اِنهيار الكتاب الأخضر فوق رأس مؤلّفه/ راضي د. شحادة
قراءة في “الكتاب الأخضر” الشهير: المرأة للبيت والإحاضة، المسرح ترف زائد، الاشتراكية تعني 42 سنة من الغبن، الدين سيحل مكان كل نظام قومي ولذلك الشريعة هي الدستور الأفضل وليس دساتير البشر! • الزّحف الأخضر على حقول من الألغام
اِنهيار الكتاب الأخضر فوق رأس مؤلّفه/ راضي د. شحادة
|راضي د. شحادة|
تعميم الأقاويل ونقصان في شيطان التفاصيل
مشكلة الكتاب الأخضر الذي ألفه معمر القذافي في أنه يطرح أفكارا مجزّأة تترك الشيطان الذي يكمن في التفاصيل خارجًا عن سلطتها، وفي أنه يطرح أفكارا تعميمية بهدف ترك إمكانية تنفيذها على هوى سيّدها ومؤلفها. فالقذافي يحاول أن يخلق مصطلحات جديدة ارتجالية ولكنها غير ناضجة، وتبدو مراهقة في طرحها المجزوء والتعميمي؛ فهو مثلا يقرّر أنّ الدولة تعيش لعبة تبادل أدوار بين الدولة الدينية والدولة القومية، فعندما تضعف الدولة القومية تحتلّ مكانها الدولة الدينية وبالعكس.
إنه يفترض ما يفترضه بناءً على نماذج تاريخية من العالم الإسلامي والعالم الاشتراكي والعالم الرأسمالي والعالم إبّان حقبة الإقطاع والممالك. فثورة عبد الناصر الاشتراكية مثلا كانت قومية وعندما خسرت الرهان جاءت مكانها الدولة الدينية الإسلامية، وعندما انهارت الدولة الدينية الكنسية في أوروبا جاءت مكانها الثورة القومية، وعندما انهارت الثورة الدينية القيصرية في شرق أوروبا جاءت بدلها الثورة الاشتراكية، وعندما فشلت هذه عدنا إلى الثورات القومية والدينية.. الخ. هذه المعادلة غير ثابتة وغير دقيقة وتبدو كالفكر المرتجل الذي لا يستند إلى حقائق علمية بقدر ما يستند إلى الديماغوغية. فمع تقدّم العصر وجدلية التاريخ وسرعته في التقدم العلمي والتكنولوجي، جاءت فكرة المطالبة بدولة توفّر العدالة الاجتماعية بعد أن عجزت الدولة الرأسمالية عن تحقيق هذه العدالة، وفي زمان كزماننا أصبحت أدوات العصر كونية بحيث يستعملها كلّ سكان الكرة الأرضية. إذًا، فنظم الحكم ليست كدورة المياه في الطبيعة، بل تتطوّر بناءً على تحرّك الإنسان التاريخي والوعيي والأدوات المتطورة التي تعبّر عن تطوّره كلما تقدّم الزمن به نحو الأمام.
الديمقراطية هي الديمقراطية مهما تلاعبنا في الألفاظ والمصطلحات.
يدّعي القذافي أنّ الديمقراطية الغربية هي ديكتاتورية لأنه لو كانت نتيجة الانتخابات 51% لفئة معينة فإنّ هذا يخوّلها بأن تحكم بشكل ديكتاتوري وقسّري باقي الـ 49 %، وهو لا يشير إلى أنّ هذه الانتخابات هي لفترة قصيرة نسبيًا ومحدودة بحيث يستطيع الطرف الحاكم أن يثبت للشعب أنّ الخطة التي وضعها في برنامجه الانتخابيّ سيحاول أن ينفّذها كما وعد منتخبيه بها، ويستطيع أن ينجز أكثر كي يقنع الشعب بانتخابه بنسبة أكبر في الانتخابات القادمة، وهي غالبًا ما تكون مشروطة بأن يُنتخب لدورتين انتخابيتين فقط، ونفس الشيء ينطبق على الـ 49% الخاسرين: فهم في فترة حكم الرابح يستطيعون أن يحضّروا للمرة القادمة من الانتخابات كي يكسبوا المعركة، وفي هذا النوع من التنافس ايجابية تشكّل تحفيزا من اجل انجاز المصالح الكبرى للشعب، وهذه وسيلة أكثر نجاعة من أشكال نُظُم الحكم الأخرى التي تجعل حاكمي الشعب يجلسون على كراسي السلطة ويتوارثونها بشكل ديكتاتوري مع ابنائهم وأتباعهم، وهو ما ينطبق على القذافي ايضا.
