واحة الإسكندر: هنا دُفنت الحقيقة
الرواية غنية بتفاصيلها وبهاء طاهر كاتب حذق (“خالتي صفية والدير”، “لم أكن أعرف أنّ الطواويس تطير”)، يمارس حرفته الكتابية بنفس طويل واهتمام مرئي ومحسوس بالتفاصيل الصغيرة التي تبني العوالم لدى الشخصيات وتغنيها. إنها فراسة المتأمل والباحث في ذات الوقت
واحة الإسكندر: هنا دُفنت الحقيقة
|علاء حليحل|
بتأخير فاحش إنتهيت أمس من قراءة رواية “واحة الغروب” للروائي المصري بهاء طاهر (الطبعة السابعة، دار “الشروق المصرية)، وهي الرواية الحائزة على جائزة “بوكر” للرواية العربية للعام 2008. ومن العصيّ أن تجتمع في رواية واحدة عناصر عدة تعمل كلها على مستوى واحد من السرد الخطي (لينيئار)، رغم الإستعادات التي كانت تتخلل الرواية، وخصوصًا لدى بطلي الرواية المأمور محمود وزوجته كاثرين. فالسرد في هذه الرواية تقليدي بامتياز من هذه الناحية، إلا أنه جريء وحافل بما يمكن تسميته “التجاوزات البنيوية”، وبذلك يبرز التجديد والحيوية الكامنين في هذه الرواية عند الانتهاء من قراءتها.
ولعلّ أبرز هذه “التجاوزات” إبراز شخصية الإسكندر الأكبر كشخصية مركزية حاضرة في الرواية وتفاعلاتها، رغم غيابه وبُعدنا عن تفاصيله الصغيرة التي استعان بها الكاتب لبلورة الشخصيات الأخرى، وقد نجح طاهر في استحضار الإسكندر الكبير بشكل لافت وحميمي عن طريق بحث كاثرين المثابر والعصابي بعض الشيء عن مقبرته المفقودة. كما أنّ البحث عن قبر الإسكندر في واحة سيوة المنعزلة بدلا من الإسكندرية يشكل مجازًا قويًا لمعظم شخصيات الرواية، وخصوصًا للمأمور محمود، الذي ينتظر الموت ويبحث عن القبر الذي سيأوي إليه.
العناصر المجتمعة التي لمستها في بناء الرواية تحوي (من ضمن ما تحوي): البطل الرئيس الذي يصارع عوامل داخلية وخارجية، تنضم إليه شخصيات ثانوية بعضها مركزي (مثل كاثرين زوجته) وبعضها هامشي رغم حضورها الطاغي (مثل مليكة والشيخ يحيى والشيخ صابر وأخت كاثرين ورفاق المأمور). إنه الغَزْل بمعناه التقليدي: خيوط تتداخل فيما بينها لتستند على الخيط المركزي الكبير، لتصنع جميعها سجادة ملونة غنية، تمتدّ على عوالم متفرقة، بعيدة، متنافرة (لدرجة الجمع بين القاهرة ودبلن في إيرلندة)، لتنجح في الموالفة بين هذه العوالم بجدارة.
إنه الغَزْل بمعناه التقليدي: خيوط تتداخل فيما بينها لتستند على الخيط المركزي الكبير
الرواية غنية بتفاصيلها وبهاء طاهر كاتب حذق (“خالتي صفية والدير“، “لم أعرف أنّ الطواويس تطير“)، يمارس حرفته الكتابية بنفس طويل واهتمام مرئي ومحسوس بالتفاصيل الصغيرة التي تبني العوالم لدى الشخصيات وتغنيها. إنها فراسة المتأمل والباحث في ذات الوقت، وهكذا نرى طاهر يعود إلى كتب التاريخ ويقرأها ويستفيد منها (معلوماتيًا واستيحاءً) ويبني عليها مُتخيّله حول تلك الحقبة التاريخية التي يتحدث عنها، والتي تلت فشل الثورة العرابية في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي.
وليس أجمل من واحة منعزلة في وسط الصحراء كي تكون “ميكروكوزموس” متكاملاً يستطيع من خلاله طاهر أن يبرز مكامن الضعف والقوة في بني البشر، مواد كتاباته المتميزة. فالانغلاق الذي تعيش فيه واحة سيوة، بشقيها الغربي والشرقي، يبعث المأمور محمود على التفكير مليًا –في معظم صفحات الرواية- بحياته وقراراته وبحياة المصريين وقراراتهم. الصحراء الممتدة تستفزّ الذهن، رغم أنها قتلت علاقته الحميمية مع زوجته.
رغم ذلك، لا أظنّ أنّ الرواية كانت تحتمل قصة حب مبتورة، غير واضحة المعالم، بين محمود وأخت زوجته فيونا التي تأتي إلى الواحة لتموت فيها. أعتقد أنّ هذه القصة أضرّت بنهاية بلورة قصة محمود (الشخصية الرئيسة) بصفاء وجلاء من دون الحاجة إلى “أنتيغونست” جديد.
رواية “واحة الغروب” ممتعة، شيقة، مكتوبة باحتراف كبير. لم أقرأ معظم الروايات التي وصلت وقتها إلى اللائحة القصيرة لجائزة الرواية العربية ونافست “واحة الغروب”، ولكن من خلال قراءتي لهذه الرواية أعتقد أنها جديرة بالجائزة، وفق معطياتها المستقلة.