نوال السعداوي خارج المنفى: عودة السجينة رقم 1536
القضية المرفوعة ضدها بسبب مسرحية «إله يقدم استقالته من اجتماع القمة»، أبعدتها ثلاث سنوات إلى المنفى. اليوم، عميدة النسوية العربية في القاهرة مجدّداً ــ امرأة ضدّ الجميع! ــ كأنّها لم تتركها. تكتب مذكّراتها الأميركيّة، وتستأنف «بناء المجتمع المدني»
نوال السعداوي خارج المنفى: عودة السجينة رقم 1536
|محمد شعير|
«أنا سليطة اللسان» هكذا قالت نوال السعداوي خلال المكالمة الهاتفية التي سبقت هذا الحوار. كانت غاضبة من إهمال الصحافة لخبر عودتها إلى مصر بعد ثلاث سنوات أمضتها في الولايات المتحدة، حيث درّست مادة «الإبداع والتمرد» في «جامعة أتلانتا». ورغم أن سنوات الغياب شهدت العديد من الدعاوى القضائية التي تطالب بسحب الجنسية منها وتكفيرها… إلا أنّ عميدة النسويّة العربيّة لم تتعب من السباحة عكس التيار. هي امرأة ضد الجميع، أو الجميع ضدها: السلطة والمثقفون، الإخوان المسلمون واليسار. تقف وحدها ولا تتردد في إعلان آرائها الصادمة.
لم يتسرب الخوف إليها رغم أنها موضوعة منذ زمن على قائمة الاغتيالات. عندما أُدرج اسمها في قوائم الاغتيالات، جرى تأمين حراسة لها. كان الحارس يأتيها في الصباح، يطرق الباب ليعرف أين ستذهب. تقول له: «انصرف. لن أخرج اليوم». وعندما ينصرف، تخرج لممارسة نشاطها. تضحك: «كنتُ أعرف أنّني لو قتلت، فسأُقتل على يد هذا الحارس لا على أيدي المتطرفين».
شيء واحد فقط تخشاه صاحبة «المرأة والجنس»: أن تتوقف عن الكتابة أو تضطر لتسير يوماً في الطريق السهل مع القطيع. هل تعمل إذاً على أساس قاعدة «خالف تعرف»؟ تجيب: «هذه نظرية الإبداع، نظرية الطريق الصعب. الآن يسهل أن تهاجم نظام الرئيس مبارك والتوريث. كل هؤلاء أبواق، وأنا لا أسير وراء الأبواق». حتى لو توافقت «آراء القطيع» مرةً مع آرائك؟ تجيب: «معروف عني أنّني ضد مبارك والتوريث، وضد أميركا وإسرائيل. كل آرائي معروفة. لكن نحن هنا في مصر نعبد «الميري»، نعبد صاحب السلطة، حتى ترسخت العبودية فينا».
العبودية كلمة رددتها نوال السعداوي (1930) طوال حديثها. هي تعزو كل مصائبنا إلى هذه الكلمة. بعد عودتها من رحلة الثلاث سنوات، لاحظت أنّ الشباب المصري أصبح منحني الظهر، مكسور الشخصية، يمشي في خنوع. كل ذلك بسبب «التربية الدينية الخاطئة. أبي كان يستخدم الدين معي لكي يزودني بالإبداع». نسألها عن تأثير الوالد الشيخ الأزهري عليها، فتوضح: «أبي تعلّم في الأزهر لكنه تمرد عليه. لا يمكن أن تتمرد على شيء من دون دراسة كافية. بعدما ترك الأزهر، التحق بكلية دار العلوم وكان الأول في دفعته. كان يمكن أن يصبح وزيراً للمعارف، لكنه لم يترقَّ لأنّه رفع راية التمرد. ثم نفوه في قرية نائية في منوف». من الوالد، تعلمت صاحبة «زينة» التمرد. خصصت عشر سنوات من حياتها لدراسة التوراة والإنجيل والقرآن. وجاءت مسرحيتها «إله يقدم استقالته من اجتماع القمة» التي أحرقها الناشر الراحل مدبولي بعد طباعتها، نتيجةً لهذه الدراسة المعمقة.
