في حضرة الآلة/ هشام روحانا
عن مسرحية “في مستوطنة العقاب” لنزار زعبي ■ إنجاز مثل هذا العمل، يُعدّ ومن دون شكّ قفزة نوعية لهذا المسرح، فيضعه في طور جديد، ملامساً إشكاليات إنسانية وأخلاقية ووجودية، قلّما تطرّق إليها في السّابق
في حضرة الآلة/ هشام روحانا
“عندما أنظر إلى الأمور اليوم، فأنه يهيئ لي أن قلبي،على الأقل، قد أسر لي، بأني أذا ما أردت الحياة، فأنه يتوجب علي البحث عن مخرج، إلا أن هذا المخرج لن يتأتى من خلال الهروب” (فرانز كافكا)
|هشام روحانا|
ليس بالأمر اليسير، أو العابر، أن يقوم المسرح المحلي بإنتاج وإعداد وتقديم العمل الأدبي “في مستعمرة العقاب”، لفرانز كافكا، الأديب التشيكي-ألماني. فإنجاز مثل هذا العمل، يُعدّ ومن دون شكّ قفزة نوعية لهذا المسرح، فيضعه في طور جديد، ملامساً إشكاليات إنسانية وأخلاقية ووجودية، قلّما تطرّق إليها في السّابق. على أنّ الأمر يبدو أكثر تعقيداً، عندما يتم اختيار أدب كافكا بالذات، ليقدّم على خشبة هذا المسرح، وهو الأدب الموصوف من جهة بالسّوداوية، أحياناً، أو بالكابوسية، وبالأدب السّاخر المُشكّك والمُبكي أحياناً أخرى.
تكمن العبقرية في أدب كافكا، بالذات، في تعدّد الإمكانيات المتاحة والمفتوحة للقراءة والتأويل، إذ من الممكن مقاربه أدب كافكا من خلال منظور مسيحي أو يهودي حاسيدي، وهو ذو الأصول اليهودية، أو من خلال منظور ماركسي، أو نفس-تحليلي، أو من خلال تأويله تأويلاً ما بعد كولونياليًا (و”في مستوطنة العقاب” مثال ممتاز لهذه الإمكانية) وما بعد حداثياً، وسأقف عند بعضها لاحقاً. وهذا جميعاً، يجعلنا نتفق مع جورج لوكاتش، حين يشدّد على راهنية أدب كافكا.
يُقدم العمل المسرحي “في مستوطنة العقاب”، ككُلٍّ متماسكٍ، صلبٍ، ثقيلٍ، مُحبطٍ وقاتمٍ، ليجثم بكامل سوداويّته على صدر المشاهد للعرض، مما يستدعيه إلى طلب النجاة المتوقّف على انتهاء العرض؛ فما بالك بالممثلين المُبدعين الثلاثة: عامر حليحل وطاهر نجيب ومكرم خوري؟ إنّ الأداء المتقن والحرفية العالية في تقديم العمل المسرحيّ، في وجه قتامه النصّ المتصاعد في سوداويته، وفي غياب أية مناسبة، خلاله، للتحرّر ولو قليلا من ثقل الاحتقان الوجداني المتزايد، هو مثير حقاً.
تكمن العبقرية في أدب كافكا، بالذات، في تعدّد الإمكانيات المتاحة والمفتوحة للقراءة والتأويل
يستند العمل المُمسرَح على رواية “في مستوطنة العقاب”، هذه الرواية القصيرة، المتعبة والمثقلة، والتي كتبها كافكا على تخوم الحرب العالمية الأولى، وفي طور التحوّلات العاصفة بالمجتمع الأوروبي، تلك التحوّلات التي مزقت جسد القارة، في مسعى برجوازياتها لاقتسام العالم من جديد، ذالك في طور التحولات الإمبريالية الدامية. تجري أحداث الرواية على جزيرة نائية، بعيدة عن الوطن الأوروبي المتحضر، حيث يقوم عقل أداتي لقائدٍ ما، باختراع “آلة رائعة”، تقوم وظيفتها على إنزال العقاب على المحكوم عليه بشكل ساديّ ومثير للقشعريرة. تتألف هذه الآلة من ثلاثة أجزاء أهمها ذالك الجزء المكوّن من مسامير وإبر، مهمّتها حفر العبرة الكامنة من وراء العقاب المُحدَّد (“أطع رؤساءك” و”كُن وفياً لمبادئك”، مثلاً)، على جسد المحكوم عليه، نازلة على مدار ساعات وبالتدريج في هذا الجّسد المقيد بالسلاسل، إلى أن تلقيه قطعاً لحمية إلى مكان مُعدّ لهذا الأمر خصيصًا. وفي لحظة معيّنة يقوم زائر بالحضور إلى هذه الجزيرة ليستكشف أمر هذه الآلة. فيجد أنّ الضابط المسؤول على تشغيلها وصيانتها، واقع تحت ضغط شديد جراء موت القائد، وتسلم قائد جديد لا ينظر بعين الرضا إلى أمر هذه الآلة، مما يؤدّي إلى نقص في الميزانيات المخصصة لصيانتها. وفي لحظة تشغيل الآلة، يقع عطب ما يعطل عملها، وسأترك تفاصيل النهاية لكم لمشاهدتها.
