قصة قصيرة: السمّاعة لإياد برغوثي
لم تنكسر الكأس التي وقعت من يدها؛ ارتطمت بباقي الجليّ الغارق في رغوة الصابون، تتأكّد من سلامتها وتتأفّف بصوت عالٍ يضيع في صراخ المذيع التلفزيونيّ المتحمّس، الذي تحتّل جمله المتسائلة فضاءَ الصّوت في البيت، رغم باب غرفة نومهما المغلق.
قصة قصيرة: السمّاعة لإياد برغوثي
|إياد برغوثي|
لم تنكسر الكأس التي وقعت من يدها؛ ارتطمت بباقي الجليّ الغارق في رغوة الصابون، تتأكّد من سلامتها وتتأفّف بصوت عالٍ يضيع في صراخ المذيع التلفزيونيّ المتحمّس، الذي تحتّل جمله المتسائلة فضاءَ الصّوت في البيت، رغم باب غرفة نومهما المغلق.
إستسلمت منذ مدة طويلة، مع أنها تشكي وتعلن انزعاجها بجملها القصيرة “الله يقطع التلفزيون وسنينه، طرشني”. تأمر، عادة، ابنها الأوسط: “قول لأبوك يوطّيه، ينعن أبو الأخبار كلها”، لكنها تعرف أنه احتجاج محدود الأثر الجذري.
“عالفاضي.. بعرف”، تقول، عادة، عندما يعود ولدها خائب الرجا.
تنشّف يديها، بعدما وضعت الجلي المغسول في خزانته البلاستيكية. الشكل العام لترتيب الصحون والكؤوس حسب الأحجام والرسومات لا يرضيها، لكنها تكتفي بالموجود، تريد أن تجلس ولا تريد أن تبكي، فحفيدتها ستأتي بعد قليل من الروضة.
قبل أن تصل إلى كنبتها الخاصة سمعت كلمة إيران، فانتشلت نفسها قبل أن تنفجر بالصراخ. شعرت حين أمسكت الجهاز المتحكم عن بعد خاصتها لتشعل تلفزيون الصالون، أنّ كابوسًا جديدًا اسمه إيران سيطاردها هذه الفترة. إنها تعرف هذه الكوابيس جيدًا، تعرف ماذا يجري للبلاد التي تردّد المذيعات الإخبارية أسماءها في حقبة معينة، وتراها صور مشاهد حيّة للموت. إنها تكره الموت.
تكره، بدرجة تنافس كرهها للموت والحروب، أيّ خرق لسيادة ونظافة بيتها من أيّ إنسان، حتى زوجها، وهي مستعدة لطرد حفيدتها وإلغاء تصاريح الإقامة المؤقتة عندها إذا وسّخت الأرض بمشروب الكولا الذي يلتصق بالبلاط وتصعب إزالته. هذا التلفزيون غارة يومية تخترق سيادة الأجواء البيتية.
أكثر شيء تريد أن تفعله الآن، قبل أن تصل حفيدتها من الروضة، أن تفتح باب غرفة النوم بعنف مفاجئ وترمي زوجها عن بُعد بالمتحكم وأن تصرخ في وجهه “خلص!”
إنها تتفهم مشكلة السّمع التي يعانيها زوجها، منذ طفولته، بسبب لكمة قاسية تلقاها من أحد زعران الحيّ على أذنه، خرقت طبلة أذنه وعذّبته بالالتهابات والآلام وحرمته من السباحة، واضطرته منذ زمن لتركيب سمّاعة بلاستكية بنية صغيرة في القناة الخارجية لأذنه، لكنها لا تتقبّل أنه لا يضع هذه السمّاعة في البيت؛ ما الصعب في هذا الموضوع؟ الأمر لا يحتاج إلى أكثر من حركة يد بسيطة، إنه يضعها في كل مكان، في الشارع وفي السوبر ماركت وفي كل بيت يزوره، إلا في بيتها هي. لا تتفهمه ولا تتقبّل تبريراته القمعية: “أنا حر في بيتي.. بسمع كيف بدي”.
