ليس رثاء بل تذكير!/ حنين نعامنة
يحضر السؤال مدوّياً في ذكرى استشهاد غسان هذا العام وقد جسّد اللاجئون فيه فصولاً من أدب المقاومة؛ أدب غسان الذي كأنه لم يأتِ إلا ليحضّرنا لفترة كهذه التي نحيا، حين يصبح الأدب ملجأً وحيداً للاجئين، حين تصير “السياسة” منفى لذكرياتهم وذاكرتنا
ليس رثاء بل تذكير!/ حنين نعامنة
|حنين نعامنة|
في الثامن من تموز من العام 1972 تناثرت أشلاء غسان كنفاني على الملأ لتفسح للموت مكاناً آخر في سيرتنا. لم يكن قد تخطى بعد “عقدة المزاريب” في يافا، حين غادرنا في السادسة والثلاثين وهو الذي ظلّ يكتب لنا وله حتى تلك اللحظة الأخيرة، لـ “يكفّر” عن ذنوب جسده الضعيف الذي حمله بعيداً عن السلاح، ولم يحمله هو بالذات بعيداً عن الحياة رغم تهديداته المستمرة.
غسان كتب كي يحيي أحلامه عن فلسطين -الوطن والقضية- وهي التي حالت دون أن يعرف طمأنينة الروح منذ صيفه الثاني عشر حين راودته جثث دير ياسين إلى “يوم الكسرة” وحتى آخر أيام غسان حين فرّط الأعداء بحياته خوفاً من حبره.
غسان عاش وكتب في مرحلة كانت استعادة كامل التراب الوطني الفلسطيني شرطًا غير قابل للتفاوض المباشر أو غير المباشر؛ حين لم تكن عودة اللاجئين الفلسطينيين مجرد سلعة “للبيع والشرا”. العودة كانت سابقة لمشاريع الدولة أو الدولتين أو غيرها من دول “شرعية” كانت أم “مبندقة”. المعادلة كانت واضحة: نعود أولاً ثم نبني سوية وطناً إن شئنا نسميه دولة نشيّد فيها المستقبل. وإذ بالمستقبل يحضر مبشراً بمنطق معكوس: “نبني” من فضّلات المحتل “دولة” نلعق مؤخرات العالم ليعترف بها، ثم نفكر بالتفاصيل الهامشية كدحر الإحتلال والعودة و(و)حدّة الصوت الفلسطيني.
غسان كنفاني كان لاجئاً وظل لاجئاً، كحال الملايين من اللاجئين “الأصليين” واللاجئين “بالوراثة”. ولكنه مارس الأدب ليقاوم اللجوء، لجوء الشتات ولجوء من بقوا في الوطن المحتل. وهنا نسأل: سياسة المساومة هذه تمحو أحلام تتسع للجميع لكي تبني دولة لا تتسع حتى للأمل، فكيف سمحنا لها أن تطال أدب الأحلام.. أدب المقاومة الذي جسّده غسان ليس بحبره فقط بل بدمه أيضاً، ليشيّد لفلسطين ذاكرة غير قابلة لا للغياب ولا للتكرار، لتأتي السياسة فتعرقل حلم العودة وحفظ تاريخها واستذكار موروثها الأدبي والانساني؟
ويحضر السؤال مدوّياً في ذكرى استشهاد غسان هذا العام وقد جسّد اللاجئون فيه فصولاً من أدب المقاومة؛ أدب غسان الذي كأنه لم يأتِ إلا ليحضّرنا لفترة كهذه التي نحيا، حين يصبح الأدب ملجأً وحيداً للاجئين، حين تصير “السياسة” منفى لذكرياتهم وذاكرتنا.. إذن فالنبوءة وقد تحققت هناك حاجة بأن نستوفي النبي حقه ونؤمن به وبكتابه. لقد جاء الوقت، لكي نقرأ أدب غسان فعلاً نحييه جماعة وليس فقط فرادى كل في شتاته. جاء الوقت، لكي ننفض عنا وهم الاستسلام ونرفع مع اللاجئين راية الرجوع وقد أعلوها عالياً بدمائهم العزلاء مأكدين أن الحياة قد تفوق الأدب ولكنها حتماً تفضله على السياسة إذا ما خيرت بينهما؛ فالأدب مقاوم كصاحبه.. لا يساوم.
نعم، لقد جاء الوقت.. لنتشارك نحن ورثة الأمل والحلم واللجوء أينما حللنا، بالواجب الإنساني الأول الذي طالبنا به غسان: حفظ صورة وواقع العودة من الصدأ والتفتت.
(عن صحيفة “الغد” الأردنية)