“أزعجتُ الجميع: السلطة والأزهر والتيارات الدينية التي حوّلت الله إلى سيف ونقاب وتكفير”
«المشكلة الكبرى في العالم كله أنّ الدين كنص حرفي هو الذي سيطر وليس الدين كعدل». المسرحية المحترقة تناقش هذا المفهوم: العدل بين الناس، بين الرجل والمرأة، والحكام. أبطال المسرحية هم نتنياهو وكلينتون، وزعماء عرب. مسرحية تنتقد التدين الزائف والسلطة المطلقة… فهل لهذا السبب أزعجت السلطة؟ تقول: «لقد أزعجت الجميع: السلطة والأزهر والتيارات الدينية التي حوّلت الله إلى سيف ونقاب وتكفير لا إلى عدل». ولكن ماذا كان شعورك عندما قرر الناشر أن يحرق الكتاب؟ تجيب: «أكتب منذ خمسين عاماً. ومنذ بداياتي لم أسلم من الشائعات والتشويه والاغتيال المعنوي والفكري. أما تشويه رواياتي فالنقاد يقومون به. ليس هناك، في العالم العربي، نقد غير مرتبط بالسلطة. ما نقرأ غالباً أقرب إلى الشتائم». لكنّ كثيراً من النقاد يرون أن أعمالك الروائية أقرب إلى خطب وعظية، ولا يعنيك كثيراً الشكل بقدر اهتمامك ببث أفكارك النسوية؟ تجيب: «الشكل لا ينفصل عن المضمون. لكن للأسف أنا لم أُقرأ جيداً فى الوطن العربي. النقاد ليس لديهم وقت للقراءة. نحن نعيش في أكذوبة كبيرة. أصبحت السلطة هي المتحكمة حتى في تصنيف الأدباء. لا بد للكاتب، لكي يكون «كبيراً» أن تربطه بالسلطة جسور. لم يصنفني أحد بأنني كاتبة كبيرة، وهذا شرف كبير لي».
لكن نجيب محفوظ كان كاتباً كبيراً! تردّ بحدة: «نجيب محفوظ لم ينسف الجسور مع السلطة. صرح مرة بأنّ معاهدة كامب ديفيد هي أهم فعل سياسي في القرن العشرين. كامب ديفيد هي التي حولتنا إلى «عبيد العبيد». وجائزة «نوبل» لا تعطى إلا بضوء أخضر من رئيس الدولة، وأنا عشت في السويد وأعرف ماذا يحدث في كواليس الجوائز العالمية». لكن ألم تحلمي بالحصول على الجائزة؟ «من ناحية الاستحقاق الأدبي، كان يُفترض أن أحصل عليها منذ زمن. لكني لا أحلم سوى بالاستمرار في الكتابة».
لا تعتبر السعداوي السنوات الثلاث التي قضتها خارج مصر سنوات منفى، أو هجرة ثقافية، أو حتى استراحة محارب. هي لم تسترح، بل كانت الحروب على الجبهات الخارجية أكثر ضراوة من جبهات الداخل، كما أنّها لا تعترف بأن هناك «وطناً» كي يكون هناك منفى: «وطنك حيث تكون إنسانيتك». لهذا، لا تشعر أنّها كانت غريبة في أي بلد استقرت فيه أو زارته، من إندونسيا والهند وأريتريا إلى جنوب السودان.
كان يستوقفها بعض الشباب ويقولون: «قرأنا كتبك وغيّرتِ حياتنا». هذه الجملة تعتبرها جائزتها الأهم. هل يحدث معها ذلك هنا في مصر؟ تجيب: «مئات الشباب أتوا إلى منزلي رغم أنهم يعرفون أنّني مكروهة من الإخوان والحكومة واليسار. لا أحد يحبني إلا المختلفون قليلاً عن العبيد دول. هم يريدون من ينطق نيابة عنهم بالحقيقة». هل تشعرين أنك امرأة ضد الجميع؟ تجيب: «لا. أنا ضد الثيران المتصارعة في الحلبة على السلطة. ضد الأسرة الحاكمة في مصر، وضد رجال الأعمال وضد المعارضة الشرعية المستأنسة… وهؤلاء في واد والـ80 مليون مصري الآخرين في واد آخر».
