إحسان عباس: النقد إذ يكون مرهونا بوعي الزمان
خواطر في ذكرى رحيل إحسان عباس يوم الفاتح من آب • تجوهر إبداعه حول ثالوث: النقد- التحقيق- التأريخ. بيد أنّ مقاربة دقيقة لما أبدعه في صلب ذلك لا تلبث أن ترجِّح القول بأنّ إحسان عباس الناقد يتمثل في هيئة المبدع المتواري خلف الإنسان الخائض في المضامير الثلاثة السالفة
إحسان عباس: النقد إذ يكون مرهونا بوعي الزمان
|أنطوان شلحت|
1- تمهيد عبر بعض الوقائع
(*) شيَّد إحسان عباس، على مدار حياته العريضة (1920- 2003)، بُنياناً أدبياً شاهقاً ذا مداميك أو لبنات متعدّدة، يشكّل نتاجه الثقافي الوافر دالتها البليغة. ولداعٍ سيرد ذكره في سياق لاحق سأتوقف عند واحد منها: مدماك النقد الأدبيّ.
وتمهيداً لتوقف كهذا أرى لزوم الإشارة، في سبيل التعريف قبل أيّ شيء آخر، حتى وإن بدا الأمر غير مجهول للكثيرين، إلى أنه في سنة 1998 وقع اختيار “منتدى عبد الحميد شومان الثقافي” على إحسان عباس كي يكون ضيف تلك السّنة، ما يعني تكريمه من خلال إضاءة مسيرته الأدبية واستحصالها. ولهذا الغرض عقدت في العاصمة الأردنية عمان، حيث كان قد استقرّ المقام به، ندوة حافلة حملت العنوان “إحسان عباس- ناقداً، محققاً، مؤرّخاً” صدرت وقائعها الكاملة لاحقاً في كتاب (1).
وكيما أنزع تهمة الإقحام الزائد عن هذه الإشارة أُوضِّح أن دافعي الرئيس للاستهلال بها يكمن في ما جاء العنوان العريض لذلك النشاط الخاص واشياً به من تجوهر لإبداع المحتفى به حول ثالوث: النقد- التحقيق- التأريخ. بيد أنّ مقاربة دقيقة لما أبدعه في صلب ذلك لا تلبث أن ترجِّح القول بأنّ إحسان عباس الناقد يتمثل في هيئة المبدع المتواري خلف الإنسان الخائض في المضامير الثلاثة السالفة. ولعلّ في مجرّد ذلك ما يفسّر داعي التوقف عند مدماك النقد، إذ إنّ التمعّن فيه يكفينا مؤونة العودة إلى ما يؤلف لحمة مشروعه الأدبيّ وسداه.
وقد أشير إلى هذا الأمر بضع مرات، على نحو يستدعي ألا نغفله، في ثنايا المداخلات المتعددة التي اشتملت عليها ندوة عمان المذكورة، غير المسبوقة في تقديم إضافات هذا المبدع وفي استقطار استحقاقاتها، على صعيدي الموضعة والإجمال.
ومن ذلك، لا على سبيل الحصر بطبيعة الحال، القول الآتي: “أدرك إحسان عباس قيمة الاحتكام إلى التاريخ في الفن، وألزم نفسه به كناقد. وربَّما كان هذا الاحتكام ميزة وفرتها له قراءته التراكمية المعمّقة، ومنها قراءته للتاريخ واعتماده لإضاءة وفهم (النصّ). ومن هنا يبدو أنّ دراسته للتاريخ كانت معلماً في فهم منهجه النقدي”(2).
ويتجلى أحد البراهين على ذلك في ما يقوله عباس نفسه في تقديم كتابه “بدر شاكر السياب”(3):
من المثير تتبّع كيف أن النقد على يدي عباس لم يفتقد إلى التمرّد على العوامل التي تفضي به إلى الجمود أو إلى النظرة الأحادية
“أنا أعلم أنّ كثيراً من الناس يضيقون ذرعاً بالاحتكام المستمرّ إلى التاريخ، ولكن هؤلاء ينسون أن التاريخ صورة الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية على الأرض، وأنّ دراسة الشعر على مجلى من الحقائق التاريخية لا يعني انتقاصاً من سماته الفنية، خصوصاً حين يتفق الدارس والقارئ على أنّ ذلك الشعر كان جزءًا من الحركة الكلية في التطوّر الاجتماعي، بل كان عاملاً هاماً في تلك الحركة، ولم يكن كله تهويماً في عالم الأحلام الذاتية”.