أكثر شيء تريد أن تفعله الآن، قبل أن تصل حفيدتها من الروضة، أن تفتح باب غرفة النوم بعنف مفاجئ وترمي زوجها عن بُعد بالمتحكم وأن تصرخ في وجهه “خلص!”، وتقتنص منه جهازه وتُنزل درجات الصوت إلى حافة الوشوشة وتضع له السمّاعة الصغيرة في أذنه.. “بتقدر تحضر هيك كمان”.
تريد، أيضًا، أن تدخل بالطريقة نفسها إلى غرفة أصغر أبنائها، “قريد العشّ” كما سمته لتبرّر تخلصها من فائض الأمومة الذي تبقى عندها بعد طيران الأولاد في سماء دنياهم، ولم تكن تعرف حينها أنّ هذا العشّ ليس إلا زاوية من غرفة نوم الأولاد تخرج منها موسيقى “تكنو” مزعجة ويحتلها الحاسوب الرماديّ، الذي يتسمرّ صغيرها أمامه ويحرّك أصابعه كلها معًا ويضحك مع نفسه كالمجانين ويتأثّر كأنه مع شلته في الشارع، تبيّن لها أنه عش الكتروني، مبني من أسلاك سوداء وليس من قشٍ بني.
تريد أن تدخل العشّ الإلكترونيّ وترميه بالجهاز المتحكم عن بعد هو الآخر وتطرده من البيت: “روح دوّرلك على شغل، إنزل عالبلد إحكي مع الناس وجه لوجه، مش فاتحة أوتيل أنا، مش عم بفهم شو عم تحكي، صوتك متغيّر وريحة أوضتك كلها دخان، تكذبش، إطلع من البيت.. يلا”.
تجلس على الكنبة، تقلّب المحطات اللانهائية التي استحضرها الصّحن السحريّ، تختار قناة المسلسلات وتنتظر الحلقة قبل الأخيرة. تريد أن تطمئن على الزوج البطل الذي أطلق عليه مطارد حبيبته النصّاب اللئيم رصاصة قاتلة. تبدأ مقدمة المسلسل الغنائية فترمي الجهاز على الكنبة. حياتها هي أيضًا مسلسل.
إنها تتفهم مشكلة السمع لكنها لا تتقبلّ هذا السرّ المخبّأ وراء رقم الهاتف النقال المكتوب على ورقة بيضاء مربعة بجانب اسم العشيقة.. “نسرين”، ووراء خروجه المهنّدم يوميًا عند حدود الغروب وهو يدندن، يُذكّرها بفترة الخطوبة، إنه يخبّئ عنها قصة، وهي لا تصدقه.
لو تعرف اسم عائلتها فقط، لفكّت كلّ الرموز، وواجهته بالأدلة الدامغة، لا تستطيع الآن سوى اقتفاء آثار الجريمة على مهل وحفظ كل الجمل التي يفضح فيها كذباته، وانتظار انفلات تفاصيل أثناء الهلوسة التي يحكيها في منامه.
تفتح حفيدتها باب البيت وتركض إلى حضنها، ويدخل بكرها إلى البيت يحمل بيده اليمنى كيسًا ملونًا فيه كرتونة مكعّبة ورزمة مغلفات رسائل بيده اليسرى، يضع كل شيء على الطاولة. تحضنها حفيدتها التي تسرق منها ساعات العصر كلّ يوم وتفرّغ بطاريتها من الطاقة لتعيد لها مسلسل التربية المبكرة من الجزء الأول.
“وين أبوي؟”
“مش سامع التلفزيون؟”
“طيب، أنا راجع عالشغل، قوليله إني جبتله الغرض والمكتوب من نسرين.”
“كمان.. بدك أشتغل مرسال بيناتهم؟!”
“شو فيها؟”
“مفكّرني طرطورة عندك وعند أبوك، مفكّر فش عندي كرامة؟!”
“ليش عملتي منها قصة؟ ليش بطلّعي أعصابك عليّ؟ أنا بعطيه الاغراض.. إنسي إني حكيت إشي!”
“بدي أعمل منها قصة، لكان فكركم أبقى ساكتة؟”
“شو بدك؟ أنا مش فاهم عليكي! أنا اللي قلتله يعمل هيك، هادا الموضوع مسببلكم مشكلة، إنت منزعجة من الموضوع، وهو بحاجة للغرض، بطلّ يقدر يستحمل الزلمي!”
