قصة فضيحة التنصت التي تهدّد إمبراطوريّة الإعلام/ فراس خطيب
قضية “التنصت السرّية” لا تزال تهزّ المشهدين السياسي والإعلامي في بريطانيا. القضية التي أدّت إلى إغلاق “نيوز أوف ذا وورلد”، طاولت أيضاً الرجلين الأول والثاني في الشرطة البريطانية، أما الشخص الذي فجّر الموضوع كله فوُجد ميتاً في بيته من دون معرفة السبب!
قصة فضيحة التنصت التي تهدّد إمبراطوريّة الإعلام/ فراس خطيب
|فراس خطيب|
لم يتوقع روبيرت موردوخ، الذي أُطلق عليه لقب الشخصية الأكثر تأثيراً في العالم، أن يعصف في وجهه هذا الإعصار، هو الأصعب في تاريخ “الامبراطورية” الإعلامية التي يرأسها “نيوز كورب”. القضية التي عُرفت باسم “التجسس على الهواتف”، ليست قصة حديثة، بل هي قضية امتدت على مدار العقد الأخير، لكنّها تشعّبت أخيراً في أعقاب تطورات قضائية ودعاوى جنائية بالإضافة إلى تدخلات سياسية وكشوفات إعلامية متوالية، جعلتها تتدحرج مثل كرة ثلج. لم يستطع “حوت” الإعلام هذه المرّة إيقافها. فما بدأ بـ”أزمة صحيفة” تحوّل إلى “أزمة دولة”، وصارت القضية الأولى في المملكة المتحدة لأسباب عديدة.
أهمّ هذه الأسباب أنَّه تمَّ الكشف عن أنَّ قضايا التنصت طاولت هذه المرّة أشخاصاً عاديين، بالإضافة إلى تورط أفراد من الشرطة بعلاقات مشبوهة مع الصحيفة. أما أخطر نتائجها، فتكمن في أنَّ المشهد الإعلامي البريطاني لن يعود كما كان. ثمة حرب طاحنة، تدور رحاها من وراء الكواليس وبين السطور، في صلبها العلاقات بين الصحف ذاتها. وكما لم يتوقع أحدٌ حدوثها، فلن يتوقع أحد نهايتها.
في صبيحة يوم الأحد الماضي، أصدرت شركة “نيوز انترناشيونال” الطبعة الأخيرة من أسبوعية “ذا نيوز أوف ذا وورلد”. على الصفحة الأولى كُتب بخط عريض: “شكراً ومع السلامة”. كانت تلك نهاية لإحدى أكبر وأقدم الصحف في المملكة المتحدة. صحيفة تأسست منذ 168 عاماً، وتوزّع ما يقارب الـ 2.6 مليون نسخة في كل يوم أحد. عُرفت دائماً بتورطها بعدد من قضايا التنصت، لكنّها أُغلقت قبل أسابيع بأمر من أصحابها بعدما وُضعت في عين العاصفة، نتيجة الكشف أخيراً عن أنَّها عرقلت سير التحقيق في قضية جنائية يعود تاريخها إلى عام 2002. تلك القضية، ومن دون علاقة الصحيفة الصفراء، كان لها وقع كبير على المجتمع البريطاني.
خطف الطفلة ومقتلها
في عام 2002، اختُطفت فتاة بريطانية تُدعى ميلي داولير (13 عاماً) واختفت آثارها. انشغل الإعلام البريطاني باختفائها. مضت ستة أشهر بين اختفائها وبين العثور على جثتها في أحد الوعور القريبة. وبحسب المواد التي تناقلتها وسائل الإعلام البريطانية أخيراً، فإنَّ محققاً خاصاً، يدعى غيلين ميلكيير، وبتفويض من الصحيفة، اخترق الهاتف الخلوي للفتاة أثناء اختفاء آثارها، وتنصت على الرسائل المسموعة في صندوق الهاتف الصوتي التابع لها، حتى إنَّه قام بمحو جزء منها كي تكون هناك مساحة لترك رسائل أخرى في هاتفها.
