الكويرية: من الاختلاف الجنسيّ إلى صناعة الجندر
مقولة “الجموع” هي الأفق الذي يقابل اليوم مفهوم “الاختلاف الجنسي” في نظريّة الكوير وحركته على الأقلّ
الكويرية: من الاختلاف الجنسيّ إلى صناعة الجندر
|العادل خضر|
عندما أطلقت سيمون دي بوفوار سنة 1949 جملتها الشّهيرة: “On ne naît pas femme, on le devient / لا تولد المرأة امرأة، وإنّما تصير كذلك”(1)، فإنّها كانت تقصد من بين ما تقصده أنّ الإنسان يولد وله جنس (ذكر/أنثى)، لأنّه كائن مُجنّس sexué. فأن يكون لنا جنس sexe وأن نكون بشرا هما أمران متلازمان. فلا وجود لبشر بلا جنس ما دام الجنس صفة من الصّفات الضّروريّة الدّاخلة في حدّ الإنسان. بيد أنّ الجنس ليس علّة النّوع genre (أو الجندر)، ولا يمكن فهم النّوع على أنّه انعكاس للجنس والدّالّ الّذي يمثّله (أنثى [جنس] = امرأة [نوع] / ذكر [جنس] = رجل [نوع]). فلفظ «امرأة» لا يحيل بالضّرورة على التّشييد الثّقافي للجسم الأنثويّ، مثلما أن لفظ «رجل» لا يُمثّل بالضّرورة الجسم الذّكريّ. فعند بوفوار يعتبر الجنس معطى ثابتا، أمّا النّوع فهو مكتسب. فإذا كان من المستحيل تغيير الجنس (هذا على الأقلّ ما كانت تظنّه بوفوار) فإنّ النّوع تشييد ثقافيّ للجنس متغيّر مبتدع باستمرار وعلى نحو متكرّر.
ويعني ذلك أنّه لا يوجد تطابق ضروريّ بين الجنس والنّوع؛ فكلّ واحد منهما متميّز ومستقلّ عن الآخر، إذ يمكن أن يكون لنا جنس ما ولكن لنا نوع مقابل يمثّله (أنثى [جنس] = رجل [نوع] / ذكر [جنس] = امرأة [نوع])- والأمثلة على ذلك كثيرة. ففي بعض المعاجم العربيّة نجد مثل هذا التّقابل بين الجنس والنّوع في اللّغة ذاتها. فقد جاء في تاج العروس ما يلي: “مَرِئَ الرّجل… صار كالمرأة هيئة وحديثا… وهو المخنّث خلقة أو تصنّعا”؛ و”المؤنّث من الرّجال المخنّث شبيه المرأة في لينه ورقّة كلامه وتكسّر عظامه”؛ و”امرأة ذَكِرَة كفَرِحَة ومُذَكَّرة ومذكِّرَة أي مشبّهة بالذّكور”. وفي الأزمنة الحديثة احتدّ هذا التّقابل حتّى أضحى موضوع نضال ضدّ «الفاشيّة». فقد تعاطت الفيلسوفة بياتريز بريسيادو Beatriz Preciado، تلميذة دريدا السّابقة، ونصيرة فكر ما فوق النّوع la pensée transgenre) (2)) التستسترون (3) لا لتصبح رجلا، وإنّما لتفكّك الهويّة الجنسيّة الّتي فرضها المجتمع عليها. فهي وفق الحالة المدنيّة «امرأة»، إلاّ أنّها تعتبر نفسها قبل كلّ شيء ضحيّة، لأنّ «الفاشيّة» قد سلّطت عليها جنسا لم تُستشر في اختياره، ذلك هو باختصار شديد تعريف «الفاشيّة» عند بياتريز بريسيادو.