2- في منهجه النقدي
إنّ الكلام السّالف يضعنا، إذا ما شئنا اختصار المواصفات، أمام ماهية أساس في المنهج النقدي الذي ميَّز إحسان عباس، ونعني المنهج التاريخي كما هو بائن في المقبوسات أعلاه. غير أنّ هذا المنهج، على ما قد يؤخذ عليه الآن من مجاراة لـ “روح العصر”، لم يظل ذا سطوة على الناقد من شأنها أن تجعله منقاداً، بصورة شبه عمياء، نحو فخّ الحتمية التي اشتقت منها تسمية “الحتمية التاريخية” المتداولة، ومن هنا تأبّيه (المنهج) على صيرورة الانحباس في شرنقة التاريخ فحسب، إلى جهة الاعتماد عليه كمصدر واحد ووحيد يؤثّث أيضاً احتكامات النقد الأدبي.
ومن المثير تتبّع كيف أن النقد على يدي عباس لم يفتقد إلى التمرّد على العوامل التي تفضي به إلى الجمود أو إلى النظرة الأحادية، لناحية التجدّد المستمر من حيث مبناه ومعناه والمرهون أكثر شيء بوعي الزمان.
وقد تحقق ذلك لدى انتقال الناقد ذاته من عمل إلى آخر، تبعاً لمؤثرات معينة واستبصارات مختلفة ربما تتعلق بتحولات ذاتية، لكن من دون أن تفارق العمل المنقود نفسه وما يحفّ به من سياقات.
ولئن كانت نصوص عباس النقدية، التطبيقية منها والنظرية، تنبئ بصورة شفافة بهذا التمرّد، على ما فيه من تشظّ أداتي وهضم معرفي ينطوي بالتوازي على تثاقف مباشر أو خفيّ، فإنه في أحاديثه المتفرقة عن مكنونات معمله أو معوله النقدي- وهي أحاديث عادة ما كانت تتسّم بالصفاء الذهني والتنائي عن التكلّف- اقترب كثيراً من هذه الحوصلة بشأن حاجة الابتعاد عن الجمود وضرورته في آن واحد.
وفي مقدورنا النمذجة على ذلك بقراءة خاتمة سيرته الذاتية، التي نشرها تحت عنوان “غربة الراعي” (4)، والتي كتب فيها ما يلي:
كان انتصار أستاذ جامعي لجديد الشعر العربي الحديث، وهو في السنوات الأولى من تعاطيه التعليم الجامعي، عملاً اقتحامياً جريئاً أقرب إلى أن يكون مغامرة
“قد يخطر للقارئ أنني ركزت نظرتي في الماضي وتحدثت إلى الماضي وأصختُ إلى الماضي ولم أعر المستقبل أي اهتمام في عصر كثر فيه الحديث عن المستقبل، وعذري أنني أكتب “سيرة”، والسيرة تعني قبل كل شيء حكاية الماضي على نحو ما، ثم إنني لا أحبّ أن أسابق الذين يتحدثون عن مصلحة الأجيال المقبلة وأزايد عليهم، لأني أعتقد أن الأجيال المقبلة ستدرك مصالحها ضمن ظروفها وبيئاتها، وأما هؤلاء الأوصياء على الأجيال المقبلة فلست منهم في شيء. إني حين أجد أن حياتي كانت تقررها الظروف المتغيرة يوماً بيوم أو عاماً بعام أعتقد أنه ليس من حقّي أن أفرض مفهومات عصري على عصور تالية ولا أن أرسم لها منهجاً أعده، غير صالح لها، قبل أن أرسمه على الورق. هذا هو رأيي وأرجو أن أكون مخطئاً”.