في تلك الأثناء، اعتقد محققو الشرطة، من دون أن يكتشفوا قضية التنصّت، أنَّ هذا يعني أن داولير لا تزال على قيد الحياة. أمل ساد عائلتها، لكن في نهاية المطاف، وُجدت الفتاة جثة هامدة. هذه القصة زعزعت المملكة المتحدة مرتين، في عام 2002، وفي الأسبوع الماضي عند الكشف عن ممارسات الصحيفة. قضية أجبرت موردوخ نفسه على أن يستدعي عائلتها ويعتذر شخصياً عمّا حدث. لكن قضية داولير ليست الوحيدة. التقارير الإعلامية تفيد بأنَّ الصحيفة تنصتت أيضاً على غيرها، ومنهم عائلات ضحايا تفجيرات لندن عام 2005، بالإضافة إلى عائلات لجنود بريطانيين قُتلوا في أفغانستان والعراق. رئيس «نيوز كورب» موردوخ أوقف طابعات الصحيفة، معتقداً ربما، أنَّ هذا سيهدئ من وقع القضية الصاعق، وأنّه أيضاً سيمنحه مساحة أفضل لإنقاذ ترشحه الى نيل مناقصة “بي سكاي بي” في بريطانيا. خطوة إلى الوراء من أجل اثنتين إلى الأمام. لكن على ما يبدو، إغلاق الصحيفة لم يوقف الغضب. سيل القضايا المتعلقة بـ”ثقافة التنصت” كان أقوى من قرار الإغلاق، ودفع موردوخ نحو تنازل أكبر، وهو عن المناقصة كلها.
الانتقاد يتجه الآن نحو ديفيد كاميرون، المقرّب من الصحيفة، وخصوصاً أنّه عين محرر الصحيفة السابق مستشاراً له
هنا دخلت سيدة أخرى مقرّبة من موردوخ، وهي ريبيكا بروكس (43 عاماً)، على خط الأزمة. عملت ريبيكا رئيسة لتحرير الصحيفة حتى عام 2003، قبل تعيينها مديرة تنفيذية لشركة “نيوز انترناشيونال” التابعة لـ”نيوز كورب”. بروكس ذات تأثير كبير، نُشر في أكثر من مناسبة عن العلاقة المقرّبة التي تربطها برئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وتحدثت تقارير عن أنَّ العائلتين “تلتقيان في حفل عيد الميلاد”، إضافة إلى أنّ العائلتين تسكنان في المنطقة نفسها.
بروكس، كاتبة التحقيقات التي تحولت في عام 2002 إلى رئيسة تحرير الصحيفة ثم اعتلت السلّم الى قمة الشركة المسؤولة عن نشر “ذا نيوز أوف ذا وورلد” و”ذا صن”، وبحكم قرابتها من كاميرون، أكسبته سلطة ربما، لكنّها تحولت إلى عبء بعد انفجار قضية داولير. نفت بروكس بداية أي علاقة لها بالقضية. لكنّها رضخت لهول الأزمة واستقالت أخيراً من منصبها. وكانت من ضمن جملة من الاستقالات من امبراطورية موردوخ الإعلامية.
التنصت على هاتف الأمير
لكن لا يمكن الحديث عن القضايا المكشوفة أخيراً دون الحديث عن “ثقافة” التنصت للصحيفة. فانفجار الفضيحة بهذا الحجم في هذه الأيام تحديداً لا يعود إلى نشر مستند ما، بل إلى سلسلة أحداث مترابطة بدأت منذ عام 2005. وتحديداً داخل القصر الملكي، حيث نشرت “نيوز أوف ذا وورلد” أخباراً “حصرية” عن الأمير وليام، مفادها أنَّ الأمير سيستعير جهاز تحرير من أحد المراسلين التلفزيونيين لشؤون العائلة المالكة. خبر لم يعرف عنه أحد سوى ثلاثة أشخاص. لكنّه وجد طريقه إلى الصحيفة موقعاً من الصحافي كلايف غودمان.
الخبر الذي لم يكن معروفاً، خلق الشكوك نحو التنصت. أطلع وليام الشرطة على ما حدث، وبدأ التحقيق. وتم الكشف عن قضية “التنصت السرّية” على هاتف وليام. سُجن مراسل الصحيفة والمحقق الخاص المفوّض من الصحيفة. لكنَّ الحدث الأبرز كان استقالة رئيس التحرير في حينه أندي كولسون، وهو إحدى الشخصيات البارزة اليوم في القضية. استقالته الماضية هي صلب الهجوم على رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وخصوصاً أنّه عُيّن مستشاراً إعلامياً لكاميرون بعدما كان رئيساً للتحرير. (هو قيد الاعتقال اليوم)
القضية التي انتهت في حينه، لم تشعل الرأي العام ضدّ الصحيفة، بل كانت مألوفة. لكنَّ الإعلام البريطاني، وخصوصاً الصحف التي لا تقع تحت سيطرة موردوخ، ومنها صحيفة “ذا غارديان”، نشرت أيضاً تفاصيل أخرى عن القضية أشارت من خلالها إلى أنَّها غير مقتصرة فقط على القضايا التي تم التحقيق فيها، بل هي أعمق بكثير وتشمل آلاف عمليات التنصّت على شخصيات بريطانية ومشاهير.
