أمّي وما بعد الحداثة…/ تمارا ناصر
“أُبَلبِع” وجهي في المكياج، ألطخه تلطيخا، أدنسه تدنيسا وأشن هجوما على قدمَيّ، أزجهما زجا في كندرة ذات كعب صاروخي، وأحاول الوقوف مثل الغزال “بامبي” وعندما نجحت ناديت أمي ساخرة: “حلو؟”
أمّي وما بعد الحداثة…/ تمارا ناصر
|تمارا ناصر|
أرى في أمي مادة خامًا للكتابة. أضمها إلي وأنتظر تجاوبا ما- هل تنزعج وتقول: “شو هالزناخة” أم تبعدني وتسأل “شو في؟” أو ربما ترحب الآن في دعوتي للعناق وتضيف قبلة على جبيني، والحالة الأخيرة نادرة.
أتوق إليها أحيانا وأنا في تل أبيب، أشتاق إليها هي، لا أحد غيرها، أعيد النظر في قراري بأن أقضي نهاية الأسبوع في مساكن الطلبة، أعود مسرعة إليها، محمّلة بعبء الأنظمة التي تستبدّ بنا، بروحي المثقلة التي تقاوم يوما بيوم. أسرع إلى مكتبها، لا أكترث للباب المغلق الذي يشير إلى أنها وسط العلاج، بالكاد أطرقه، أفتحه وأدخل فتعلو وجهها ابتسامتها الجميلة، تتفاجأ وتقطع العلاج، تقوم عن كرسيها تحضنني وتقول:” قلتي مش مرَوْحة!”..
يا أمي أنا على وشك الانهيار، ما هذا المكان الذي أحضرتني إليه؟ لماذا لم تزوّديني بآليات دفاعية أصدّ بها الحثالة البشرية؟ لقد كنت أسعد في رحمك. لكني أكتفي بالقول: “اشتقتلك وبطّل في أكل، والاواعي بدها غسيل”.. تضحك ونتذكر معا أننا محاطتين بأشخاص، تستدير وتعرّفني أمامهم: “هاي بنتي الكبيرة، بتتعلم بالجامعة، صارلي كتير مش شايفيتها”. وتنظر أمي إليّ كي أؤكّد صحة كلامها؛ نعم، أنا ابنتها وفعلا أتعلم بجامعة، ثم يأتي السؤال، السؤال الذي يؤرقها والذي يجعل منها مخلوقا أقل شعبية بنظري: “أه وشو بتتعلّم؟” أغادر الغرفة ولا أسمع جوابها، ستقول بنبرتها الخائبة والتي أعرفها تمام المعرفة: “انجليزي وسينما” ليخيّم الصمت على الحاضرين كالعزاء، فيكاد يقول أحدهم “الله يرحمها”، وتكاد أمي تردّ: “تعيشوا”. لم أرغب في مشاهدة هذه المسرحية اليوم، ولن أستقبل الموضوع بمجسّات الحس الفكاهي كعادتي، اليوم أنا في منتهى الحساسية ولا أتحمل منها هذا.
قلت بتروح عل جامعة وبتشوف البنات وبتصير تلبس، بس عبس، لا تعليم لا لبس لا شحار
تنهي أمي العلاج، أراهم يتبادلون الحديث، تتقدم مني امرأة كانت قبل قليل في الغرفة “ولك ليك منغشك، ليه بتتعلميش زي امّك؟” أجاوب كطفل تُعرض عليه تفاحة بدل شوكولاطة “بدّيش”. لم أعلل ولم أتحدث كالكبار، فقط “بدّيش”.
تحدثني أمي عن الأحداث الأخيرة ونحن في طريقنا إلى البيت. هذا كذا وتلك كذا، هذا أنهى شهادته الأولى وهذه ستبدأ مشوارها في تعليم الطب.. وكأنها تتذكر أنني أيضا بدأت مشواري في تعلم الأدب والسينما تسألني كيف أشعر وكيف التعليم، أحدثها عن التيارات الموجودة في الأدب وعن الفيلم “عطش” وكيف شعرت عندما عرضوه في القاعة الكبيرة “فاستلخت” وكيف انه الفيلم الوحيد بين جميع الأفلام المعروضة الذي يتحدث عنا- العرب في إسرائيل وأنه يعرضنا مرة أخرى بطريقة سلبية، وأنه من المثير للاهتمام كون مخرج الفيلم فلسطينيا.. “المهم تدرسي منيح وتزبطي بالامتحانات، شو بدّك تلبسي الليلة؟”
-”الليلة؟”
-”تعليلة ابن عمتك!” لا أذكر أنها قالت شيئا عن أية تعليلة..
-”شو بدي ألبس يعني، بنطلون وبلوزة”.. تحول وجهها إلي ولم يعد الشارع ما يشغلها: “بالله!”، ويبدأ مونولوجها: “ولك وينتا رح تصيري تلبسي زي بنات العالم صار بدك تصيري 21 سنة.. قلت بتروح عل جامعة وبتشوف البنات وبتصير تلبس، بس عبس، لا تعليم لا لبس لا شحار”.. أصمت وأغمض عيني وأعاتب نفسي: هل فعلا كنت مشتاقة؟
“أبَلبِع” وجهي في المكياج، ألطخه تلطيخا، أدنسه تدنيسا وأشن هجوما على قدمَيّ، أزجهما زجا في كندرة ذات كعب صاروخي، وأحاول الوقوف مثل الغزال “بامبي”، وعندما نجحتُ ناديت أمي ساخرة: “حلو؟”
قالت بجدية: “بيجنن…”
وصلنا إلى التعليلة، حاولت أن أسلم على جميع أقربائي، فهم كُثر، لدرجة أنه يطيب لي أحيانا عدّهم، حين أدخل إلى المراحيض أقدم على فعلتي (للتسلية). بعدما نجحت أو لم انجح في مصافحتهم جميعا، ألصقت مؤخرتي في الكرسي وجلست قرب أخي وابنة عمتي التي تكبرني بعشر سنوات. كانت المائدة تمتلئ بالأكل والكحول، بدأت آكل وأشرب، وأشرب وأشرب….