وتدلّ هذه الأمثلة على أنّ التّمييز الجذريّ بين الجنس والنّوع يقتضي من الأجسام المجنّسة أن تكون قابلة لصور شتّى من الأنواع المختلفة فلا تختزل في اثنين: رجل وامرأة. يكفي أن نستعرض أسماء الأقلّيات الجنسيّة الّتي يجمعها لفظ كوير queer كالنّسويّات السّوداواتles féministes noires، والسّحاقيات الشيكانيات (أي المكسيكيّات الأمريكيّات)lesbiennes chicanas وأنصار ما فوق الجنس les transsexuels ، وما فوق النّوعles transgenres ، وما بين الجنس les intersexuels، والرّجال بلا عضو الذّكورة les hommes sans pénis، والنّساء الملتحيات les femmes à barbe، والمخنّثون بلا أيرles trans-pédés sans bite، والنّساء الباتش les femmes butches، والخناث السّحاقياتles pédés lesbiennes، والمصابون بالإيدز les séropos، والمعاقين الكوير les handicapés queer، حتّى نقف على هذا التّنوّع الشّديد في الهويّات الجنسيّة.
تدلّ جميع هذه التّسميات وغيرها ممّا لم نذكر أنّ الجندر ليس كينونة ثابتة أو ماهية لا تتبدّل، أو وسما ثقافيّا لا يعرف التّحوّل، وإنّما هو صيرورة وضرب من النّشاط المستمرّ والعمل المتكرّر الذي يقبل التّكاثر والتّنوّع فوق كلّ الحدود الّتي ما فتئت ثنائية الجنس البارزة (أنثى/ذكر) تعمل على فرضها وترسيخها. فالجندر في الواقع ضرب من العمل الثّقافي/الجسميّ يقتضي معجما جديدا يظهر التّشكيلات الجنسيّة الجديدة المتجدّدة، ويعيد باستمرار تشييدها، ويقاوم “إمبراطوريّة الجنسي Empire Sexuel” بانتزاع كلّ تشكّل أنطولوجيّ dés-ontologisation لسياسات الهويّات المختلفة. فلا وجود لأساس طبيعيّ (امرأة، قاي gay، إلخ) يمكنه أن يسوّغ العمل السّياسي. وحتّى مقولة ” الاختلاف الجنسي” فقدت الكثير من ألقها ونجاعتها التّفسيريّة بعد أن نافستها مقولات أخرى مثل جمهرة الأجساد multitude des corps والجموع الجنسيّة multitude sexuelle (4). فمقولة “الجموع” هي الأفق الّذي يقابل اليوم مفهوم “الاختلاف الجنسي” في نظريّة الكوير وحركته على الأقلّ.
في هذا الأفق، أفق الجموع والجمهرة، ننزّل مسألة المثليّة الجنسيّة خارج سياق “الاختلاف الجنسيّ”. فهي ليست المقابل الضّدّي للمغايرة الجنسيّة، وإنّما هي نوع من الاضطراب الخلاّق في الجندر يساهم بطرق شديدة التّنوّع في ابتداع هويّات جديدة مختلفة. فالسّحاقيّة عند مونيك وتّيغ Monique Wittig على سبيل المثال ليست امرأة لأنّه لا تتوفّر فيها الشّروط الّتي سطّرها المغاير الجنسيّ وتتحدّد بها الأنوثة (5). ولكنّها تمثّل خارج منظور “الاختلاف الجنسيّ” إمكانا من بين إمكانات أخرى تُبتدع فيها تشكّلات جديدة للذّات.