عندما يطرح القذافي أنّ السلطة يجب ان تكون بالكامل للشعب من دون نيابة او تمثيل، فهذه الفرضية تفترض خطأً بأن الشعب هو كتلة واحدة، بينما تستطيع هذه الكتلة الكبيرة ان تخوِّل مهمة تنفيذ وادارة مهامها بشكل ديمقراطي لممثلين لها في السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، على ان تكون هذه المؤسسات خاضغة للرقابة والتغيير حسب برنامج واضح.
كما يدّعي القذافي ان سلطة الشعب لا تتجزّأ وهذا تعميم ديماغوغي ايضًا؛ فالمسألة ليست تجزئة الشعب بل ادارة شؤونه بناء على قوانين ودستور ومعطيات واضحة من خلال ممثليه في السلطة، وهم أولا وأخيرًا يجب ان لا يكونوا ممثلين دائمين بل متغيرين ومراقَبين.
إنّ اعتماد الفكرة على تعميم يقول: “يتم حكم الشعب لنفسه بواسطة المؤتمرات الشعبية الأساسية، وبواسطة المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، ثم بواسطة مؤتمر الشعب العام او المؤتمر القومي، الذي تلتقي فيه امانات المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية”، هو مجرد تعميم، فيه نوع من تبديل أسماء بأسماء، فهذا لا يختلف عن المجالس والبلديات والبرلمانات والحكومات في النظم الديمقراطية المتعارف عليها من تجارب التاريخ الطويل لكثير من شعوب الكرة الأرضية. ان طرح هذه الديماغوغية كوسيلة وحيدة للديمقراطية الشعبية والعدالة هي فكرة غير واضحة وضبابية، وعند التنفيذ -فقد مرّ عليها اكثر من 42 سنة- يظهر الانفصام الواضح بين المكتوب والمنَفَّذ على ارض الواقع. إنّ ما يطرحه هو تبديل مرادفات بمرادفات أخرى: الجلسات والنقاشات واللجان الشعبية = الدعاية الانتخابية والمجالس والبلديات.
“لا يمكن للدين ان يكون دستور الشعب وشريعته وعُرفه”
“الشريعة الطبيعية للمجتمع هي الدين وليس الدستور الذي يتغيّر حسب مزاج الحاكم، لذلك فيجب ان يكون البديل لدستور النظم الديمقراطية هو شريعة الدين والعرف. ان الشرائع اللادينية اللاعرفية هي ابتداع من انسان ضد انسان آخر، وهي بالتالي باطلة لأنها فاقدة للمصدر الطبيعي الذي هو العرف والدين”. هذا تعميم خطير واعطاء الحاكم حرية التحكم بسلطته بواسطة الغيبيبات ونواميس دينية، فأنت تستطيع ان تأخذ من الدين قوانين مثل: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ أو لا تغتصب، ولكنك لا تستطيع ان تفرض على المواطن مقولة أنّ “لا اله الا الله وان محمدا رسول الله”. فللمواطن كامل الحرية ان يعبد ما يشاء ويلحد بمن يشاء، وليس من المنطق ان يخرج متدينو تلك الدول في مظاهرة يرفعون فيها شعار: “خيبر خيبر يا يهود جيش محمّد سوف يعود” او “الاسلام هو الحل”، و”الموت لليهود والكفار”، لأنها بالمقابل ستجد حجّة قوية عند اليهود والصهاينة بمواجهتها بلاساميتها فيرفعون شعارهم كوسيلة للدفاع عن ساميتهم بالقول: “الموت للعرب وللمسلمين”.
إنّ دولا علمانية مثل امريكا وفرنسا وبريطانيا وسويسرا وغيرها لا نستطيع ان نطلق عليها اسم دول دينية او نصرانية او مسيحية، فالمواطن هناك هو ابن الدولة وليس ابن الدين، وعلاقات المواطنين فيما بينهم تعتبر بين فرنسي وفرنسي وليس بين مسيحي وآخر، ودستور الولايات المتحدة يمنع تدريس الدين في المدارس، بل يجب ان يكون مقتصرا على البيت ودور العبادة، ولهذا ترقى الدولة إلى علاقات بين مواطنيها من منطلق وطني قومي، فهي دول تحوي في داخلها جميع الأديان والأجناس من البشر، ولكنهم متساوون امام دستور وقانون المواطنة. لا يمكن ان ندّعي بأننا نختلف عنهم لأننا اكثرية اسلامية أو لأن “حضارتنا” اسلامية، فهذا شيء درج القول به عبر التاريخ عندما كان الحكم للدين ايام الخلافات الاسلامية وحكم الكنيسة ايام محاكم التفتيش.
