لم يفت اليهودَ الأوانُ.. فهل فاتنا؟/ سليم البيك
|سليم البيك| انتهى الفيلم الطويل وقد زادت مدته عن الثلا […]
لم يفت اليهودَ الأوانُ.. فهل فاتنا؟/ سليم البيك
|سليم البيك|
انتهى الفيلم الطويل وقد زادت مدته عن الثلاث ساعات. الآن ماذا؟ أنتظر أن أشكّل موقفاً منه؟ في الفيلم مسحات صهيونية خافتة، لكن الأمر واضح: أحببت الفيلم كثيراً، وكفى.
الصباح الأول بعد استسلام النازية. اللقطات الأخيرة لفيلم Schindler’s List. يقول أحد الجنود السوفييت للأكثر من ألفٍ من الناجين اليهود مجيباً عن سؤالهم أين يتوجّهون الآن، بأنهم: أحرار، فاذهبوا حيثما تشاؤون، لكن ليس شرقاً، فالشعوب تكرهكم هناك، ولو كنت مكانكم، لما ذهبت غرباً. وكان عليّ أن أفهم: اذهبوا إلى فلسطين وأقيموا دولتكم التي تحميكم، على أرضكم التوراتية! ثم نسمع أغنية شعبية إسرائيلية هي “قُدس الله” والتي تحكي عن “شوق اليهود لعودتهم إلى القدس”، والممتد لأكثر من عشرين قرناً!
ثم حقاً أتأكد بأني لابدّ أن أفهم: اذهبوا إلى فلسطين.
هو التبرير اللاأخلاقي في الفيلم، وإن أتى بالتلميح لا التصريح، لحياة آمنة في فلسطين، ليهود تعرّضوا لممارسات لاأخلاقية في أوروبا بعيداً عن فلسطين وأهلها.
لن يكون هنالك شك في حتمية التعاطف الإنساني قبل مشاهدة الفيلم وأثناءها وبعدها، مع اليهود لما تعرّضوا له من فظاعات ارتكبتها النازية، ولن أكرر ما أوردتُه على هذه الصفحات قبل مدة في مقال “عن معسكرات الاعتقال وفيلمين وزيارة” وأن الفلسطيني هو الأجدر برفض بل وفضح ومواجهة كل الفظاعات التي تمارس ضد الإنسانية، وتحديداً ما مورس ضد اليهود (وغيرهم كثر) من قِبل النازية، وخصوصاً لأنهم يهود ولأننا فلسطينيون ولأن الصهيونية “المتحدّثة باسمهم” (!) فظّعت بنا بعد ذلك.
يحكي الفيلم عن أوسكار شيندلر، الكاثوليكي الألماني عضو الحزب النازي، الذي أنقذ 1200 يهودياً من معسكرَي اعتقال كراكو وأوشفيتز، من خلال تشغيلهم في مصنعه وبالتالي حمايتهم من وحشية العسكر النازي. الفيلم والشهادات الحية خارج إطار الفيلم للناجين أنفسهم تظهره كمخلّص، كإله كما قيل في إحدى الشهادات، ومصنعه كجنة كما قيل في أحد مشاهد الفيلم. لا جدال بصحّة ذلك في حينه كون شيندلر وُضع في المقارنة مقابل العسكر النازي، وكون الخيار كان إما كعامل في المصنع (12 ساعة متواصلة من الإنهاك، يومياً، لكنهم لا يُقتلون على الأقل، كما قال أحدهم) وإما كأسير معسكر الإعتقال حيث يكون الموت هو الصديق الأكثر إخلاصاً لأنه الوحيد الذي سيخلصك من عذاباته، كما قال آخر.
لكن شيندلر بعقلية الرأسمالي الذي كوّن ثروة بزمن قياسي من خلال استغلال الفقر واليأس والحاجة الملحة لليهود للخروج من المعسكر، والرأسمالي في النهاية يبقى أقل وحشية من الفاشي كونه يحتاج العامل، وهذا ما فكّر به العمال اليهود في الفيلم، حاولوا تعزية أنفسهم بأنهم لن يُقتلوا لأن شيندلر يحتاجهم كونهم عَمالة رخيصة، ولأن له صلات قوية بضباط نازيين ينال من خلالهم، بالمال والنساء، مراده. فعنده لا يُقتلون ولا يُعذّبون ولا يُجوّعون.