■
إذا طرحنا هذا السّؤال: من هو المثليّ الجنسيّ؟ فإنّ كلّ الإجابات الممكنة ستظلّ معبّرة بشكل من الأشكال عن منظور الغيريّة الجنسيّة الذي ينهض على ماقبليّات طبيعيّة (ذكر/أنثى/خنثى…) تترجم في معجم طبيعانيّ وبألفاظه فكر “الاختلاف الجنسيّ” الذي يشتغل بالإقصاء. فالمُقْصى المبعد في الهامش هو كلّ ما يعتبر ملوّثا خطرا مهدّدا لتماسك النّظام الاجتماعيّ. وهذه هي حال المثليّ الجنسيّ. فقد بيّن سيمون وتناي Simon Watney في دراسة عنوانها “Policing Desire: AIDs, Pornography and the Media /شرطة الشّوق: الأيدز والبرنغرافيا ووسائل الإعلام”(6) أنّ الشّخص المصاب بالإيدز إنّما هو تجسيم “للشّخص الّذي يلوّثla personne qui pollue”. فلم تقتصر ردودُ الفعل الهستيريّة في وسائل الإعلام على اعتبار الإيدز “مرض القاي” فحسب، وإنّما أخرجت المرض في صورة ملوّثة لمّا ربطته بأصل التّلوّث وأساسه، وهو المثليّ الجنسيّ، ليصبح (أي مرض الإيدز) أنموذجا للتّلوّث المثليّ الجنسيّ. وقد حمل انتقال المرض بواسطة الإفرازات الجسديّة على التّفكير في المخاطر الّتي تهدّد النّظام الاجتماعي من جرّاء هشاشة الحدود الجسديّة القابلة للتّسرّب. فإذا كان جسد المثليّ الجنسيّ الملوّث نفاية فلماذا تمثّل النّفايات الجسديّة رموز الخطر والسّلطان؟
ترى ماري دوغلاس مؤلّفة كتاب “في النّجاسة”(7) أنّ كلّ الأنظمة الاجتماعيّة تضحي في هوامشها هشّة. فكلّ الهوامش خطرة. وإذا كان الجسد عبارة عن مجاز للنّظام الاجتماعي، صار كلّ ما هو قابل للتّسرّب (كالجسد) فضاء للتّلوّث والخطر. وليس أدلّ على ذلك من الممارسات الجنسيّة -الشّرجيّة أو الفمويّة- بين الرّجال. فهي تجسّم بعض الأشكال التّسرّبيّة الجسديّة الّتي لا يقبلها النّظام المهيمن. وبذلك أصبحت المثليّة الجنسيّة الذّكريّة مشكّلة لفضاء الخطر والتّلوّث قبل أن تدخل الإيدز إلى مسرح الأحداث الثّقافيّة. وعلى هذا النّحو نرى أنّ الممارسات الجنسيّة في سياق المثليّة الجنسيّة تفتح في الجسد مساحات ومنافذ جديدة تنشئ بها دلالات إيروسيّة مختلفة، وتنتهك الحدود الّتي كانت تضبط ماهية الجسد وتربكها.
■
ولكن إن غيّرنا صيغة السّؤال وقلنا: متى يكون المرء مثليّا جنسيّا؟ فإنّنا بالضّرورة نتساءل عن شروط الإمكان الّتي تنشئ جندر المثليّ الجنسيّ. فهل تقلب التّسميات المختلفة الشّخص إلى مثليّ جنسيّ (كمخنّث وذكِرة مذكّرة وسحاقيّة، ولوطيّ، وpédé، وpédéraste، وtapette، وgay، وlesbienne…)؟ وهل تختزل المثليّة الجنسيّة في مجرّد ممارسة جنسيّة بين طرفين وجسدين من نفس الجنس (ذكر/ذكر) أو (أنثى/أنثى)؟ وإذا كانت صنفا مخصوصا من الممارسات الجنسيّة فهل تنتج هذه الممارسات بعض أصناف الجندر؟ أم هي (أي المثليّة الجنسيّة) ضرب من الأداء (شبيه بالأداء المسرحيّ) والإنجازيّة تمكّن الشّخص من أن يقلّد ويمثّل، أو أن يحاكي محاكاة ساخرة جندرا مّا، أو أن يعارض نوعا من الأنواع؟ هل يؤكّد ذلك أنّ كلّ الهويّات الجنسيّة إنّما هي هويّات تصنع وتبتدع بما ينشئه الجسد من إيماءات وحركات وطرائق مخصوصة في الكلام؟ أم تُراها هويّات قد ابتدعها السّلطان بما أنّ السّلطان لا يقمع فحسب، وإنّما يخلق وهو يقمع، وينتج بقدر ما يمنع. فالسّلطان يشتغل بآلية الكبت. فهو ينتج الموضوع الّذي ينفيه وينكره. وقد بيّن فوكو بوضوح أنّ آلية الكبت لها منطق ثقافيّ قائم على المفارقة، فهو يحظر، ولكنّه ينتج في الوقت نفسه ما يحظره. ويمكن أن نوضّح هذه الآلية ببعض الأمثلة.