إنّ إيمان القذافي بوجوده في امبراطورية الدين التي حلّت مكان امبراطورية القومية جعله بكل حرّية يطلب من المغنية اللبنانية جوليا بطرس والمغنية ماجدة الرومي عندما غنّتا في ليبيا ان تتركا دينهما المسيحي وأن تُسلِما. هل هذا هو طموح ثورته الاشتراكية الجماهيرية الشعبية الخضراء المجيدة؟
صحّية المجتمع القبلي
هناك انفصام كامل بين الفكر والممارسة؛ فالحاكم بأمره أصبح في هذه النظرية “العادلة” “الاشتراكية” نائب الله على الأرض، وهو الذي يطالب بالولاء التام لسلطة الشعب، بينما في الممارسة يصبح نموذجا جليّا لسلطة الديكتاتور الفرد على الشعب
إنّ قبول المجتمع الأفريقي وبضمنه الليبي كمجتمع قبلي ايجابي كأمر واقع لأنه يعكس وحدة العائلة وتلاحمها، ويقوّي الشعور لدى الأفراد والجماعات بالعيش بأمان في كنف العائلية والقبيلة، هو ايضا جزء من التعميم- فالقبيلة بالرغم من وجود بعض حسناتها الاجتماعية، الا اننا لا نستطيع ان نبني كياننا العصري على مؤسسة لم تتطور منذ العصر الجاهلي، فالروابط القبلية المغلقة قد تقود ايضا الى تصرفات وعادات متخلّفة ايضا والى حكم قمعي ومخاتيري بحيث تُفرَض من خلاله مفاهيم يظنّها القائمون عليها بأنها صيانة للعرض والشرف ودفاعا عن سلام القبيلة، مثل عادات ختان البنات والقتل على خلفية شرف العائلة، والتنافس القبلي على الزعامة، والزواج المبكّر والزواج من اكثر من زوجة، وزواج الأقارب للحفاظ على نقاء القبيلة، وتقييد الفنون والابداعات بحجة انها بدعة وكفر وبخاصة انّ ما يطلبه القذافي في كتابه الأخضر ان يكون الدين هو شريعة وعرف وقومية الدولة. انه يظنّ انّ قومية الدين ربما تصبح بديلا مستقبليا للقبلية، ولكن تطوّر المجتمع المدني في مدن ليبيا تطوّر تدريجيا نحو المواطنة المتمدّنة بحكم قانون حتمية التاريخ والزمن، بينما بقي صاحب كتاب الثورة متمسّكا بكرسيه بغطرسة وبفوقية ما جعل الجماهير في زمن الثورات العربية الحقيقية تتقدّم عليه بخطوات، فتقلبه عن كرسيّه المهزوز.
التطور المنطقي للتاريخ هو الانتقال من القبلية ونظم الاقطاع الى النظم المدنية والعصرية.
القذافي استغل وقَوّى النّزعة القبلية مدّعيا انها ظاهرة ايجابية، ولكنه في الواقع استغلها لفرض سياسة فرّق تسد. الثورة الحقيقية المؤسَّسَة على فكر دقيق وغير تعميمي تسعى للتغيير الجذري، واهم ما فيها تحويل المجتمع القبلي الى مجتمع مدني عصري، واما هو فقد فَعل العكس. لقد استفاد من المجتمع البدوي القبلي كي يبقى هو الحاكم بأمره وخليفة الله على الأرض.
لم ترتقِ طروحاته التعميمية الى مستوى التنفيذ. ما نادى به من اشتراكية في كتابه الأخضر لم يطبّقها على الأرض لأنه يرى القذى في أعين الآخرين ولا يرى الخشبة التي في عينيه، فهو يفرض رأيه على الجميع بشكل منزل وديكتاتوري، فالعدالة شيء والواقع شيء آخر.
في بلد كَليبيا، دولة زراعية ونفطية من الدرجة الأولى، غنية بمواردها المتدفقة وبمساحاتها الشاسعة، والقليلة بعدد سكانها، وصلت البطالة فيها إلى 20%، ومَن هم تحت خط الفقر إلى 40%، لا يستطيع الادّعاء بأن الحصار الذي فرضه الغرب عليه هو السبب، فالمساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية والكميات الكبيرة من النفط يمكن ان تساعده على الاكتفاء الذاتي، فإذا كانت المقاطعة آتية من الولايات المتحدة فهو سيلقى كل الترحاب عندما يتعامل مع الصين التي لم تقصّر في نيّتها بأن تتعامل برحابة صدر مع القارة الأفريقية وبضمنها ليبيا، حتى وان كان ذلك نابعا من مصلحة اقتصادية.
