الحلاج للفرنسية: “الديوان” و”الطواسين”
ليست المحاولة الأولى طبعاً لنقل تراث المتصوّف الثوري إلى لغة موليير. لكنّ الشاعرين العراقي والفرنسي يأتيان بإضافات شتّى على مستوى الحساسيّة الشعريّة والبعد الروحاني، في ترجمة «الديوان» و«كتاب الكلمة» و«الطواسين» مذيّلاً بـ«حديقة المعرفة». هل بقيا أمينين على الوحي وألغازه في نصّ زميلهما البعيد الذي أعدم على ضفاف دجلة بتهمة الزندقة؟
الحلاج للفرنسية: “الديوان” و”الطواسين”
|صباح زوين|
ثلاثة كتب للمتصوّف الكبير حسين بن منصور الحلّاج (858 ـ 922) صدرت أخيراً بالفرنسية عن دار «دو روشيه»، وهي «الديوان» و«كتاب الكلمة» و«الطواسين» الذي ذُيِّل بـ«حديقة المعرفة». أنجز الترجمة عن العربية كل من الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير، والشاعر الفرنسي فيليب دولاربر. واستند المترجمان في مجموعة «الديوان» إلى تفسيرات كامل مصطفى الشيبي، وهو أستاذ في الفلسفة الإسلامية في جامعة بغداد، نشر نسخة من هذا الكتاب للحلاج عام 1974.
قَيِّمٌ العمل الذي قام به المترجمان من حيث جدية البحث، وجمالية الترجمة ودقّتها. وهذه الجمالية تكمن في أنّها أتت بروحيَّة النص الأصلي، وسرعان ما يشعر بها القارئ إزاء الكتب الثلاثة، إذ إنّه يعثر على المعنى الذي أراده الحلاج. ولو أننا قد نميل، رغم الجهد الحقيقي المبذول، إلى القصائد الأصليّة. الحلاج في العربية يبقى الأكثر روعة. تماهت اللغة العربية، على الأرجح أثناء كتابة الحلاج، مع فكرته وروحه ومبتغاه، وجانست اللفظ والرؤية في اصطفاء صوفي صرف ساعة الكتابة.
أمّا الترجمة الفرنسيّة، فقد أتت بما وجب عليها أن تأتي به، أي إنَّه واجب أكثر منه رؤية وإحساساً. يظهر هذا رغم أنّ هذه الترجمة تحاول قدر الإمكان أن تشبه الأصل وتكون وفية له. وهذا ما نجده في الكتب الثلاثة التي أمامنا، والقصائد كما النصوص النثرية من مقاطع وشذرات. على سبيل المثال في «الطواسين» كما في «كتاب الكلمة»، حافظت القصائد مع المترجمَين على روحيتها، وعلى بعدها الميتافيزيقي واللاهوتي التي أرادها الحلاج ذاته.
يقول المترجمان في مقدّمة كتاب «الطواسين» إنّه «يهدف إلى تقديم نصوص للحلاج في رؤية وقراءة مختلفتين». وتجدر الإشارة إلى أنّ عبد الأمير ودولاربر لم يكتفيا في هذه النسخة الحلاجية الجديدة بإعادة نشر نصوص الطواسين الغريبة والمعقّدة، بل اجتهدا أيضاً في نشر رسوم المتصوّف الكبير مع نصوصه. إنّها رسوم تستحقُّ التأمل فيها كثيراً وطويلاً. ويكون المترجمان قد أنجزا بهذا عملاً جديداً، لم يسبقهما إليه أحد. هذه رسوم كان المتصوّف الكبير قد زيّن بها نصوصه الأصلية، وهي منشورة في الإصدارات العربية المختلفة، لكنَّها تُنشر للمرة الأولى في الغرب، أي في لغة أجنبية لقارئ أجنبي. وكما يقول المترجمان في المقدمة، نسخة لوي ماسينيون مثلاً غابت عنها هذه الرموز السريَّة والفاتنة.
ويرى المترجمان في مقدمتهما أن نصوص «الطواسين» و«حديقة المعرفة» أعمال في التصوف. لكنّها أيضاً ــــ حتى في أقصى درجات العزلة والتنسّك والزهد ــــ أعمال شعرية كتبها شاعر من الدرجة الأولى. يكفي أن نقرأ بعض النصوص، أو أن نعود إلى النسخة العربية، لكي نغرف من كلمات الحلاج التصوّف، بقدر ما نغرف الشعر والفلسفة والكثير من أمور الوجود. وعلى كل حال، كتاب «الديوان» هو كتاب شعر صرف، كتاب شعر في التصوف، وكان المستشرق الفرنسي لويس ماسينون قد أعاد تركيب هذه المجموعة الحلاجية وتنظيمها، وأصدرها عام ١٩٣١، وكان أول من ترجمها في باريس عام ١٩٥٥.
وواضح أنّ هذه الترجمة الجديدة أصرّت على أن تكون وفية للأصل، متمسِّكة بمبدأ الإضاءة على ما هو غريب وفريد في عمل الحلاج. ومن هنا أهمية هذه الترجمة الجديدة التي لم تكتفِ بإنجاز عمل النقل الدقيق، بل بإبراز ما هو مهم، ونافر، وشائك في فكر هذا المتصوّف الكبير. الترجمة حافظت على روحية الوحي وعلى طابع اللغز المغلق الكامن في أسرار هذا الكتاب الذي كان الحلاج قد رسم فيه قفزته نحو العالم اللاهوتي ــــ الديني ــــ المتصوّف، من خلال رموزه الكثيرة وصوره الغامضة. وكما يقول المترجمان، فإن هذا العمل هو عمل الشغف والهوى والسرّ بامتياز، ويبقى خارج كل التصنيفات. إنّه يكشف عن النشوة والنور الداخلي لدى الحلاج الذي احترق بثمالته الذاتية والإلهية في آن. إنها قصة حياة طالعة من عمق التصوّف، كما أنه عمل يغوص في تاريخ الإنسان وفي عذابه وقلقه.
