صرخةٌ من عَوَرتَا/ جواد بولس
|جواد بولس| لولا بريق دموعها لمررنا دونما انتباهٍ إليها […]
صرخةٌ من عَوَرتَا/ جواد بولس
|جواد بولس|
لولا بريق دموعها لمررنا دونما انتباهٍ إليها. كانت هناك على جنبات الطريق، قبل أن يبدأ يتشاهق ملتويًا إلى رأس الهضبة.
كروم كرَّمت أرضنا فكرَّمتها وأصبحت تسمّى بزيتون فلسطين. هناك على خاصرة نازفة أشجارٌ وقفت تنتظرنا بقطراتٍ تخيّلتها ما جفّت منذ حمل ذاك الفلسطينيّ صليبه. تنتظرنا وتقول لنا هيّئوا وتهيّأوا، فأمامكم فصل جديد من رواية التاريخ وعبثه، يُكتبُ على مسارح تلك الأرض العالية. فصل سترويه لكم “شهرزاد” الفلسطينية وسيكون أشبه بالأحلام، حيث لا عقل يدرك ولا خيال يسعف.
بعد مسيرة بضع كيلومترات، شمال شرق نابلس “النار والصابون” وصلنا. على مشارف “عورتا” رتلٌ من السيارات تنقل محامين وعاملين في “نادي الأسير الفلسطيني”. دخلنا، سيارة بذيل أختها، فشارع البلدة، كما في سائر بلداتنا وقرانا، صُمَّم بعرض “كارّة” وبكَرَم فلاحين، يجودون بكلِّ غالٍ إلٌا بالأرض.
من رام الله سلكنا طريق بير زيت. تحايلنا على عجقة مرورية عرقلت تقدمنا قبل “حوّارة” فتوجهنا إلى “قبلان”. إنّها جغرافية اللحظة والقهر، تبرز قدرات خبراء بنبض الشوارع/شرايين الوطن. هنا في فلسطين عليك إجادة قسطرة الشوارع ونطاسية بضبط صماماتها ومفاصلها الالتفافية.
جنبات الشارع ملأى بشعارات ورسومات. فعورتا كما أخواتها، هي فلسطين صغيرة. منجل ومطرقة تجانب هلالاً. أكّفٌّ منقبضة تساند وجوهًا لُثّمت وعُمّمت. جداريات تسطّر ألوان الوجع وتعد بخزائن الغد يملؤها جنى بيادر الخيال. غلّة تجسّد إرادات اجتمعت على حائط وتفرّقت في واقع.
القرية متعبة. أعداد قليلة من المارة وندرة من أطفال يلعبون. بيوت متثاقلة كأنّها تصحو من غفوة طويلة. حواكير تتوجَّس. أشجارها تنظر إلينا، وبعضها يرمقنا، خلسةً، بما يشبه الازدراء. أأغرابٌ أنتم أم حلفاء؟ هكذا فضحت عيون وهمست أغصان. “حلفاء وأخوة وأصدقاء. جئناكم من “نادي الأسير”، محامون وعاملون، لنقول أنّنا معكم وفي خدمتكم”. هكذا أعلن قدوره فارس، رئيس نادي الأسير الفلسطيني، في قاعة المجلس المحلي، حيث استقبلنا رئيس المجلس ونائبه والأعضاء وبعضٌ من ناشطي البلدة. كلهم شباب في عمر الاحتلال وأصغر، وكلهم في سن الفرح والعنفوان وأكبر. حفاوة هؤلاء القادة الجدد أراحتنا وأزاحت حرج أول اللقاء. حرارة لقائهم أحالتنا لأكثر من ضيوف ولأقرب من إخوة في الهم والعزيمة والأمل.
رئيس المجلس يدهشنا حينما بدأ يطلق شهادته عمّا جرى ويجري منذ حوالي الشهر في عورتا. بدقة وثقة يشرح كيف تحوَّلت البلدة إلى ساحة ومعتقل واحد كبير لستة آلاف مواطن. تتناوب فرق جيش الاحتلال على اقتحام بيوتها وحاراتها في النهار والليل وخاصة في ساعاته الصغرى. يعلن منع التجول ويحاصر السكان في بيوتهم. قوات مدججة بالأسلحة والكلاب تقتحم البيوت وتطلق كميات كبيرة من قنابل الصوت المرعبة. لا يدعون أحدًا ينام. يرعبون الأطفال ويحاولون إهانة الجميع بلا استثناء، فلا مسن يفلت ولا عجوز ولا مريض يراعى. عشرات يعتقلون، بعضهم يفرج عنه بعد أن يدفع فاتورة التنكيل والمهانة، وبعضهم ما يزال قيد الأسر.