“خلص، أسكت عاد، فوت إنت أعطيه اياه قبل ما أكسروا، وإرجع على شغلك.”
“لا بدي أعطيه أغراض ولا أعطيه خرا على راسي.. أنا لازم كل يوم أعلق بخرافية شكل، حلّوا عني، خيرًا تفعل.. شرًا تلقَ..”
تضع الأرز في الصحن الصغير بحركة قاسية، يقهرها أنه سعيد، امرأة غريبة تقتحم جسده وهو يخفي هذه المغامرة وراء لطافة غير معهودة أو سكوت مزعج
أغلق الباب بشدّة هزّت حيطان البيت وكادت أن تكسر صحن الخزف المزخّرف المعلّق فوق الباب منذ زواج والديه قبل ثلاث وثلاثين سنة تقريبًا. ابنته تحكي لجدتها عن الروضة والكعكة اللذيدة على شكل “باربي” زهرية اللون، وتطلب منها أن تفتح لها كيس “الهدية” المليء بقطع صغيرة من الشوكلاطة وأكياس المسليات.
“إسا بتوسخيلي البيت، خلي إمك تفتح الكيس، إسّا مش وقت شوكالاطه، لازم تتغدّي بالأول”، تنظر إليها حفيدتها راجية على شفا الدمعة.
“بتوكلي واحدة بس.. بعد الغدا!”.
يطفئ زوجها التلفزيون في غرفة نومهما، والضوء أيضًا، ويدندن أغنية فريد الأطرش “علشان ما ليش غيرك”. تسمع حفيدته صوته فتسبقه إلى رجليه قبل أن يفتح باب المنافع صارخة “سيدو.. سيدو”، يرميها في الهواء ثلاث مرات، ويغني لها بصوت أعلى: “علشان علشان.. ما ليش غيرك”.
تضع الأرز في الصحن الصغير بحركة قاسية، يقهرها أنه سعيد، امرأة غريبة تقتحم جسده وهو يخفي هذه المغامرة وراء لطافة غير معهودة أو سكوت مزعج.
يدخل إلى المطبخ حاملاً حفيدته على يديه اللتين تحاولان فتح كيس الشكولاطة بالوقت نفسه.
“بديش تفتحلها كيس الشوكلاطة، خليها تاكل بالأول.”
“خلص سيدو، ستك بتطعميكي بعدين”، وينزل حفيدته إلى الأرض، فتجرب بنفسها أن تمزّق الكيس.
تعود إلى كنبتها حاملة وجبة الغداء الخاصة بحفيدتها، تمشي وتخلط الأرز مع الفاصوليا ولا تنظر إليه بالمرة، كأنه هواء.
“أنا عندي عملية الجمعة الجاي.”
“عملية شو؟ تصغير خشم؟”
“هههه، لا عملية تصغير طبلة داني!”
“إنت عندك طبلة دان عشان يصغرولك اياها؟!
“مالك عم تتمسخري؟ شو السيرة؟ قلتك إني عم بسمع جوا داني أصوات غريبة مرات.”
“شو بتسمع؟”
“أغاني عربية قديمة.. عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، وبسمع أحاديث لناس ونشرات أخبار، فكرت صابني جنون ولا لبستني روح، بس الدكتورة نسرين بتقولي إنه طبلة داني مسكرة والأصوات بدال ما تفوت.. بتطلع!”
نظرت إليه بعيون جاحظة تبثّ علامات سؤال واستفهام..
“بدال ما تفوت الأصوات.. بتطلع؟”
هزّ برأسه مبتسمًا لغرابة الحالة وقبل أن يخرج العلبة المكعّبة من الكيس الملوّن، قال:
“بدي أعترفلك بإشي”.
بس الدكتورة نسرين بتقولي إنه طبلة داني مسكرة والأصوات بدال ما تفوت.. بتطلع!”
