حداثة عربية لما بعد «بعد الحداثة»: فترة فائقة أم رخائية؟
المثقفون في الغرب منهمكون في البحث عن تسمية مناسبة للعصر الحالي
حداثة عربية لما بعد «بعد الحداثة»: فترة فائقة أم رخائية؟
|محمد الحداد|
المثقفون في الغرب منهمكون في البحث عن تسمية مناسبة للعصر الحالي، فهناك شعور بأنه عصر مختلف عن سابقه الذي أطلق عليه عصر «ما بعد الحداثة»، وكان قد شاع قبل ذلك بين المثقفين أنّ عصر الحداثة قد انتهى مع منتصف القرن العشرين. إذن، العالم تخطّى مرحلتين بعد الحداثة، بينما الخطاب العربي يواصل المجادلة عن الحداثة ويبحث في سبل الدخول فيها أو الالتحاق بها أو التخلص من ضغطها عليه.
الاختلاف في التحقيب (تقسيم العصور والمراحل التاريخية) قضية حاسمة، لأن سؤال المعاصرة يرتبط بتحديد العصر الذي نودّ معاصرته. الأغلبية من المفكرين الغربيين يعتبرون عصر الحداثة وعصر ما بعد الحداثة مختلفين اختلافاً جذرياً. عصر الحداثة هو عصر الإيمان بالغد المشرق الذي تصنعه العلوم والتقنيات، وهو الرفض العنيد للماضي بما فيه من ثقل التراث والعادات، وهو التوسع والامتداد باسم الكونية والعقل المطلق. وقد انتهى هذا العصر عندما ضعف الإيمان بالتطور الخطي للتاريخ وبقابلية العلوم والتقنيات أن تحلّ كل مشاكل البشر، وعندما نشأت ديانات أفقية لم تكن أقل استلاباً للإنسان من الأديان العمودية بما ابتكرته من أنظمة شمولية وإدارات كليانية. انتهت في عصر «ما بعد الحداثة» القناعات القوية لعصر الحداثة، وتم التحول من العصر الصناعي إلى عصر الخدمات والمعلومات، واستقرت تسمية «ما بعد الحداثة» عنواناً لعصر آخر أو مرحلة أخرى غير الحداثة.
الزمن العربي الراكد يغني عن عمليات التحقيب من الأصل، مكتفياً بالهوية والحضارة وسرديات الثوابت
العديد من المفكرين الغربيين يرى اليوم أن تحوّلاً آخر هو في صدد الحصول، وأن عصراً ثالثاً أو مرحلة ثالثة، يبحثان عن تسمية. يقترح البعض عبارة «عصر الرخاء»، اقتباساً من مصطلح كان قد أطلقه الاقتصادي الكندي جون كينيث غالبريث عنواناً لأحد كتبه عام 1958. وينبغي أن نفهم جيداً معنى هذا الطرح: ليس معناه أن الرخاء لم يكن موجوداً في العصور السابقة ولا أنّ كل رجال العصر الحالي ونسائه ينعمون بالرخاء، بل معناه أنّ الرخاء الذي كان في السابق حكراً على نخبة في المجتمع أصبح اليوم متاحاً أمام العدد الأكبر من سكان المعمورة، بسبب ظهور طبقة وسطى بين الأغنياء والمعدمين وتمدّد هذه الطبقة لتحتلّ قاعدة واسعة في كل مجتمع وتنتشر بفضل عولمة الاقتصاد الحديث في كل أقاليم العالم. وقد لا يظهر الأمر بوضوح في منطقة الشرق الأوسط حيث الطبقة الوسطى مرتبطة بالحِرف الصغيرة والوظائف الحكومية، بل قد تبدو الحركة عكسية بفعل سياسات الخصخصة وتراجع القطاع العام وتكاثر المؤسسات الأجنبية، لكنه يبرز أكثر جلاء في المركز الاقتصادي الجديد للعالم، أي آسيا. ففي الصين مثلاً، يقدر الاقتصاديون أنّ 300 مليون شخص قد دخلوا جنان الطبقة الوسطى في السنوات العشر الأخيرة فقط.
البعض الآخر يقترح عبارة «الحداثة الفائقة» ويرى أن الخاصية الأساسية للعصر الحالي ليست مواصلة سمات السابق بل تكثيفها بشكل يغيّر جذرياً وظائفها وآلياتها. العصر السابق قام على التواصل والاستهلاك والتحديث والفردانية والرأسمالية الخ، والعصر الحالي هو هذا كله يضاف إليه كلمة «الفائق» (hyper)، فهو عصر التواصل الفائق والاستهلاك الفائق والتحديث الفائق والفردانية الفائقة والرأسمالية الفائقة، الخ. هكذا يبشرنا الفيلسوف جيل لبوفوتسكي في كتابه «أزمنة الحداثة الفائقة» بأننا دخلنا منذ عشر سنوات هذا العصر «دون آمال مفرطة ودون تبعات كارثية أيضاً»، كما يقول. وحسب هذا الطرح، فإن عصر الحداثة الفائقة ليس تحريفاً للحداثة ولا تحقيقاً لها، ليس تعميقاً لمبادئها ولا خروجاً عنها، إنه ببساطة عصر مختلف عن سابقه، كما أنه مختلف عن عصر «ما بعد الحداثة» الذي كان نيتشوي النزعة شديد التشاؤم، بينما تخلصت «الحداثة الفائقة» من هيغل ونيتشه في الآن نفسه.
وإذا ما طرحت القضية في السياق العربي فإنها تنحرف تماماً عن وضعها الأصلي. فالزمن العربي الراكد يغني عن عمليات التحقيب من الأصل، مكتفياً بالهوية والحضارة وسرديات الثوابت. وإذا ما طرحت مقابلات فهي من نوع المطلق الذي «تجب» فيه كلّ حقبة جاهلية أخرى. والخطاب الحداثي العربي مضطر بدوره لتجاهل التقابل بين الحداثة وما بعد الحداثة والحداثة الفائقة أو مضطر للتخفيف منه، بالادعاء مثلاً أن كل مرحلة هي تعميق لسابقتها، وهذا ما لم يقله أغلب المنظرين الغربيين! والسبب أنّ الخطاب العربي قائم على ثنائية التراث والحداثة، فالتشكيك في الحداثة فضلاً عن التجرؤ بإعلان موتها يؤدي إلى تمجيد الماضي وتفعيل الحنين إليه، ومثل هذا لا يخطر على بال المفكر الغربي الذي يبحث عن «ما بعد» لا «ما قبل»، ولا يريد العودة إلى شيء مستنفد، ولا حتى البقاء في حالة واحدة ولو كانت الحداثة. فهذا الاختلاف في أفق التفكير، بين رؤية تتجه إلى الماضي ورؤية تتجه إلى المستقبل، هو الذي يجعل مقالات الحداثة العربية مضطرة للاحتفاظ بمرجعيات فلسفية وفكرية «قديمة» (القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)، بينما مقالات تمجيد الماضي تحتجّ وتنافح وتستشهد بآخر ما صدر من النظريات… منتزعة عن سياقها الخاص وموظفة في خدمة أغراض أخرى!
(عن “الحياة”)