هناك انفصام كامل بين الفكر والممارسة؛ فالحاكم بأمره أصبح في هذه النظرية “العادلة” “الاشتراكية” نائب الله على الأرض، وهو الذي يطالب بالولاء التام لسلطة الشعب، بينما في الممارسة يصبح نموذجا جليّا لسلطة الديكتاتور الفرد على الشعب. لقد جيّر قانونه الخاص كي يجعله دستور الفرد من اجل تأمين ديمومة وبقاء القائد الى الأبد على كرسي العرش. الم يتعلّم العقيد المسؤول عن الدولة، ما حدث لامبراطورية الاتحاد السوفييتي بسبب انفصامية النظري عن العملي؟
اشتراكية وعدالة في تقسيم الانتاج على الشعب
سبق وأن كُتِبت مجلّدات وتنظيرات في هذا المجال من قِبَل جهابذة الفكر الاشتراكي والشيوعي الماركسي في جميع انحاء العالم، ولكي يتخطّى القذّافي كل ذلك فيدّعي انّ ما يطالب به هو نظام مختلف، جعله يرتجل عبارات لا علاقة لها بالتنظير ولم تطرح جديدا على ما كان وما جُرِّب، بل هو فقط بدّل مصطلحات بمصطلحات مرادفة لها، وما اضافه من عناوين عامة ظهر بشكل جليّ وكأنما هو يطبّق المثل العامي: “جاء ليكحّلها فعماها”. لقد قسّم المنشأة الصناعية الى ثلاثة اقسام: مواد الانتاج، آلات المصنع، والعمال. ويقترح ان يُقسَّم انتاج المصنع على ثلاث حصص بالتساوي.
في الفترة الأولى من الثورة الاشتراكية السوفييتية اقترح اصحاب الثورة ان تُبنى الاشتراكية في البداية على أن يُقدِّم المواطن كل ما يمكنه من طاقة مقابل ان يأخذ فقط بقدر حاجته من المنتوج، اي ان يعطي اكثر مما يأخذ الى حين تتغيّر المعادلة ويصبح المنتوج كافيا لتقسيمه بشكل افضل على المواطنين. وفي الفترة التي عانت ليبيا الحصار الغربي كان لا بد من الاعتراف بأنه لا يمكن انتهاج المعادلة التي طرحها الكتاب الأخضر. اذن فقضية التساوي بين الحصص الثلاث غير ثابتة. وهذه القاعدة الثلاثية اقترَحَها في كتابه بما يخصّ العملية الانتاجية الزراعية وقسّمها أيضًا إلى: إنتاج بفعل الأرض، وانتاج بفعل الزارع، وانتاج بفعل الآلة، وما قالته الاشتراكية الماركسية اوضح واعدل من ذلك بكثير، فنظرياً كان الاقتراح المنطقي انه كلما زاد الاعتماد على الآلة سريعة الانتاج زاد الانتاج، وزاد التوزيع على الشعب، فيرتفع مستواه المعيشي ويقل مجهوده في ساعات العمل، وهكذا تستمر العملية العداليّة على هذا النحو الى حين الوصول الى الوضع النموذجي الأرقى في النظرية، الا وهو المشاع او الشيوعية. يقول القذافي في كتابه: “ان غاية المجتمع الاشتراكي الجديد تكوين مجتمع سعيد لأنه حرّ، وهذا لا يتحقق الا باشباع الحاجات المادية والمعنوية للانسان، وذلك بتحرير هذه الحاجات من سيطرة الغير وتحكّمه فيها”. السؤال المطروح بعد هذا الاقتباس: اين كل ذلك بعد 42 سنة من انطلاق “الثورة” الليبية القذافية؟ هل التغت القبائلية؟ هل تحقّقت الحرية؟ هل الاعلام الليبي الذي واكبناه طوال مدّة حكم القذافي انتج حرية الرأي والرأي الآخر وفنون غنائية ومسرحية وأدبية وميديا متحررة أكثر حرفية مثلا ممّا صنعته قنوات الجزيرة الفضائية في فترة عشر سنوات؟ هل كان حقا مواكبا لثورات العصر وسرعته في الميديا العجيبة لعصر الانترنت والفضائيات وعلوم الفضاء والطب والثورة الرقمية والجينية، ام انّ تقوقعه القبلي على حساب شعبه بقي على ما كان عليه؟ وهل يحقّ له بعد كل هذا ان يتّهم الاستعمار بأنه هو السبب؟