إذا نحينا جانباً كلامه عن مقتضيات كتابة السيرة (الذاتية) فإن هذه السطور القليلة فيها ما يحيلنا ليس فقط إلى شخصية إحسان عباس، إنساناً ومعلماً، وإنما أيضاً إلى تلك الحركة الدائبة المتميزة بوعي الزمان التي تميز بها منهجه النقدي، سواء في مؤلفاته النقدية الصرفة أو في تحقيقاته لعيون كتب التراث العربي، وقد استأثرت هذه التحقيقات بالحصة الأكبر من ميراثه الأدبي الزاخر.
ومن هنا ترك إحسان عباس لنا مجموعة قيم تندرج، بكيفية ما، في عداد المؤصلات للممارسة النقدية والهجس بها. ويمكن الإحاطة بما تشفّ عنه هذه القيم من خلال العودة إلى دراساته النقدية عن الشعر الحديث، كما من خلال قراءة دراسته المرجعية عن “تاريخ النقد الأدبي عند العرب: نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري”(5)، التي عدّها جابر عصفور “أشمل وأكمل مرجع في موضوعها حتى اليوم”(6).
ولا بدّ هنا من التنويه بأنّ عباس صرف ردحاً كبيراً من جهده النقدي في دراسة الشعر العربي الحديث والمعاصر.
ويرى أكثر من دارس لهذا الجهد أنّ فاعليته في هذا المجال توزّعت بين ثلاثة حقول، هي: دراسة أعلام الشعر العربي المعاصر؛ دراسة الشعر العربي الحديث والمعاصر؛ الإشراف والتوجيه على الدراسات العليا في موضوعات الشعر العربي الحديث والمعاصر(7).
وله في الحقل الأول عدد من الدراسات أهمها كتاب “عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث” (1955) وكتاب “بدر شاكر السياب- دراسة في حياته وشعره” (1969) وكتاب “إبراهيم طوقان- نظرة في شعره”.
أما الحقل الثاني فله فيه كتاب “من الذي سرق النار”، وهو عبارة عن مقالات نقدية جمعتها وقدمت لها وداد القاضي وصدرت في بيروت سنة 1980. وثمة، أيضاً، دراستان طويلتان: الأولى بعنوان “الشعر العربي في المهجر- أميركا الشمالية”، وهي بمشاركة الدكتور محمد يوسف نجم. والثانية بعنوان “اتجاهات الشعر العربي المعاصر”، وقد صدرت ضمن سلسلة “عالم المعرفة” الكويتية في شباط (فبراير) 1987. أما فاعليته في الحقل الثالث (الإشراف على رسائل الدراسات العليا في موضوعات الشعر العربي المعاصر) فهي من السّعة بحيث يصعب الوفاء بحقها في هذا الحيّز المحدود.
عباس يحاول تصحيح خطأيْن في نظرة النقد العربي للشعر، هما خطأ “التلذذ بالنغمة في الشعر”، وخطأ “التلذذ باستثارة العاطفة القوية”
ويعتبر محمد دكروب، بحقّ، كتاب عباس “عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث”، اقتحامياً(8). فقد كان الشعر الحديث في بدايات اقتحام جديده الثوري للساحة الثقافية العربية، وكانت القوى والعناصر التقليدية في الثقافة العربية، وحتى بعض العناصر التقدمية في هذه الثقافة، ترى في الشعر الجديد، شعر التفعيلة الخارج على عمود الشعر، “بدعة”، شيئاً ما ضد التراث وضد أصالة الثقافة وحتى ضد الشعر نفسه والإبداع أصلاً.
وكانت الجامعات حصوناً مدججة ضد جديد الشعر، وحتى ضد جديد النثر وجديد الرواية. فكان انتصار أستاذ جامعي لجديد الشعر العربي الحديث، وهو في السنوات الأولى من تعاطيه التعليم الجامعي، عملاً اقتحامياً جريئاً أقرب إلى أن يكون مغامرة، في وقت كانت المعركة ضد الشعر في ذروتها وبوجه خاص إذا كان هذا الجديد يحمل، إلى حداثة الشعر، حداثة الرؤية الاجتماعية، كما كان شعر البياتي وصحبه في فترة الغليان والتحديّات تلك.