لكن حتى المثقفون يقفون ضد طريقتها الصدامية! «ليس كل المثقفين. وحدهم مثقفو السلطة، لا فائدة ترتجى منهم. الخوف يسيطر عليهم لأنني أسير في طريق لا يقود لا إلى السلطة ولا إلى الثراء». لكن هل غيرت أفكارها الصدامية المجتمع؟ تجيب: «أنا لا أختار الصدمة. الحقيقة أصبحت صادمة. عندما يكون الكذب هو الشائع، تصبح الحقيقة متوحشة، صادمة. إذا كانت كل النساء محجبات وأنا لست محجبة، يصبح وجهي صادماً. وإذا وضعت كل النساء ماكياج وأنا لم أضع، يصبح أيضاً وجهي صادماً. أنا هكذا. لن أتحجب ولن أضع ماكياج. لا أفتعل الصدام بل أتفاداه. أريد التفرّغ لعملي». لكن ماذا عن تأثير أفكارها على المجتمع؟ «منذ 50 عاماً وأنا أكتب ضد ختان الإناث. وكل من أعرفه، كان يقول لي إنّه يستحيل تغيير فكرة المجتمع عن الختان! ثم صدر، قبل سنوات قليلة فقط، قانون بتجريم ختان الإناث. ألا يعد ذلك انتصاراً لي؟ الآن أنا ضد ختان الذكور…». لكن التغيير جاء في لحظة تاريخية شهدت ضغوطاً من الغرب. تجيب محتدة: «من قال ذلك؟ يريدون أن يسلبوا أهل البلد نضالهم. عندما تقوم ثورة شعبية، ينسب النجاح دائماً للرئيس أو الملك، ويتوارى الشعب».
ما هي المعركة الأهم التي تنتظر نوال السعداوي أن تكسبها؟ «معركة العقل. أنا أدرّس التمرد والإبداع لبناء عقل جديد غير قائم على التدين الشكلي. عقل يرى أن الله هو العدل ولا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي. نحن نرث الأديان فقط من دون أن نقرأها. هذه معركتي الأهم، الحاليّة والمقبلة». وعندما سألناها ألا تخشى أن يتحول دفاعها الدائم والحاد عن «النسوية» إلى نوع من الأصولية، عادت إلى الإصرار على أنها لم تُقرأ جيداً: «يقولون إنّ لديّ شططاً نسوياً. أنا لا أدافع فقط عن المرأة، أدافع عن الرجل المغلوب على أمره وعن الشباب العاطل. لكن المرأة هي الأكثر قهراً».
لكنّ القهر يعانيه كل المصريين الآن، أليس كذلك؟ «هل تعرف أن هناك مليوني طفل غير شرعي ومشرد في مصر؟ هل تعرف نسبة الخيانة الزوجية في المجتمع المصري الآن؟ عندما ينتقل الرجل من زوجته إلى نساء أخريات تحت مسميات أخرى كالزواج العرفي أو زواج المتعة، فهذا شكل من أشكال الخيانة. المجتمع ذكوري طبقي وقائم على العبوديّة».
«سأبقى، إذا أعجبني الجوّ…»
بين نوال السعداوي والنقّاد معارك لا تنتهي. كثيرون يرون أنّها تسعى إلى تحويل الضجّة المثارة حولها من قضايا موضوعية ذات بعد وطني وفكري وثقافي عام، إلى مسألة ذاتية تتعلق بشخصها.
الناقد جابر عصفور أحد الذين هاجموا كتاباتها لأسباب فنية، لكنها ترى لهجومه أسباباً أخرى. تحكي: «زارني الدكتور عصفور في بيتي بصحبة أدونيس. وكلاهما كان يعرف قيمتي ويقدّرها. لكن عندما اختلفت معه، بدأ الهجوم عليّ». كانت البداية عندما طلب عصفور أن يترجم في «المشروع القومي للترجمة» كتاباً يتناول سيرة السعداوي للناقدة اللبنانية الأميركية فدوى دوغلاس. وبعدما انتهى المترجم من عمله، قرأ عصفور الكتاب وطلب حذف بعض الفقرات. لكنّ السعداوي اعترضت بشدة، ثم وافقت على مضض. لكن الحذف اتّسع ليشمل فصولاً، ثم رفض النشر نهائياً. تكمل السعداوي: «عندما التقيته، قلت له: كيف تفعل ذلك وأنتَ الذي تتحدث عن الإبداع والحرية؟ وأنت على قمة الثقافة في مصر؟ من يومها، انقطعت علاقتنا».