أما «كتاب الكلمة» فهو مجموعة نصوص هي في الأصل مجموعة «عظات» أو «تبشيرات» شفهية، ألقاها الحلاج على باب جامع، أو في عزلته، أو أمام صديق، أو في ساحة سوق من أسواق المدينة، أو على صليبه. وهنا نتبيّن مرة أخرى قدرته على السيطرة على الكلمة، الكلمة الكبرى، أكانت مكتوبة أم منطوقة شفهياً. فإذا قارنا بين ما دوّنه وما قاله قبل التدوين، نتأكد من قوته العارمة في القول، مهما تكن أشكال هذا القول. لذا ترى شوقي عبد الأمير وفيليب دولاربر يلفتان إلى أنَّ هدفهما، أو طموحهما، من إدخال «كتاب الكلمة» في المشروع، هو تسليط الضوء على وحدة الكلمة لدى الحلاج، وتالياً إضافتها إلى بقية أعماله المكتوبة، ليكتشف القرّاء والباحثون، مرة أخرى، الحلاج الذي نعرفه ببريق كلمته وعمقها.
مع هذه الترجمة الذكية، يعثر القارئ مرة جديدة على الحلاج في كُليِّته، أو يعثر على جوانب منه كان يجهلها… وهكذا يكون المترجمان قد أضافا إلى المكتبة العالمية أعمالاً خالدة للمتصوّف الكبير.
شهيد حريّة التفكير قبل أحد عشر قرناً
|صلاح حسن|
لأنّ التصوّف تجربة فردية غير محصورة في عقيدة، فهي تجربة فوق المعايير العلمية التي تبدأ بمقدمات، لتنتهي بنتائج منطقيّة إن لم نقل رياضية. يقول المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد في كتابه «الفكر الصوفي»، إنّ التجربة الصوفية في جوهرها «محاولة لتجاوز حدود التجربة الدينية العادية، تلك التي تقنع بالعادي والمألوف من مظاهر التصديق والإيمان وتقتصر على مجرد الوفاء بالتكاليف الشرعية… إن الصوفي يطمح إلى تجاوز حدود الإيمان «للدخول في تخوم «الإحسان»». هل يمكننا إذاً أن نفسِّر شطحات الحلاج على أنها محاولة لتجاوز حدود التجربة الدينية التقليدية، وتأويلات قبل فقهاء السلطة العباسية الذين كفّروه وأهدروا دمه؟
لقد ظهرت دراسات عن الحلاج قبل أطروحة ماسينيون. ومن بين هذه الدراسات ما قام به المستشرق البروتستانتي ف. أ. تولوك. وتعدّ دراسته أوّل دراسة أوروبية عن الأصل المجوسي للتصوف الإسلامي بما فيه تصوف الحلاج. غير أن تولوك غيّر آراءه في ما بعد، لأن دراسته كانت تفتقر إلى الطابع العلمي. وهناك دراسة أخرى قام بها الفرد كرايمر، يضع فيها الحلاج في خانة وحدة الوجود، خالطاً بينها وبين طريقة وحدة الشهود، وخصوصاً في ما يتعلق بمسألة التنزيه المطلق للذات الإلهية. وهناك بعض المستشرقين الذين عدّوا الحلاج نصرانياً، مثل أوغست مولر، وهي النظرية التي جاء بها ماسينيون في ما بعد. لكنّ ماكس هيرتون جاء بنظرية أخرى يفنّد فيها رأي جميع المستشرقين حول الأصول المسيحية للتصوف. حتى إنّه قال بالأصل الهندي للتصوف. يتميز الحلاج عن باقي المتصوفة برؤيته للموت بوصفه مخلِّصًا، يجعل جميع الأشياء تنسجم في وحدة واحدة. وبدل أن يقضي على الحياة، فهو يمنحها بمثابة كرامة. وليس هناك أكثر جحوداً من رفض الكرامة بالنسبة إلى المتصوفين لأنها من الفضل الإلهي. أحيت العقيدة الحلاجية في الإسلام أملاً للارتقاء بالروح الإنسانية إلى ما فوق المظهر الخارجي للعبادة، وذلك بفضل فلاسفة ومتصوفين كبار أمثال ابن عربي وابن سبعين وجلال الدين الرومي وعبد الكريم الجيلي، وكثيرين غيرهم… تميز الحلاج أيضاً عن باقي المتصوفة بتفسيره الباطن للقرآن في كتاب «الطواسين». هذا التفسير سبق تفسير القشيري ومن تبعه في هذه الطريقة. أما اللغة التي استخدمها، فتقوم على جدليّة التواشج بين مفهوم الإشارة ومفهوم العبارة. لهذا كان لدى المتصوفة لغة خاصة تحميهم من الاتهامات بالردة والكفر، نتيجة سوء الفهم الحاصل في تفسير أقوالهم.
عندما سجن الحلاج بسبب اتهامه بالزندقة والكفر توسّط له الكثير من الأعيان، من بينهم زوجة أحد الوزراء واسمها شغب من أجل إطلاق سراحه، شرط أن يتخلى عن مقولاته… لكنه رفض ذلك، فدفع إلى المحاكمة التي استمرت سبعة أشهر، وقد كفّره فقهاء عصره. ثمّ قطِّع وأحرق.
(عن “الأخبار” اللبنانية)
25 فبراير 2012
الحلاج سر من اسرار الله