ويسجّل د. حسام الخطيب(9) لإحسان عباس سبق الريادة في دراسة الشعر من خلال الصور، وذلك لأنّ الصورة وهي جميع الأشكال المجازية -كما يقول الأخير- إنما تكون من عمل القوة الخالقة، والاتجاه إلى دراستها يعني الاتجاه إلى روح الشعر. وأفضى تحليله هذا نحو اجتياز التذوق الموسيقي الخارجي إلى التذوّق البصري الداخلي ملاحظاً أننا “عشنا على هذا الحسّ الموسيقي قروناً طويلة، عشنا على الاستمتاع بالنغمة دون تصوّر للقصيدة أو تحليل لها، أفما يحقّ لنا ولو بعض حين أن نستمتع بالقصيدة استمتاعاً بصرياً ونترك الحكم الذي توحيه لنا الموسيقى وحدها؟”.
ما يستقطره الخطيب من هذا أنّ عباس يحاول تصحيح خطأيْن في نظرة النقد العربي للشعر، هما خطأ “التلذذ بالنغمة في الشعر”، وخطأ “التلذذ باستثارة العاطفة القوية”. وهو استقطار يبدو عنواناً مغرياً لدراسة منفردة.
لعلَّ أشدَّ ما يهّم القارئ في قراءتي دكروب والخطيب هو توكيدهما على وعي الناقد الحادّ بالزمان. فلم تكن دراسات عباس عن الشعر العربي الحديث استقرائية أو متمركزة حول النصيّة فقط، إنما كانت أيضاً تحاول أن تموضع الإبداعات في سياق تجاربها المخصوصة، من جهة، وأن تموضعها، من جهة أخرى، في سياق تجارب في العالم الفسيح محايثة لها، زاد الناقد على إطلاعه عليها تصدّيه لترجمتها إلى اللغة العربية. وفي هذا الشأن الأخير يتعين أن نستعيد توكيد جابر عصفور أن إضافة إحسان عباس جهد الترجمة إلى نشاطاته الأخرى تنمّ عن شعور “بأهميته القصوى في استكمال مجالاته البحثية واهتماماته الفكرية والأدبية”. ونبقى قليلاً في إطار ما يؤكده عصفور لتحديد (من الحدَّة) دلالتين يستكنههما، وثمة في هذا الاستكناه ما يسعف الخلاصة التي نحاول الأيلولة إليها:
(*) الأولى- ترجم عباس كتاب أرسطو “فنّ الشعر”، معتمداً على الترجمات الإنكليزية. وإلى جانب ذلك أصدر ترجمة كتاب ستانلي هايمن “الرؤية المسلحة” تحت عنوان “النقد الأدبي ومدارسه الحديثة” مع زميله محمد يوسف نجم، الذي راجع له ترجمته كتاب الناقد الأميركي ديفيد ديتشس “مداخل نقدية لدراسة الأدب” تحت عنوان “مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق”.
التأليف يخلق مجالاً صالحاً للنقد، لكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقداً منظّماً، بل لا بُدَّ هنالك من عوامل أخرى. وأهمّ هذه العوامل جميعاً يكمن في “الإحساس بالتغيّر والتطوّر”
وكان ذلك في نوع من التعاون الذي أبان عن تأثرهما بأفكار حركة “النقد الجديد” في الولايات المتحدة (أخذت هذه الحركة اسمها من عنوان كتاب أصدره الناقد الأميركي جون كرو رانسوم سنة 1941) والتي أحدثت تأثيراً كبيراً خاصة عند الذين أرادوا التركيز على أدبية الأدب والكشف عن قيمه الجمالية. وينوّه عصفور بأنّ جيل إحسان عباس “أعاد إنتاج أفكار النقد الجديد، التي بدت واعدة، واستخدمها نقاد الجيل في بلورة أفكارهم عن الحداثة الأدبية عموماً وعن حداثة الشعر العربي الحديث خصوصاً، تلك الحداثة التي كان الشاعر الأميركي الأصل الانكليزي الموطن ت. إس. إليوت نموذجاً أساسياً من نماذجها المحتذاة في علاقات التأثر والتأثير”. ويضيف: “أتصوّر أنّ هذا المنحى من الاهتمام هو الذي جعل إحسان عباس يقدم ترجمته لكتاب ماثيسن عن “ت. إس. إليوت الشاعر الناقد”، الذي لم يكن بعيداً عن أفكار النقد الجديد. وهو كتاب لعب مع غيره من الكتب دوراً هاماً في إشاعة مفاهيم ظلت لها سطوتها عن الحداثة عموماً والحداثة الشعرية خصوصاً” (يخصّ بالذكر في هذا الصدد كتاب “الشعر: كيف نفهمه ونتذوقه” لإليزابيث درو وكتاب أرشيبلد ماكليش “الشعر والتجربة” وكتاب م. ل. روزنتال “شعراء المدرسة الحديثة”)(10).