يقوم الكاتب والمخرج نزار زعبي (والذي عرضت سابقا لعمله المتقن في “وبمزيد من الحزن والأسى”) بإجراء تغييرات لافتة للنظر في نصّ الرواية الأصلي، وسأتوقف عند بعضها. أولها: غياب السخرية اللاذعة والسوداء التي يتصف بها هذا العمل الأدبي وأدب كافكا عمومًا؛ وثانيها: تلك النهاية المختلفة عن النصّ الأصلي، ففي الأصل يقوم “المستكشف” بالهرب من الجزيرة تاركاً وراءه همومها، إلى أفق قد يبدو مفتوحا له، قد يتيح له متسعا للتساؤل والتحرر من عذابات نفسه المثقلة والمصدومة. والثالث: تحول هذا الزائر من مجرد مستكشف يأتي إلى الجزيرة حباً في التعرف على الآلة، إلى محقق عليه أن يضع تقريراً حولها. تجعل هذه التغيرات، كافكائية الطابع، من النصّ كتلة جلموديه صماء،لا يمكن اختراقها بمنطق العدالة الإنسانية أو بسعة صدر الرحمة، لتلفظها النفس بالكامل بعيدا. على أنّ هنالك تغييريْن انقلابييْن إضافيين يُثريان النصّ الأصليّ بأبعاد جديدة. أولهما مُشاهَد ومَحكِيّ ومَسموع، وهو هذا الانقلاب في الأدوار، حيث يقوم الضابط المسؤول وإزاء العطب الحاصل في الآلة، وإزاء موت القائد الممثل لاسم الأب الناظم للقانون، بالحكم على نفسه بالعقاب المستوجب من عدم وفائه لمهمته في صيانة الآلة، فيطلب من المحكوم تشغيل الآلة على جسده هو. يرافق هذا الانقلاب الحاصل في الأدوار، انقلاب في الموسيقى المرافقة، حيث أنها كانت في البداية موسيقى جنائزية مُحكمة، للتحول عند هذا الانقلاب إلى موسيقى مغربية “عشائرية” تذكّرنا في تلويناتها بالموسيقى الاحتفالية حول نار القبيلة الهندية. ومُتماهيا مع “آلته الرائعة” يقوم الضابط بتسليم جسده إلى الآلة لتغدو الذات البشرية موضوعًا لغطرسة مساميرها وإبرها، ممعنة في ترويض الجسد. وفي محاولة منه لدرء الجنون المترتب من هذا الدور الجديد، يستعيد المحكوم عليه وقع موسيقاه الأصلية محاولة لدرء الجنون، متذكّراً انه قد غدا ذاتاً بعد أن كان موضوعاً (يُنظر إلى: فرانز فانون “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء”). إلا أنّ هذه الذات تبقى أسيرة لهذه “الآلة الرائعة”.
الأداء المتقن والحرفية العالية في تقديم العمل المسرحيّ، في وجه قتامه النصّ المتصاعد في سوداويته، وفي غياب أية مناسبة للتحرّر ولو قليلا من ثقل الاحتقان الوجداني المتزايد، هو مثير حقاً
أما الانقلاب الثاني فيمكن مشاهدته فقط، وهو تلك الدائرة المثبتة في قمة الآلة وغير الموجودة في النص الأصلي؛ إنها وفي تأويل مجازيّ عين الآلة، هذه العين الراصدة لأدنى حركة قد يؤتى بها “في مستوطنة العقاب”. هي إذًا ذلك “الأخ الأكبر” الذي يرصد ويسجل ويعاقب، مما يحيلنا إلى مفهوم “المراقبة الكلية” PANOPTICISM لميشيل فوكو في “ميلاد السجن”.
إنّ هذه الآلة القائمة على حفر العبر وطباعتها على أجساد المحكومين، بعيداً عن القارة المتحضرة، يذكّرنا بمفهوم “كي الوعي”، هذا المفهوم الذي طالما مارسه الكولونيالي على فريسته البائسة في مستعمراته القديمة والجديدة.
على أنّ المثير في الموضوع هو استمرار الآلة في أداء وظيفتها بالرغم من الانقلاب الحاصل وبالرغم من عذابات الضمير المرافقة لعملها، ممّا يشير إلى اغتراب مضاعف: اغتراب الآلة (إذا صحّ القول) عن كونها أداة تنفيذ لعقاب، على جريمة تمت إدانة صاحبها وفق إجراءات العدالة القضائية والقانون، واغتراب الذات الإنسانية أمام السلطة المتنامية للآلة.
في مستوطنة العقاب ■ إعداد وإخراج: نزار زعبي ■ ترجمة: علاء حليحل ■ تمثيل: مكرم خوري، طاهر نجيب، عامر حليحل ■ ديكور وملابس: أشرف حنا ■ إضاءة: جاكي شيمش ■ موسيقى: ريمون حداد ■ إخراج تقني: فراس روبي
6 يوليو 2011
No doubt that the effort invested in bringing to life such a play is an effort to be commended. Despite the heaviness of the themes presented in this adaptation of Kafka’s Novel, The Trial, I immensely enjoyed the performance of our local talents.
Hisham makes remarkable and interesting observations with penetrating philosophical insights. Though, I would have liked to read a dimensional projection of Kafka’s themes onto the Palestinian plight. Since, as he mentioned, it is a work that is open to interpretation.