يعلو صوت ضحكي، ويحمر وجهي، وتتسخ ألفاظي.. أشعر بدوار حاد في رأسي، أتذكر أنني لم آكل شيئا خلال النهار وقد يكون من الخطير شرب هذه الكمية من الكحول، خاصة بجرعات سريعة..
رأيت أمي تنظر إلي، تحدق بي علني أتوقف عن الشرب، لكنني أزيد من الجرعات وأحدق بها بالمقابل.. أحاول الوقوف ولا أنجح، أهمس في أذن أخي بأن رأسي تؤلمني وأشعر بدوار وأكاد.. أكاد.. وأتقيأ في الصحن، مرة ومرتين، وتأتي أمي، ويهمس لي ابن عمتي “حبيبتي، أسا بتمسكي فيّ وبتقومي شوي شوي”.. وأقوم مرة أخرى مثل بامبي.. وندخل بيت عمتي، أجلس، تبقى أمي إلى جانبي: “جاي جاي بتيجيش.. اجيتي تبهدلينا؟ مكيّفة اسا يا موديرن؟ هذا هو الموديرن؟”
أركض إلى الحمام، أقذف بنفسي إلى المرحاض وأتقيأ، أتقيأ حتى الألم، أتقيأ كل ما في داخلي، أتقيأ يومي هذا ويوم غد. تركض أمي مسرعة خلفي، تمسح لي وجهي وتكرر قولها: “موديرن تمارا…”
أرفع رأسي بصعوبة وأفتح عيني المغمضة بيأس وأقول لها: “ماما، بس يمكن أنا بوست موديرن…”
26 نوفمبر 2011
نصّ جميل يبشّر بموهبة حقيقيّة.
20 يوليو 2011
genius ending! cant wait for the movie
17 يوليو 2011
رائعه!
14 يوليو 2011
إنغرمت.
13 يوليو 2011
ليست هناك كلمات تصف دغدغة شعوري عند قراءتك.
لا يسعني الا أن أكتب لك نفس الكلمات التي كتبتها تعليقًا على مقالك السابق:
جميلةُ.. بقدر قباحته!
12 يوليو 2011
لمزيد من البلبعه
والميمعه
لانو شكلو هيك
شكلو
اجا الوقت المناسب
وما بعد المناسب
شكرا
استمتعت واتخيلت
فلم!!
12 يوليو 2011
بعد التأكيد على جودة اللغة الصادقة، فيلم عطش لم يعرض فلسطينيي الداخل بصورة سلبية ولم يعرض حتى فلسطينيي الداخل أو أي مجمتع معين، هو عرض مشاعر انسانية كونية.
قصة الفيلم مثل قصة الكاتبة ممكن تحدث في أي عصر ومكان.. يعني بدو يكون الفيلم كمان بوست موديرن.
12 يوليو 2011
ما اجمدكككك رائعه بكل معنى الكلمه
موفّقه
12 يوليو 2011
واو تمارا! كل مره بتفاجأ فيكِ من أول وجديد وبكون فخوره فيكِ من أول وجديد، استمتعت لأقصى الدرجات
12 يوليو 2011
غس بالك! حلو
11 يوليو 2011
النص لذيذ الأسلوب سلس افكار مترابطه ومتكامله. ولكن … ليس الكل يكتب {بضم الياء} وينبغي انتقاء ما يجوز كتابته وما لا يجوز. ينبغي الخروج عن النص الأتوبيوغرافي الذي انت متقوقعه فيه. بكل الأحوال: the sky is the limit.
10 يوليو 2011
عجبتيني بوست مودرن
عجبني اسلوبك الساخر
موفقة
10 يوليو 2011
جميل جدا ما ابدعت في كتابته…
10 يوليو 2011
متفجر بالاحساس, بوصف شعور مئات من ابناء جيلك, عالاكيد انا!
10 يوليو 2011
قد تكون تمارا من أندر الكاتبات الفلسطينيات والعربيات اللواتي يتخذن من السخرية اللاذعة تيمة متواصلة وعنيدة وذكية ومتميزة. لا أقول إنها الوحيدة، لكنها في كتاباتها (القليلة، للأسف) تضع لونًا خاصًا بها، متفرّدًا، لا يزال في بداية تبرعمه ويحتاج إلى الكثير من التعب والصقل، لكن قراءتها تظلّ دائمًا مبعثًا للمتعة والضحك.
الجملة الأخيرة في هذه المقالة إشراقة عظيمة!
10 يوليو 2011
رائعه…
10 يوليو 2011
نص ذكي ومضحك لاعلى الدرجات
10 يوليو 2011
تمارا
كنا سنخسر مستقبلاً مخرجة سينمائية مميزة…الله ستر
بانتظار افلامك..
بالنجاح