(*) الدلالة الثانية - يبقى لإحسان عباس أنه لم يقصر معرفته عن حداثة الشعر على نموذج إليوت وحده، فقد جاوزه إلى غيره من النماذج على نحو ما يظهر في تحليلاته المقارنة بين شعر السّياب ومصادره الإنجليزية أو إرجاع بعض تيارات الشعر المعاصر إلى أصولها الفرنسية، زدْ على ذلك أنه سعى إلى وصل الحداثة بمبادئ الالتزام الأدبي، غير أنه لم يفهم هذه المبادئ فهماً جامداً، كما فعل ابن جيله عبد العظيم أنيس مثلاً، بل ظلّ معنى الالتزام عنده قرين الوعي بعوامل التولّد الاجتماعي لكن في نوع من التكييف الذي يربط الشعر ونقده بالجوانب الفكرية -أو الفلسفية- للثقافة أكثر من المجتمع بمعناه الطبقي الماركسي. ويعتبر عصفور أن هذا التكييف هو الذي دفع زميله شكري عياد إلى تصنيفه بوصفه “مفكراً مثالياً على النمط الهيغلي” لا “مفكراً مادياً على النمط الماركسي”.
وبهذا التصنيف فسَّر عياد إعراض إحسان عباس المقصود، في كتابه “اتجاهات الشعر العربي المعاصر”، عن المنحى الشائع لدى النقاد حتى وقت صدور الكتاب، وهو تصنيف الشعراء إلى “تيارات” على أساس الموقف الاجتماعي أو الانتماء الطبقي.
3- النقد الأدبي عند العرب
لا نجازف حين نقول إن كتاب “تاريخ النقد الأدبي عند العرب” يعدّ “درَّة التاج” في نتاج إحسان عباس.
في هذه الدراسة قدّم المؤلف صورة عن النقد الأدبي عند العرب منذ أواخر القرن الثاني الهجري حتى القرن الثامن، أي من الفترة الممتدة بين الأصمعي وابن خلدون، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه. وقد اتبع فيها “منهج التدرّج الزماني” لأنه برأيه “يعين على تمثّل النقد في صورة حركة متطورة، بين مدٍّ وجزر أو ارتفاع وهبوط على مرّ السنين”. وكان همّه فيها منصرفاً “إلى إقامة كيان للنقد الأدبي عند العرب”، من خلال الاحتكام إلى أساس شمولي في النظرة الكلية إلى ذلك الكيان، ولهذا السبب لم يقصر الرؤية “على من عرفوا بالنقد التطبيقي مثل الآمدي والقاضي الجرجاني وابن الأثير، بل درست من كان لهم نشاط نظريّ في النقد مثل الفارابي وابن سينا وابن خلدون، محاولاً في كل خطوة أن أوجد -حتى عند النقاد التطبيقيين- الأسس النظرية الفكرية التي كانت توجّه النقد لدى كل منهم”.
