أنتاجها من جديد بما هي كذلك.
يُذكِّر هذا التمييز ما بين الرغبة والحاجة، والذي يرفع فيه لاكان الرغبة من المستوى البيولوجي، بالتمييز الذي يقوم به كوجيف بين الرغبة الحيوانية وتلك الإنسانية، إذ أن الرغبة تغدو إنسانية خالصة عندما تتجه نحو رغبة أخرى، أو على موضوعٍ ” ليس ذي قيمة بالمرة من وجهة النظر البيولوجية“ ( Kojève, 1947:6).
صراع الذات من أجل حصولها على الاحترام الخالص، الأمر المتعلق بالطبيعة البيْن ذاتية للرغبة، ووفقاً لهذا فإنّ ما هو مهم للرغبة هو تحصيل الاعتراف من الآخر
من الأهمية بمكان التمييز ما بين الرغبة والدوافع. فعلى الرغم من أنّ كليهما ينتمي إلى حقل الـ آخر (وليس كما الحب)؛ الرغبة هي واحدة بينما الدوافع كُثر. الدوافع هي تمظهرات محددة (جزئية) لقوة واحدة، والمسماة الرغبة (على الرغم من إمكانية وجود رغبات لا تتمظهر من خلال الدوافع S XI: 243,) للرغبة موضوع واحد هو موضوع (a) صغيرة، ويتمثل هذا من خلال وجود عدد من المواضيع الجزئية في الدوافع الجزئية المختلفة. موضوع (a) صغيرة ليس هو الموضوع هدفُ الرغبة بل هو سببها. الرغبة ليست بالعلاقة (relation) التي هي مع الموضوع وإنما علاقة هي مع الافتقار (LACK).
القول الأكثر شيوعاً للاكان هو “رغبة الإنسان هي رغبة الـ آخر["Le désir de l`homme ce le désir de l Autre"] (S11, 235). ويمكن فهم هذه الصيغة بطرق مختلفة ومتكاملة، نوجز هنا أهمها:
1- الرغبة في ماهيتها هي “الرغبة لرغبة الـ آخر”، بمعنى أن الذات تريد أن تصبح موضوع رغبة الـ آخر وأيضاً الرغبة بالفوز بالاعتراف بها من طرف الآخر. يستعير لاكان هذه الفكرة من هيجل والذي ينكشف لأعماله من خلال محاضرات كوجيف والذي يقول: الرغبة هي إنسانيه فقط عندما ترغب ليس بجسد الآخر وإنما برغبة الآخر[....]، أي، عندما يتوق الشخص لأن يكون “مرغوباً فيه”، “محبوباً” أو بالأخص “معترفاً به” من حيث هو إنسانٌ، وبكلمات أخرى كل رغبة إنسانية مفارقة للحيوان [....]، هي في نهاية المطاف علاقة الرغبة بالاعتراف. Kojeve, 1947:6)).
يواصل كوجيف ويدّعي (مستنداً إلى هيجل) بأنه ومن أجل الوصول إلى الاعتراف المُرتَجى، فإنّ على الذات المخاطرة بحياتها في النضال من أجل هذا الاعتراف برفعة المنزلة ولا أقل من هذا (للنظر، سيد). الرغبة في جوهرها، هي رغبة الذات في أن تغدو هي موضوع الرغبة لدى شخص آخر، تتجلى هذه الحقيقة في المرحلة الأولى لعقدة أُديب، حيث تتوق الذات لأن تكون فالوس الأم.
2- ترغب الذات من موقع كونها آخرَ (E, 312) أي أنّ الذات ترغب من منظور الـ آخر ولهذا فإنّ “موضوع رغبة الإنسان [...] هو موضوع رغبة إنسان آخر” (Lacan, 1951b:12)، أي أنّ ما يجعل موضوعاً ما مرغوباً، ليست صفة ما داخلية له، وإنما حقيقة كونه موضوعَ الرغبة لدى إنسان آخر. رغبة الآخر إذَا هي ما يجعل الموضوع ذي قيمة قابلاً للمقايضة. هذه الحقيقة “ هي ما يؤدي إلى التقليل من القيمة الخاصة للمواضيع الفردية وتكشف في نفس الوقت وجود مواضيع عديدة لا يمكن حصرها” ( Lacan, 1951b:12).
هذه الفكرة مأخوذة هي أيضاً من التأويل لذي يقدمه كوجيف لهيجل، يقول كوجيف: ” تكون الرغبة الموجهه نحو موضوع طبيعي إنسانية عندما يتم “توسطها” من خلال رغبة إنسان آخر، يوجهها نحو نفس الموضوع؛ أنه لأنساني أن تتجه الرغبة نحو ما يرغب به الآخرون لأنهم يرغبون به“( Kojeve, 1947 :6). سبب هذا هو ما تقدم من أن الرغبة الإنسانية هي رغبة بالحصول على اعتراف الآخر، فمن خلال رغبتي في ما يرغب به هو استطيع أن أجعله يعترفُ بحقي في حيازة الموضوع نفسه، وهكذا أجعله يعترفُ بتفوقي عليه (Kojeve, 1947 :40).
تبرز هذه الصفة العامة للرغبة في الهستيريا على وجهٍ خاص؛ فالهستيرية هي تلك التي تُديم رغبة الآخر بأن تجعل من رغبة الآخر رغبتها هي نفسها (كمثال الحالة دورا لفرويد، دورا تشتهي السيدة ك. بسبب أنها [دورا] تتماهى مع السيد ك. وبهذا تتملك لنفسها ما تعتقد أنه رغبته هو، للنظر؛ S4, 138; Freud, 1905e). لهذا فإنه وفي التحليل النفسي ليس من المهم الوصول إلى موضوع الرغبة وإنما الكشف عن الموقع الذي تتم منه الرغبة (أي الذات التي يتم التماهي معها).
3- الرغبة هي الرغبة في/من أجل الآخر (يتم هنا توظيف أزدواجيه المعنى لحرف الوصل بالفرنسية de)، رغبة الآخر: أي الرغبة في الآخر وفي نفس الوقت الرغبة من أجل الآخر. الرغبة الأساسية هي سفاح المحارم إلى الأم؛ الـ آخر الأَولي(S7, 67).
4- الرغبة هي دوما “الرغبة لشيء آخر” (E, 167) إذ أنّ الإنسان لا يستطيع أن يرغب في ما هو بحوزته. موضوع الرغبة موضوع مؤجل بشكل دائم ولهذا فإنّ الرغبة هي كناية (E, 175).
5- مصدر نشأة الرغبة هو في دائرة الـ آخر، أي في اللاوعي.
الأمر الأكثر أهمية والمتحصّل من صياغة لاكان هذه، هو أنّ الرغبة هي نتاج اجتماعي. إذ أنّ الرغبة ليست شأناً شخصياً، كما يتبدى للوهلة الأولى، بل هي ما يتأسس من خلال العلاقات الجدلية لما هو مُدركٌ كرغباتِ ذواتٍ أُخر.
الأم هي الشخص الأول الذي يتخذ موقع الـ آخر، ويكون الطفل في البداية خاضعاً تحت رحمة رغبتها، وفقط عندما يُفصح الـ أب عن الرغبة بواسطة القانون ويقوم بخصي الأم تتحرر الذات من خضوعها لنزوات هذه الرغبة (أنظر عقدة الخصاء).
• مفاهيم أساسية في نظرية لاكان للتحليل النفسي/ هشام روحانا (1)