“بدال ما تفوت الأصوات.. بتطلع؟”
لم تكن تريده أن يعترف لها بخيانته، لا تريده أن يعذّبها بكلمات الاعتذار التي يجبره ضميره المعذّب على نطقها، لا ولا تريد أن تطارده لتقبض عليهما متلبسين، ربما اسم عشيقته ليس نسرين كما تبيّن لها، الاسم ليس جوهرًا، تريد أن تبقى في بيتها وتعيش بين قصص أحفادها والماضي والمسلسلات والأغاني.. بهدوء. لم تعد تثق به ولا بأيّ شيء، لا تعتمد على أحد سوى نفسها.. ولا تريد أملاً زائدًا زائفًا. تنظر إلى حفيدتها التي تأكل الأرز والفاصوليا مجبرة وتتمسّك بكيس الشوكولاطة.
“تعترفش.. أحسن مرات الواحدة ما تعرف.”
“أنا كنت كل عمري صريح معك، وما كنش بينا أسرار.”
“ليش مصرّ تحكيلي؟”
“لأنه القصة ما بتستاهل أخبيها!”
“فش حاجة تحكي، أنا عارفة وحاسة، وبديش نحكي قدام هاي البنت البريئة وكتيرة الحكي، فش حاجة تعرف إنه جدها كان هيك.”
“أنا مش عارف ليش إنتِ ماخدة موقف من المحبوسة؟”
“أيّ محبوسة؟ أنا المحبوسة!”
“أنا بروح كلّ يوم عالقهوة بلعب محبوسة.”
بس الدكتورة نسرين بتقولي إنه طبلة داني مسكرة والأصوات بدال ما تفوت.. بتطلع!”
“بدال ما تفوت الأصوات.. بتطلع؟”
قبل خمس عشرة سنة، خيّرتْه: “إما أنا وإما المحبوسة”، لأنها لم تعد تطيق الرائحة التي علقت فيه بعد عودته من ملحمة “الدجاج” في الحيّ، حيث علا اسمه واشتهر كلاعب ساحر، أي حجر يبقى لوحده في الخانة يسجنه فورًا وأية تركيبة أرقام يريدها يحضرها بضربة خاطفة لحجارة النرد. كانت هذه اللعبة ساحة الانتصارات الوحيدة التي يملكها، وحرمته منها لأنها حرمتها منه؛ من قضاء الوقت معه بعد العمل وقبل النوم.
يخرج العلبة المكعّبة من الكيس الملوّن، يفتحها ويخرج منها سمّاعة سوداء كبيرة، تشبه إلى حدٍّ بعيد السمّاعة التي يضعها المغنون والمغنيات في أستوديوهات التسجيل، إنها هدية ابنهما الكبير الذي اقترحها عليه بعدما رآها في متجر الإلكترونيات في المجمّع التجاري الجديد. “هاي السماعة عبقرية، بتحطها على دينيك وبتسمع التلفزيون، راح تريّحك وتخفّف عن إمي”، قال له وأقنعه: “بس استعملها، مش تخليها زينة بالبيت”، أضاف.
تقهقه، وتضع صحن الأكل على الطاولة وتقول لحفيدتها:
“كلي لحالك تيتا.. جرّبي”، وتقهقه.. “روح عالقهوة وخليني هون محبوسة”..
في الليل، بعد نشرة “حصاد اليوم”، دخلت إلى غرفة نومهما بعد أن استحمّت ولبست أجمل فستان نوم حريري في خزانتها. ألقت بنفسها بخفة وبطء إلى جانبه، خطفت جهاز التحكم عن بعد وأطفأت التلفزيون وأزالت عن أذنيه السّماعة السوداء الجديدة.
“غلبتهم اليوم؟”
“طبعًا.. مزعّتهم تمزيع.”
“علمني ألعب محبوسة..!”
“إذا بعلمك بتصيري تغلبيني.”
“طيب.. قلي بحبك.. ليش بسمعش منك هاي الكلمة؟”
“لازم أحكيها؟ ما بكفي إني عايش كل هالحياة معك؟”
“لأ.. ما بكفي.”
“بديش أحكيها.. بدي إشي تاني.”
الباب مغلق، والأصوات مخنوقة بلذة العمر المديد، والأجساد الخمسينية ترقص منتشية على إيقاع موسيقى “تكنو” هاربة من العشّ الالكتروني.
18 أغسطس 2010
عادةً قصصك أجمل.
16 أغسطس 2010
قصة منعشة