من ذلك أنّ الإرهاب والقلق اللّذين يشعر بهما كلّ من يخشى أن يصبح «قاي» أو «سحاقيّة» إنّما هو خوف يعذّب الكثير من النّاس، ويترجم فزعهم من فقدان مكانهم في نظام الجندر، ويشعرهم بالقلق على مصيرهم إن هم ضاجعوا فردا بدا لهم أنّه من «نفس» النّوع (أي من نفس نوعهم). تكوّن جميع هذه المخاوف ضربا من الأزمة الأنطولوجيّة تُكابد على مستويين في الآن نفسه: اللّغة والجنسانيّة. غير أنّه لا ينبغي أن ننظر إلى هذه المخاوف على أنّها تترجم حالا من أحوال النّفس «الدّاخليّة» كالخشية والقلق والغضب… فهذا «الدّاخل» الذي يسكن في “أعماق” الجسد إنّما هو ما يكتبه القانون من منع وحظر على صفحة الجسد وسطحه. فالخوف دلالة تتجلّى على سطح الجسد تربك التّمييز الشّائع بين «الدّاخل» و«الخارج»، فهو صورة من الفضاء النّفسي قد سجّلت على الجسد بوصفها دلالة اجتماعيّة ينشئها القانون. ويعني ذلك أنّ القانون لا يُدَخْلَن تماما وإنّما يَتَجَسدن، بحيث أنّ دلالته لا تنشأ إلاّ على سطح الأجساد، أي تلك الأجساد الّتي أنتجها القانون بأن صار مكوّنا لذواتهم، ووعيهم وقانون شوقهم.
إنّ وصف الحدثان النّفسي الدّاخلي على أنّه سياسة تمارس على سطح الجسد يقتضي عند باطلر Butler أن يعاد وصف الجندر على أنّه إنتاج انضباطي بواسطة لعبة الحضور والغياب (كحضور علامات الذّكورة أو الأنوثة وغيابها) الّتي تمارس على سطح الجسد، وتشييد “الجسد المجندر” من خلال سلسلة من الإقصاءات والإنكارات الدّالة(8). ولا غاية لهذا الإنتاج الانضباطي سوى تثبيت النّوع على نحو متصنّع خدمة لمصالح المغايرة الجنسيّة، وتحقيقا لضرب من الانسجام المفتعل الّذي يحاول أن يخفي الانقطاعات التي تخترقه، حيث لا ينحدر النّوع بالضّرورة عند القايز والسّحاقيات من الجنس، ولا تتقيّد الجنسانيّة مباشرة بالنّوع. فعندما تستبدّ الفوضى بحقل الأجساد، فلا يعكس كلّ جنس جندره، ولا يعبّر كلّ نوع عن جنسه، يضطرب الانسجام الوهميّ، أو تخييل الانسجام الذي تنهض عليه المغايرة الجنسيّة، على نحو يفقد فيه أنموذج “التّعبير” و”الانعكاس” المثاليّ، أي (أنثى [جنس] = امرأة [نوع] / ذكر [جنس] = رجل [نوع])، قوّته الوصفيّة.