وقد لا يغني أي عرض، مهما يكن واسعاً وعميقاً، عن الحاجة إلى قراءة هذه الدراسة. مع ذلك تستوقفنا عدة أفكار تتشابك مع ما سبق من ملامح مستقرأة في منهجه النقدي:
النقد الأدبي ولد في حضن الاعتزال والمتأثرين به، سواء أكان ذلك التأثر موجباً أم سالبياً. وكان الاعتزال حينئذ يعني في أساسه الاحتكام إلى العقل، والعقل يهدئ من جموح العاطفة والعصبية
1- النقد المنظّم عند العرب تأخر إلى أواخر القرن الثاني الهجري، إذا ما قايسناه مع ظهور الشعر خاصة، حتى “تأثلت قواعد التأليف الذي يهيئ المجال للفحص والتقليب والنظر”، إذ إن مثل المنهج الذي يستوجبه النقد “لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفوياً”.
2- التأليف يخلق مجالاً صالحاً للنقد، لكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقداً منظّماً، بل لا بُدَّ هنالك من عوامل أخرى. وأهمّ هذه العوامل جميعاً يكمن في “الإحساس بالتغيّر والتطوّر”، ذلك لأنّ هذا الإحساس بالتغير والتطور هو الذي يلفت الذهن -أو ملكة النقد- إلى حدوث “مفارقة” ما، ولا بد لهذه المفارقة أول الأمر من أن تكون ساطعة متباعدة الطرفين، حتى تمكّن النظر الذي لم يألفها من قبل من رؤيتها بوضوح. وعندما نتعمق المواقف النقدية لدى كبار النقاد في تاريخ النقد العربي سنجد أن ذلك الإحساس بالتغير والتطور هو العامل الخفيّ في شحذهم للنقد. “يستوي في ذلك ابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة بن جعفر والآمدي والقاضي الجرجاني وابن رشيق وعبد القاهر الجرجاني وابن شهيد وحازم القرطاجني وابن الأثير، فإنك لا تجد واحداً من هؤلاء إلا وهو يحسّ أنّ الشعر في أزمة وأنه يتقدم بآرائه لحلها”.
3- النقد الأدبي ولد في حضن الاعتزال (الجاحظ – بشر بن المعتمر- الناشئ الأكبر) والمتأثرين به، سواء أكان ذلك التأثر موجباً أم سالبياً (ابن قتيبة، ابن المعتز). وكان الاعتزال حينئذ يعني في أساسه الاحتكام إلى العقل، والعقل يهدئ من جموح العاطفة والعصبية، مما أدى منذ البداية إلى أن يسلك النقد طريقاً وسطاً لا تفضيل فيها لقديم على محدث أو العكس، وإنما هنالك كما يقول العقل الاعتزالي محض الحسن والقبح، وذلك هو أساس النقد الأدبي.
4- حين كان الإحساس بالتطور يتصل بأثر فكريّ -كلاميّ أو فلسفيّ- كان النقد ينال حظاً غير قليل من العمق، لأن ذلك الأثر الفكري كان دائماً كفيلاً بتنظيم الإحساس وتوجيهه في منهج متميز المعالم. أما مجرّد الإحساس وحده فإنه كان يجعل النقد عند أذكى النقاد التماعات ذهنية أو لمحات سريعة (ومن أبرز الأمثلة على ذلك نقاد الأندلس).
5- ظهرت الحاجة إلى “المصطلح النقدي” حين تحدّد دور الناقد وميّز بحقوق خاصة به وبمجال لا بدّ له من أن يعمل فيه. وكان ما أداه الخليل بن أحمد في مصطلح العروض دليلاً يهتدي به أوائل النقاد. وإن تطوّر المصطلح واتساعه أمر ملحوظ خلال العصور التي تتناولها الدراسة بالتأريخ، لكنه لم يخدم قضية النقد كثيراً بمقدار ما خدم مستوى البلاغة وتحوّلاتها.
ربما يكون عباس قد تميّز في مسيرته الإبداعية، أكثر شيء، بوعي مزدوج: أولاً إزاء ما ينطوي عليه الماضي من دلالات، وثانياً إزاء المواكبة وما تتطلبه من تغيّر وتطوّر في امتلاك الحاضر وأكثر فأكثر في اقتحام المستقبل
6- إن كل نقد عند أية أمة هو صورة للنماذج الشعرية (أو النثرية) عند تلك الأمة. وإذا لم تتسع آفاق النقاد العرب إلى ما هو أبعد من القضايا التي طرحتها تلك النماذج فليس هذا ذنبهم. ويمكن أن يقال إن الذين درسوا كتاب “فن الشعر” لأرسطو لم يستطيعوا أن يؤثروا إلا تأثيراً ضئيلاً في تاريخ النقد عند العرب، لا لأنهم لم يزاولوا النقد بأنفسهم وحسب، بل أيضًا لأن الكتاب الذي اختاروه، رغم ما له من قيمة بالغة، كان يتحدث عن نماذج لا يعرفها الشعراء العرب ولا تعرفها جمهرة النقّاد.