الحاجة ام الاختراع والثروة في خدمة الثورة
يحدد القذافي “بأن ثروة المجتمع عبارة عن مَخزن تموين يوزَّع على مجموعة من الناس بقدر حاجتهم. ان هدف المجتمع الاشتراكي هو سعادة الانسان التي لا تكون الا في ظل الحرية المادية والمعنوية”. قد لا نصل الى هذا الهدف بعد عشر سنوات من الثورة، او عشرين سنة.. ولكن هل سيستغرق هذا الافتراض 42 سنة، فلا زلنا لا نرى الا تنظيرا وديماغوغية والقليل من الفعل؟ إنّ “الحاجة” في النهاية هي كلمة نسبية تتراوح بداية بين ثلاث وجبات من الطعام في اليوم والحفاظ على صحة المواطنين وتأمين ملبسهم من جهة، ومن جهة اخرى، بين العيش الرغد والرفاهية والحاجات العصرية التي اصبحت تعدّ من الضرورات وليس الكماليات مثل الحصول على ادوات التكنولوجيا الحديثة المُسهّلة للحياة والتي تزيد من سعادة ووعي ورفاهية البشر، من سيارات وأدوات منزلية حديثة وتكنولوجيا وطب..الخ، والسؤال الثاني هو: اذا وفّرنا للمواطن ما يحتاجه فكيف سنستغل ما تبقّى من انتاج كبير لدى الدولة وكيف نصرفه ونستثمره في العلوم والاختراعات والطب وبناء المؤسسات والاعلام الحر.. الخ؟ اين كل ذلك في ليبيا بعد 42 سنة من ثورته؟ هل وصلت الى الدينامية التي وصلت اليها دولة لقيطة قامت زورًا وبهتانا مكان فلسطين الا وهي اسرائيل التي بنت مؤسساتها وقوّتها وسلاحها النووي واستدرجت اضخم العقول العلمية اليها كي تستفيد من خبراتها؟ هل استطاعت الثورة الليبية ان تناطح هذا الكيان ببرنامج عملي يطمئننا بأنها ثورة مختلفة عمّا تنتهجه سائر النظم العربية التي لا تدّعي انها ثورية؟ انه بدلا من الوقوف إلى جانب الفلسطينيين بشكل ثوري حقيقي فقد طردهم من ليبيا الى حدود ليبيا وقال لهم بكثير من المزايدة “الثورية” التنصّلية: “اذا كنتم ثوريين وشجعانًا فاذهبوا وقاتلوا اسرائيل بدلا من ان تعيشوا بدلال هنا تحت حمايتي ايها المتقاعسون”.
المرأة مخلوق بيتي وجهاز للتناسل ولتربية النشء
يذكر القذّافي في الكتاب الأخضر مقولة مجتزأه تبدو لأول وهلة انها عادلة ولصالح المرأة، ولكنها مرة أخرى مقولة منقوصة وحمّالة أوجه وَوَجْهَنات، والحكم القاطع على المرأة بهذا الشكل يجعلنا نلجأ الى البحث عن التفاصيل الناقصة والشياطين الكامنة في تلك التفاصيل فهو يقول: “لأن المرأة تحيض وتلد وترضع وتربّي نسلها، فعلينا ان نعطيها حقّها الكامل بممارسة هذه المهام كما يجب، دون ان ندخلها الى عالم الأجرة والعمل خارج المنزل، فهذا قد يزيد العبء عليها”. انه يدّعي انّه اذا سمحنا للمرأة بممارسة هذه المهام فإنها ستقصّر في المهام الطبيعية الملقاة عليها والمذكورة أعلاه. الاستنتاج المُستَجد عن ذلك هو ان المهام الأخرى سيمارسها الرجل فقط وليس من حقّ المرأة ممارستها. هذه المقولة قد تكون صحيحة في مجتمع بدائي يفتقر الى مكوّنات عصر السرعة وأدواته وطبّه ومؤسساته وعلومه التي تسهّل على المرأة القيام بمهامها، وما يفيض من وقتها تستطيع ان تخدم به المجتمع بدلا من حصرها في مهام محدّدة، فالمرأة اقوى من الرجل جسديا، ليس عضلاتيا، ولكنها اكثر تحملا وصبرا وقدرة على العطاء والانتاج، وكونها