■
ولكن إذا تساءلنا: ما هو القانون المتحكّم في الإنتاج الانضباطيّ الّذي يبدع الأسلبة الجسديّة للنّوع؟ فإنّ الجواب يقتضي أن نسلّم بأنّ الانسجام الوهميّ إنّما هو نتيجة “أَمْثَلَة” لبعض الدّلالات الجسديّة الّتي تنشأ على سطح الجسد، وتتشكّل بواسطة الأعمال والحركات والإيماءات والأقوال. ولمّا كانت هذه الأعمال بوجه عامّ إنجازيّة بواسطتها نفهم أنّ الهويّة الجنسيّة تصنعها العلامات الجسديّة ووسائل خطابيّة أخرى، جاز لنا أن نعتبر أنّ الجسد المجندر هو إنجازيّ، وليس له أساس أنطولوجيّ مستقلّ عن مختلف الأعمال الإنجازيّة الّتي تكوّن حقيقته. يؤكّد ذلك مثال الـdrag. فما هو الـdrag؟
لكلمة drag أصول مسرحيّة، فهو يرجع بنا إلى العصر الذي كان يحظر على النّساء التّمثيل على خشبة المسرح. فكان الرّجال يؤدّون أدوار النّساء متنكّرين في أزياء أنثويّة لا ترتديها إلاّ المرأة. فالـdrag بهذا المعنى هو اختصار لعبارة (dressed as girl، حرفيّا: يرتدي زيّ فتاة). وكانت هذه العبارة تسجّل بجانب اسم الممثّل الّذي يتولّى أداء دور امرأة. وقد استعيد استخدام هذا اللّفظ في لهجة المثليّة الجنسيّة اللّندنيّة للدّلالة على اللّباس الأنثويّ. وقد أضيف إلى كلمة drag لفظ queen الّذي يعني حرفيّا “الملكة”، ولكن المقصود به في هذا السّياق معنى “المجنونة”. فعبارة « drag queen » تعني حرفيّا “الملابس المجنونة”. ولكنّها في سياق المثليّة الجنسيّة تعني الرّجال الّذين يرتدون ملابس المرأة إمّا على نحو مبالغ فيه مختلّ مجنون، أو لتقليد نساء شهيرات للإمتاع والتّنشيط، أو لتقديم عرض فيه الغناء والرّقص. أمّا الـ« drag kings» فهنّ، بخلاف الـ« drag queen »، نساء يرتدين زيّ الرّجال. والـdrag بنوعيه يلعب على النّشاز بين المظهر والمخبر، والجنس وطريقة إنجاز الجندر وتمثيله، كتقليد الـ drag queen للمرأة والـ drag kings للرّجل، بمحاكاة ساخرة لفكرة وجود “نساء حقيقيّات” أو “رجال حقيقيّين”.
يثبت مثال الـdrag أنّه في جوهره ممارسة تقلب رأسا على عقب التّمييز الثّابت بين الفضاء النّفسي الدّاخليّ والخارجيّ، وتجعل أنموذج “التّعبير” و”الانعكاس” المثاليّ غير معقول ولا مقبول. فالـdrag في صيغته المعقّدة هو انقلاب مزدوج يؤكّد أنّ المظاهر خدّاعة. ذلك أنّ الـdrag يقول: إنّ مظهري الخارجيّ أنثويّ، ولكنّ جوهري الدّاخليّ (الجسم) ذكريّ، مثلما يمكنه أن يقول: إنّ مظهري الخارجيّ (جسمي، نوعي) ذكر، ولكنّ جوهري الدّاخليّ أنثويّ. وبذلك تصبح فكرة وجود هويّة أصليّة أو أوّليّة للجندر موضوعا للمحاكاة السّاخرة والتّلبيس travestissement والأسلبة الجنسيّة في ممارسات الـdrag.