في أيلول من عام 2010، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية تحقيقاً حول القضية، كشفت فيه أيضاً آلية عمل الصحيفة. هنا أيضاً دخلت الشرطة البريطانية الى حيّز الموضوع، حين أعلنت أنها لم تفتح تحقيقاً في عام 2009 مع الصحيفة لـ”عدم توافر الأدلة”، لكن في كانون الثاني عام 2011، انفجر الموضوع مرة أخرى، حين أعلنت الشرطة البريطانية فتح التحقيق مجدّداً. لم تهمل الصحف البريطانية متابعة الحدث، ولحقته الى النهاية. حتى اعترفت “نيوز انترناشيونال” في نيسان 2011 بمسؤوليتها عن بعض القضايا، ودفعت ما يقارب 8 ملايين دولار تعويضات للمتضريين بسبب ما نشر.
موت المسرّب!
في هذه الأثناء، وبعد انفجار القضية وتحولها الى أزمة دولة تتهدّد حكومة كاميرون وامبراطورية موردوخ العملاقة، صحت المملكة المتحدة على تطور جديد. التطور هو موت تراجيدي لصحافي سابق في “نيوز أوف ذا وورلد”، شون هور، الذي كشف في السابق لصحيفة “نيويورك تايمز” أنَّ رئيس التحرير السابق كولسون كان على علم بكل التطورات في الموضوع وقضايا التنصت، مبيناً أنَّ رئيس التحرير السابق دفع الكثيرين للتنصت لنيل سبق صحافي، حتى إنّه هو نفسه كان قد تجسس على هواتف العائلة المالكة. هور، الذي أُقيل من صحيفة “نيوز أوف ذا وورلد” بـ”سبب إدمانه على الكحول والمخدرات” مات لـ”أسباب غير معروفة” في بيته، فيما استبعدت الشرطة البريطانية أن يكون الموضوع متعلقاً بشبهات جنائية.
موت هور العاصف جاء بعدما فجّر هو أيضاً عاصفة في الأسبوع الماضي، حين قال إن الصحيفة دفعت رشى لأفراد في الشرطة البريطانية لاستعمال تقنية محوسبة، من أجل العثور على أشخاص من خلال هواتفهم النقالة. لكن كشفه كان كفيلاً بانفراط سلسلة استقالات على صلة بالموضوع. ولم يقف الأمر عند البيت الصحافي، بل تعدّاه ليطرق باب الشرطة ويهزّ ثقة المجتمع البريطاني بها ووصلت الى قيادة الشرطة البريطانية، بحيث أعلن قائد الـ”سكوتلاند يارد” بول ستيفنسون يوم الأحد الماضي استقالته في أعقاب القضية. كان ستيفنسون عرضة للانتقادات لكونه عيّن في الماضي نيل وويليس، محرّر سابق في “نيوز أوف ذا وورلد”، مستشاره. وويلس أيضاً اعتُقل على يد الشرطة البريطانية. كذلك استقال الرجل الثاني بعد ستيفنسون، جون ييتس، على خلفية القضية نفسها. وييتس هو رئيس منظومة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، وهو نفسه الذي أعلن أنه لن يفتح تحقيقاً ضدّ الصحيفة في عام 2009 (بعد ما نشرته “ذا غارديان”) نظراً لعدم وجود أدلة كافية.
السبق الصحافي صار نقطة تحول في عالم الصحافة البريطانية. “نيوز كورب” التي أسسها رجل الأعمال الأسترالي، موردوخ في عام 1980، وأثرت على هيكلية الإعلام المرئي والمكتوب في العالم، هي نفسها تحوّل هذا العالم للمرّة الثانية، وليس واضحاً حجم الأضرار الاقتصادية الناجمة عنها. ووصلت تبعات القضية الى الولايات المتحدة الأميركية، حيث المعقل الآخر للشركة، بحيث بدأت تتعالى أصوات تطالب بإجراء تحقيقات حول ما إذا كانت نفس الممارسات قد استُعملت في أميركا أيضاً.
وفي ما يتعلق بالمشهد السياسي البريطاني، يواجه رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون اليوم واحدة من أخطر القضايا. أسئلة كثيرة تدور في أفق “داونينغ 10″، وضغوط كثيرة على كاميرون كي يقدّم تفسيرات لتعيينه شخصاً مثل كولسون مستشاراً إعلامياً بعد تورطه في قضايا التنصت والدفاع عنه أيضاً.
اعتقالات وتحقيقات لكولسون ثرت وبروكس، اضافة الى عدد آخر من المتورطين، واستقالات من قاعدة الهرم الى رأسه. ولا يبدو واضحاً تماماً ما إذا كانت خطوة كاميرون المتأخرة لتشكيل لجنة تحقيق كاملة حول القضية كافية.
(عن “الاخبار” اللبنانية)