فليكن. فشيندلر، الذي أفلس وفشل في مشاريعه الصناعية بعد انهيار النازية لسبب أظنه عدم توفر عمّال بظروف اليهودي في معسكر الاعتقال فيستغل حاجته ويكوّن من خلالها ثروة، أنقذ في النهاية 1200 إنساناً من معسكرات اعتقال قد تقودهم إلى هلاك محتّم.
الفيلم غني بالتفاصيل والأحداث، ومنقول عن شهادات حيّة، ومصنوع بفنية عالية يتمتع بها المخرج اليهودي/الصهيوني/الأميركي ستيفن سبيلبرغ، ويمتد لثلاث ساعات تقريباً، ولو كانت أربعاً أو خمساً لما فتر انشدادي إليه. وتستحق تفاصيلُه جميعها الكتابة عنها، لكني، هنا، أردت لفت الانتباه إلى “التلطيش” على فلسطين كوطن قومي آمن لليهود بعد ما عانوه في الحرب العالمية الثانية التي انتهت قبل قيام دولة إسرائيل بثلاث سنوات، وإلى ثنائية الرأسمالي/النازي وأن شيندلر لم يكن طيباً (إلا بقدر ما قورن بالنازيين) بل مستغلاً لأحوال اليهود في حينه، وكون المسألة نسبية هنا أيضاً، فشيندلر كان حقاً مخلّصاً لليهود هناك، وكان، آخذين كل الأمور بعين الاعتبار، إذن، طيّباً.
***
انتهى الفيلم الطويل وكان لابدّ من مشاهدة الـ Bonus في الـ DVD المرفق، ويحوي شهادات حيّة لبعض من كانت أسماؤهم على لائحة شيندلر التي طالب بها للعمل في مصنعه، فنجوا من المحرقة. كما يحوي فيلماً قصيراً عن “مؤسسة شواه (المحرقة)”.
أثناء تصوير الفيلم الذي أنتج عام 1993، خطر للمخرج سبيلبيرغ فكرة إنشاء مؤسسة توثّق للمحرقة ومعسكرات الاعتقال. أول خطوات هذه المؤسسة المنظمة والضخمة والممولة جيداً كانت تسجيل الشهادات عبر أشرطة فيديو، وقد وصلت إلى 52000 شهادة من 56 دولة وبـ 32 لغة، لرواية القصص الفردية لكلٍ من الناجين قبل فوات الأوان كما قال سبيلبيرغ، ثم بعد ذلك تقوم المؤسسة على أرشفة وتصنيف الشهادات، ثم تتجه المؤسسة/المعهد إلى التثقيف وتعميم ما تنتجه من أفلام وكتب ومواد إعلامية وبرامج تفاعلية، وتوزيعها على المدارس والجامعات والمتاحف في كثير من الدول، وقد أنشؤوا موقعهم الخاص على الإنترنت ليقدّم كافة التسهيلات المجانية للتثقيف بالمحرقة.
***
أنا لا أعرف مؤسسة فلسطينية واحدة تقوم على توثيق شهادات حية لمن عايشوا النكبة، أتكلم عن مؤسسة منظَّمة. مواقع الإنترنت والمبادرات الفردية لا تكفي، ولا حتى المؤسسات الصغيرة المحلية. قد سجّلتُ صوتياً ما يزيد عن الخمس ساعات مع جدي قبل رحيله بعام، حكى عن النكبة وما قبلها وما لحقها من لجوء وتشريد. جدي رحل قبل عامين، وندمتُ أني لم أطل أكثر في التسجيل معه، وجيل النكبة كله يرحل ويفلت منّا يوماً بيوم دون أن نشعر.
بعد سنوات قليلة جداً لن نجد فلسطينياً واحداً عاصر النكبة ويخبر عنها بصيغة المتكلّم، بل سنتحدث نحن عنهم وعنها بصيغة الغائب، قريباً جداً لن يكون هنالك من يخبر عن مشاهدات شخصية حية لأحداث النكبة، قريباً جداً سنتحدّث جميعنا عن النكبة بكلام منقول. سنبتعد أكثر عن روايتنا الفردية والجمعية.
هل لم يفتنا الأوان بعد؟