إذن، يقدّم لنا إحسان عباس في هذه الدراسة مرجعاً بالغ الأهمية يتيح سنداً عظيماً للاستعانة بالماضي في سيرورة مراكمة المعرفة. وقد كان مشغولاً، حتى النخاع، بالأمرين معاً.
ولدى العودة إلى الكلمات المقبوسة عن عباس في ختام سيرته الذاتية، والتي ندَّت كذلك عما يشبه البوح الاعتذاري بالاستنكاف النبيل عن الخوض في الرؤيا أو الاستشراف، فانه لا مهرب من توكيد ما يلي: ربما يكون عباس قد تميّز في مسيرته الإبداعية، أكثر شيء، بوعي مزدوج: أولاً إزاء ما ينطوي عليه الماضي من دلالات، وثانياً إزاء المواكبة وما تتطلبه من تغيّر وتطوّر في امتلاك الحاضر وأكثر فأكثر في اقتحام المستقبل.
وهذا الوعي لازم للناقد، بل ينبغي أن يقتات عليه إذا ما كان يبتغي أن يحمل هذه الصفة عن جدارة، خلا كونه الوعي الذي يشكل تكأة للانطلاق منه صعدًا، دون أن ننسى إسهام صاحبه، عملاً بقول أحد الشعراء، وهو يخاطب عباس معزّزًا مكرّمًا:
“(…) فتواضع كما شئتَ
حين تشيرُ إلى عصاك
وأنت تقول:
ها أنا أتكئ عليها -آخر الأمر- مثل سواي
ولكن تذكرّ
كم كان يمكن أن تكون قاماتنا محنيةً
لو لم نتكئ عليك.”(11)
الإحالات:
1- “إحسان عباس- ناقداً، محققاً، مؤرخاً”. منشورات مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان- الأردن، 1998.
2- د. هند غسان أبو الشعر: “إحسان عباس مؤرخاً”، المصدر السابق.
3- إحسان عباس: “بدر شاكر السياب – دراسة في حياته وشعره”، دار الثقافة، بيروت- 1969.
4- إحسان عباس: “غربة الراعي” (سيرة ذاتية)، دار الشروق، عمان- 1996.
5- إحسان عباس: “تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري”، دار الثقافة، بيروت- 1971 (الطبعة الأولى). تجدر الإشارة إلى أن دار الشروق في عمان أصدرت هذا الكتاب في طبعة مزيدة ومنقحة العام 1993.
6- جابر عصفور: “عن إحسان عباس”، صحيفة “الحياة” اللندنية –6 آب 2003.
7- د. خليل الموسى: “جهود إحسان عباس في دراسة الشعر العربي الحديث والمعاصر”، صحيفة “تشرين” السورية- 20 أيلول 2003.
8- “إحسان عباس- ناقداً، محققاً، مؤرخاً”، مصدر سبق ذكره.
9- د. حسام الخطيب: “النقد الأدبي في الوطن الفلسطيني والشتات”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- 1996.
10- جابر عصفور، مصدر سبق ذكره.
11. إبراهيم نصر الله: “إحسان عباس- ناقداً، محققاً، مؤرخاً”، مصدر سبق ذكره.
16 أغسطس 2010
شكراً جزيلاً أستاذ أنطوان على هذا الإستعراض الثاقب والتنويري. آمل أن تتعاقب وتتكاثف الإسهامات الهادفة في تحليل ثقافي عريض للفنون والآداب وأن تتناول بها جدليّة نقد الحداثة وتحديث النقد بشكل عضوي.
سنُواكِبَكم