سمعنا وكم سمعنا. بصلابة تحدث الرئيس ونائبه، وبطلاقة مصحوبة بمرارة ووجع، نقلا صورة لمأساة تعيشها بلدة كاملة. مرارة صارخة، لكنها خالية من مذلة وهوان. صوتهما نقل الدهشة والاستهجان، لكنه نقل كذلك رنين الأرض وخفق أجنحة النسور واليمام. لا بكاء إلا بكاء الزيتون على أبنائه يحملون “صلبانهم” على أكتافهم، صامدين في درب آلامهم وآمالهم.
“أنا شهرزاد” عرَّفت عن نفسها سيّدة بعمر الوعد، جاءتنا مع سيدة أخرى لتتحدث عن نساء البلدة المشغولات في لقاءات أخرى. جاءت لتروي قصص ليالي عورتا الحزينة. “أعلنت الأبواق فرض منع التجول. كنت في بيتي مع ابنتيّ. سمعت خبطًا على باب منزلي وصوت الجنود يأمرني بفتح الباب. فتحت بعد أن كادوا يكسرونه. تدافعوا وتمركزوا في كل غرفة وزاوية من البيت. كانت معهم مجموعة من الكلاب. تأكدوا من اسمي، شهرزاد عوّاد، وأمروني بمرافقتهم. حاولت الاعتراض، فلا يعقل أن أترك ابنتيَّ لوحدهما في البيت. لم يشفع عندهم شيء. أخذوني معهم عنوة”.
بكت البنتان عندما شاهدتا أمهما تساق إلى جيب عسكري. وتُركتا في البيت تحيطه أعداد كبيرة من الجنود. نُقلت شهرزاد إلى معسكر للجيش. وصلت فوجدت عشرات من نساء البلدة رهن الاعتقال. صبايا ونساء ومسّنات. مريضات وعجزة. لا فرق، كلهن خضعن للتحقيق بشبهة قتل مستوطنين. كلهن وقّعن على إفادات كتبت بالعبرية. أخذت بصمات جميعهن وعينات من لعاب الفم لفحص الحمض النووي. بعد ساعات طويلة من رحلة عذاب وتنكيل وترهيب أعيدت شهرزاد إلى البلدة. حافلة عسكرية أقلتها ورمت بها على مسافة بعيدة من بيتها لتقطعها راجلة وحيدة إلا من خوفها على عائلتها أكثر من على أي أحد آخر.
“ليلة الحرائر” كانت حكاية شهرزاد. “حسناوات” عورتا يرفعن البيارق بعزة وكرامة وبجانبهن جموعٌ من الرجال الرجال.
“نحن لا ننام في عورتا. ليلُنا جرجرةُ حافلات وجنود تصيح وكلاب تنبح. أطفالنا مرعوبون. سُرقت طفولتهم وشُوهت براءتهم. نحاول اقتناص بعض ساعات النوم في الصباح لذلك طلبنا منكم الحضور بعد الساعة الثانية. المعذرة منكم”. هكذا أفادنا رئيس المجلس، بعدما أنهت شهرزاد قصتها.
تركنا البلدة في ساعات المساء على وعد وميعاد أن نكون على تواصل وأن نقدم ما نستطيع من معونة ومشورة وخدمة قضائية، وأن ننقل ما سمعناه قبل وبعد صياح الديك. ننقل لمن؟ أوجعني السؤال. لدول الأمراء والطوائف! لقلعة الأسود تذود عن نفسها من الضباع والثعالب! أم لعاصمة الأمويين تحالف فُرسًا يصدون الفرنجة وزحف التاريخ! فبلاد العرب في مخاضات لتولدَ أوطانًا. لكننا سننقل، فللتاريخ آذان تسمع، وللهواء عيون ترى، فليشهدوا والحكاية روتها “شهرزاد”العورتانية.
في اليوم التالي أخبرونا من عورتا أن الجيش أغار مرة أخرى على البلدة واعتقل أعدادًا من المواطنين، كان بينهم هذه المرة أخت شهرزاد وزوجها وابنتها، وقبلهم كانوا قد اعتقلوا أولادَها الثلاثة. عائلة كاملة وراء القضبان.
سمعنا، سجّلنا، وما زلنا نتابع ونتابع، ونعرف أن الأبرياء هناك قد “اتَّخذوا الليلَ جملاً”، وأن الصباح كما كان سوف يكون، صباح شهرزاد.
(كفر ياسيف)