تحيض فهذه صفة ايجابية تجعل دمها متجددا وليس كما هو الحال لدى الرجل الذي لا يحيض. وأما كونها قادرة على الانجاب وتربية الأطفال والرضاعة فهذا يحتل مدّة زمنية محددة من حياتها، فنحن لسنا في عصر الاقطاع حيث كانت الحاجة المادية تتطلب الاكثار من الانجاب كي يساهم الأبناء في عملية الانتاج، اي انّ كثرتهم عملية جوهرية، بينما في عصرنا يكتفي الزوج والزوجة بانجاب اثنين او ثلاثة من الأبناء، وعندما يكبرون ويستقلون عن الأبوين تستطيع الأم التي قد تكون توقّفت عن الانجاب وأرضعتهم من حليبها الطبيعي وقامت بمهمّة تربيتهم هي وزوجها على احسن وجه، ان تكرّس الفترة المتبقية من حياتها، وتكون قد وصلت من عمرها الى مرحلة نضوج فكري أفضل والى تجرية حياتية متقدّمة، ان تمارس مهام كثيرة تخدم من خلالها مجتمعها وبيتها ووطنها، وتستطيع كغيرها من الرجال ان تصبح رئيسة دولة او نائب برلمان او مديرة مدرسة او قائدة طائرة او قاضية..الخ. أما الكتاب الأخضر فيناقض فيه القذافي نفسه بين ما يكتب نظريا وما يطبّق على ارض الواقع، فحُرّاسه الشخصيون مثلا مكوّنون من فتيات. هل هؤلاء قيان وجوارٍ يخدمن السيد ولا يحق لهن ممارسة أمومتهن وتطبيق حقّهن الذي طالب لهن به سيادة العقيد؟ ام انّه يجب فصلهن من عملهن عندما يقرّر التنازل عن خدماتهن بحجّة انه يريد ان يعطيهن حقّهن الكامل بالإحاضة والانجاب والإرضاع وتربية النسل؟ ام انّهن يشبهنَ “هبة النيل”، بحيث كان المصريون القدماء يختارون أجمل فتياتهن ويربطوهنّ بحجر ثقيل ويرموهنّ في النيل كهبة للنيل العظيم المقدّس كي يكون راضيا عنهم، فيهدأ غضبه ولا يفيض فيدمّر كل شيء في طريقه.
الفنون والرياضة المُخَصّصة للفرجة وليس من اجل الممارسة الجماعية، هي ترف زائد
يقول القذافي في كتابه: “الشعوب البدوية لا تهتم بالمسرح والعروض لأنها شعوب كادحة وجادة في حياتها للغاية، فهي صانعة الحياة الجادة، ولهذا فهي تسخر من التمثيل. والجماعات البدوية لا تتفرج على لاعبين بل تمارس الأفراح او الألعاب بصورة جماعية.”
إذا كانت الشعوب الأفريقية وبضمنها الشعب الليبي مجتمعات لا زالت الى الآن مجتمعات قبلية، فهل تَقَوْقُعها في مسألة الاستهتار بالفنون والمسرح هو دليل قاطع على ان تصرّفها هو الصحيح وتصرّف غيرها خاطئ؟ هل هذا النموذج من التصرف أدّى إلى إبداعات واختراعات خلاّقة بديلة وأكثر عصرية وحداثة من الذين يشاهدون كرة القدم والمسرحيات ويمارسون الفنون المختلفة التي كلما تطوّرت عبّرت عن كمية الحرية والانفتاح والتطور والذّائقة الفنية والرقي الذي يتمتعون به ووصلوا اليه؟ هل القبائل التي تسخر من الفنون والمسرح والرياضة المشهدية هي صانعة الحياة الجادة، بينما الشعوب غير القبلية هي صانعة حياة الكسل وحياة المسخرة والفَلَتان الرّفاهي والترفيهي والأخلاقي؟ اذا كان الأمر كذلك فمن المفروض ان تكون تلك الشعوب هي المتخلفة وشعوب القبائل هي الأكثر تطورا واختراعا وابداعا وتقدما. اذا كان الأمر يخص نقطة الانطلاق التي اتخذها القذافي مختبرا لثورته الا وهي ليبيا، فهل ليبيا متطورة اكثر من كل الدول التي لديها فن ومسرح واختراعات وحرية وديمقراطية وحرّية أديان؟
(مسرحي وكاتب فلسطيني)