وبمثال الـdrag تتّضح بعض الشّيء ملامح نظريّة الإنجازيّة عند باطلر. وهي نظريّة تنهض على تصوّر الجندر بوصفه عملا إنجازيّا يبيّن أنّ ما نعتبره بمثابة الجوهر الدّاخلي إنّما هو مصنوع بواسطة سلاسل لا تتعطّل من الأعمال ولا تتوقّف، وأنّ ما نتصوّره خاصّيّة داخليّة فينا إنّما هو يعرب عمّا نتوقّعه وننتجه من خلال بعض الأعمال الجسديّة. غير أنّ لهذه الأعمال، في بعض الأنظمة والسّياسات الجنسيّة، تبعات جزائيّة. فهي لا تتوانى عن معاقبة أولئك الّذين لا يتوصّلون إلى إنجاز جندرهم وصنعه على النّحو اللاّئق المطلوب أو المستقيم straight. ومعنى ذلك أنّه لا وجود لجوهر يمثّل الجندر، ولا لمثال موضوعيّ يستلهمه الجندر، فهو ليس معطى ماقبليّ، لأنّه لا يوجد بدون الأعمال الّتي تكوّنه.
ينجرّ عن كلّ ذلك أنّ لا أساس طبيعيّ للمثليّة الجنسيّة، فهي تصنع بالأعمال الّتي لا تسطّرها المغايرة الجنسيّة ولا تمليها سياسة الجنس. فهي فضاء خلق لتشكيلات جديدة للذّات، وموقع إبداع تتلاحق فيه وتترابط الحركات النّسويّة وحركات المثليّين الجنسيّين ومبدلي الجنس ومابين الجنس ومافوق النّوع والشّيكانيّات ومابعد المستعمرين… بل هو الموقع الّذي تنقلب فيه “الأقلّيات الجنسيّة إلى جموع”. هذه الجموع تسمّى “جموع الكوير”. وهي جموع لا تنهض على الاختلاف الجنسيّ وإنّما على جمهرة من الاختلافات، وتنوّع شديد في قوى الحياة. وهذه الاختلافات ليست جميعا قابلة للتّمثيل لأنّها اختلافات “بائنة” « monstrueuses » تضع بـ”بائنيّتها” « monstruosité » تلك موضع السّؤال والاتّهام أنظمة التّمثيل السّياسيّ.
(عن “الأوان”)
الإحالات:
1- انظر: Beauvoir, Simone: (1949-2003) Le Deuxième Sexe, rééd Gallimard
2- نقترح لفظ “ما فوق النّوع” لأداء الّلفظ الفرنسي (transgenre)، وهو لفظ اقترح لأداء النّعت الأنكليزيّ (transgender)، ويستعمل لوصف الأشخاص الّذين يتماهون في النّوعين التّقليديين «رجل» /«امرأة» أو وصف أولئك الّذين لا يتماهون فيهما.
3- هرمون الذّكورة، تفرزه الخصيتان ينشّط تطوّر الأعضاء التّناسليّة الذّكريّة، ويحدّد ظهور الخاصّيات الجنسيّة الذّكريّة الثّانويّة كالشّوارب واللّحية والصّوت…
4- نؤدّي لفظ multitude(s) تارة بجموع وطورا بجمهرة
5- نحيل في مسألة الاضطراب الخلاّق في الجندر على كتاب: Butler, Judith: (2005) Trouble dans le genre. Pour un féminisme de la subversion. Préface de Éric Fassin. Traduit de l’anglais (États-Unis) par Cynthia Kraus. Éditions La Découverte, p17.
6- ذكرته باطلر في كتابها: . Butler, Judith: Trouble dans le genre, op.cit, p252
7- انظر: Douglas, Mary: (1967-2001) De la souillure. Essai sur les notions de pollution et de tabou. Traduit de l’anglais par Anne Guérin. La Découverte/Poche, p.p130-143.
8- انظر: . Butler, Judith: Trouble dans le genre, op.cit, p259
28 مايو 2011
شكرا ، هذا المقال يتضمن معلومات يجهلها الكثير من الناس
26 مايو 2011
مقال ممل لا يحمل الجديد