ما بين جوليانو وسقراط/ بن ثابت صليبا
يجوز اعتبار يوم 4/4/2011 يومًا مفصليًا في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال وبناء الدولة المرجوّة، وهذا يحتم علينا في الداخل -كجزء حيوي وفاعل من الحراك الفلسطيني- تجاوز مرحلة إصدار البيانات والادانة والاستنكار وإضاءة الشموع التي أضحت مبتذلة ولا تلبي ضرورة المرحلة
ما بين جوليانو وسقراط/ بن ثابت صليبا
|بن ثابت صليبا|
“عندما يصمت العقلاء ، يعلو صوت الفاسدين!”
في العام 399 قبل الميلاد تمت في الدولة الأغريقية (اليونان) محاكمة الفيلسوف والمفكر العظيم سقراط. وقد أدين في المحاكمة بالاعدام بشرب السمّ القاتل. في ذلك الحين، وقبل تنفيذ القرار، حاول بعض المقربين إقناعه بالهرب والإفلات من الحكم، لكنه وبحكمته رفض ذلك معللا قراره بأنّ الأخلاقيات التي كان يدعو اليها لا تسمح له بمخالفة قوانين الدولة التي وافق على مواطنتها، حتى إذا كانت ظالمة.
إن قضية محاكمة سقراط قصة مليئة بالفلسفة والإبداع، وهي رائعة أدبية في سردها للأحداث. وما يعنينا في هذا السياق رزمة التهم التي وُجّهت إليه وأدّت إلى انتهاء حياته قسرًا، فجسدّت بذلك مرحلة تحوّل في تاريخ العلوم والفلسفة، حيث أصبح بما يعرف بقبل حقبة سقراط وما بعدها.
لقد قام المحرضون الفاسدون الواشون في تلك الحقبة بتقديم شكوى إلى القضاء يتهمون من خلالها سقراط بتهم جمّة مخالفة للأخلاق والقوانين، ومن أهم ادعاءات تلك الدعوى: الكفر بالآلهة وإتلاف الشباب!
حتى هنا الأحداث التاريخية التي قد يعرفها الكثير، والتي ستظلّ حتما مادة دسمة للقراءة والتدريس مستقبلا لما فيها من عبر ومغازٍ سوف تدوم لعقود قادمة.
المرحلة حرجة ومفصلية، وبالتالي العمل هامّ وضروريّ في مسيرة البناء الحضاريّ المتنوّر
قبل أيام، وخلال متابعة المواد المتعلقة بعملية اغتيال الفنان جوليانو مير-خميس المفجعة، قرأت فيما قرأت من حيثيات الجريمة وما سبقها من منشورات (حسب موقع “قديتا”)، أحدها كان قد وُزّع في جنين قبل الجريمة. ويحوي المنشور في نصوصه تهديدات ووعيد بقتل المغدور خميس، إذا لم يتوقف عمّا يقوم به من فعاليات داخل المخيم. لقد كان المنشور بفحواه عبارة عن إصدار حكم بحق خميس، من دون مرافعة أو محاكمة. ومن بينّات التهم الموجهة إلى خميس -ويا للغرابة والمفارقة- تهم مطابقة لتلك التي أُدين بها سقراط، وهي الكفر بالدين وإتلاف الشباب وتحريضهم ضد عادات وتقاليد المجتمع.
كل هذه التهديدات لم تُثنِ خميس عمّا يقوم به طبقا لقناعاته ومبادئه، ولم يغادر المخيم، تمامًا كما فعل سقراط، مما أدّى إلى غدر الأخير واغتياله.
من هنا يجوز اعتبار يوم 4/4/2011 يومًا مفصليًا في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال وبناء الدولة المرجوّة، وتزامنًا مع الأحداث التي يمرّ بها العالم العربي بأكمله من “ثورات”، رغم عدم وضوح غاياتها وأهدافها حتى اللحظة. هذه تحتم علينا في الداخل -كجزء حيوي وفاعل من الحراك الفلسطيني- تجاوز مرحلة إصدار البيانات والادانة والاستنكار وإضاءة الشموع التي أضحت مبتذلة ولا تلبي ضرورة المرحلة.
كلنا مدركون للحالة الاجتماعية الثقافية المتدهورة -إن صح التعبير- التي يعيشها مجتمعنا (والعربي عموما على ما أعتقد): أعمال العنف والقتل على أنواعهما وكل مظاهر الفراغ الأخلاقي. كلها أضحت مألوفة وعادية في المشهد الحياتي اليومي، ما يحتم وقفة جدية من القيادات والمسؤلين والفاعلين عمومًا (الأحزاب، المؤسّسات، الجمعيات وما إلى ذلك) تتعدى ما ذكر من ردود فعل روتينية. لا أحد ينكر غياب سيطرة فعلية على مراقبة وتنفيذ القوانين وصياغتها التي هي من اختصاص مؤسسات الدولة وضمن صلاحياتها، وهذا ما يصّعب العمل ويعقد المهمة. بالمقابل، هذا لا يمنع بداية -وبالتزامن مع العمل السياسي العام والهام- التفكير بعقلانية من أجل صياغة تصوّر حول ماذا نريد. ما هي الأهداف التي نصبو إليها؟ من قال إننا لسنا بحاجة إلى ثورة- اجتماعية تحديدًا؟
يجب تحويل تطلعاتنا إلى بنود ونصوص تُنشر على الملأ، فيها تحديد للرؤيا من دون تلكؤ وخالية من الشعارات، لتطرح كافة القضايا للنقاش العام. إنّ العملية سهلة في ظلّ التطوّر التكنولوجي وعصر الفييسبوك، الذي يساهم كما رأينا في توعية الشباب وتغذيتهم بالعلم والمعرفة في حال تم استعماله إيجابيًا.
المرحلة حرجة ومفصلية، وبالتالي العمل هامّ وضروريّ في مسيرة البناء الحضاريّ المتنوّر، لنتحول إلى مجتمع خالٍ من العصبيات على اختلافها، ومحتضن لكافة افراده بتنوّع معتقداتهم الدينة والفكرية لتفادي اغتيال آخر للرأي والفكر، ولعدم تكرار الفاجعة وتحوّلها بالتالي إلى مشهد عاديّ وشرعيّ.