مرارة السعداوي تجاه مواقف المثقفين كثيرة. أجابت بحدّة عندما سألناها عن اتهامها بالهروب من مواجهة أزمة مثولها أمام المحكمة بسبب مسرحية «إله يقدم استقالته من اجتماع القمة». «سافرت إلى بروكسل لتسلّم جائزة الأدب الأفريقي، وحدث ما حدث من هجوم وتحقيقات من الأزهر. لم ينطق كاتب واحد دفاعاً عني. لماذا أعود إذاً؟ ولمن أعود؟».
لكن هل ستبقى في مصر؟ أم أنّ تجدد الجدال حولها قد يدفعها إلى الرحيل؟ «لدي عقود للتدريس فى الخارج، سأقبل أياً منها إذا لم يعجبني الجوّ». ثم تقول: «أنا مستعدة لتدريس مادة الإبداع والتمرد في جامعة القاهرة مجاناً. لو أن هذا النظام ذكي، يكلّفني بهذه المهمة».
بالتأكيد لن يكلّفها النظام بالتدريس في جامعة القاهرة لأنه لا يحتمل أفكاراً خارج السياق. لن يعنيها الأمر كثيراً فلديها مشاريع كثيرة تحتاج إلى التفرغ. تقول: «أكتب الآن الجزء الرابع من سيرتي الذاتية «حياتي وراء المحيط» عن السنوات التى قضيتها في أميركا. كما أُعدّ للدورة الثامنة من المؤتمر الدولي لتضامن المرأة العربية». أما المشروع الأهم فهو حملة «التضامن العالمي من أجل مجتمع مدني الذي تقوم فكرته على تأسيس مجتمع مدني ينقذ العالم من الصراعات الدينية». في رأيها أنّ «إسرائيل دولة قائمة على الدين، ويهمّها أن تبقى السعودية دولة تيوقراطيّة، وأن تغرق كل الأنظمة العربيّة في الدين والتطرّف، لترسّخ شرعيّتها المزيّفة». الفرع الأكثر نشاطاً للمنظمة في اتلانتا، وسيكون له فروع في العالم. وتضيف: «أريد 50 شخصية لهذه المهمة من مصر، سأختارهم بعناية، لأني لا أريد انتهازيين يسعون إلى الانضمام ثم يفسدون كل شيء، وتجاربي في هذا المجال لا تحصى».
معارك دونكيشوتيّة… ومتاعب لا تحصى
منذ ثلاث سنوات، فجرت نوال السعداوي (27 تشرين الأول/ أكتوبر 1930) واحدة من قنابلها الموقوتة في المجتمع المصري. يومها، دعت إلى السماح بتسجيل الأطفال بأسماء أمهاتهم. وبدأت ابنتها الكاتبة الصحافية منى حلمي بتطبيق ذلك رمزيّاً، فوقّعت مقالاتها فى جريدة «روز اليوسف» باسم «منى نوال». وهو الأمر الذي ألّب المؤسسة الدينية الرسمية على صاحبة «سقوط الإمام». هكذا، رفع الأزهر بلاغاً ضدها، وقدّم عدد من المحامين دعاوى قضائية يطالبون فيها بسحب الجنسية المصرية منها. وتم التحقيق مع السعداوي «بشكل غير لائق» كما كشفت حينها. وعندما سافرت إلى بلجيكا لحضور أحد المؤتمرات، تلقّت هناك دعوة للتدريس في «جامعة أتلانتا» الأميركية. في الوقت عينه، قام ناشرها محمد مدبولي بإعدام مسرحيتها «الإله يقدم استقالته في مؤتمر القمة» بعدما رأى فيها خروجاً عن الدين.
هل انضمت نوال السعداوي إلى جماعة الإخوان المسلمين في بداية حياتها الجامعية؟ وهل ارتدت الحجاب؟ هذا ما ردده بعض قيادات الجماعة في الأيام الماضية. تضحك صاحبة «كسر الحدود» مضيفةً أنّ الإخوان يتمنون ذلك «لكني لن أنتمي إليهم أبداً». هل أخطـأ المثقفون عندما قبلوا أن يحاربوا الأصولية لمصلحة الدولة؟ تجيب: «أنا ضد الإخوان، لكنني ضد اعتقالهم أيضاً… لأنّ السجن لا يحل شيئاً. النخبة المثقفة ساندت السلطة في معركتها ضد الأصولية، لأنّ الحكومة تدفع لها أموالاً طائلة من مؤسسات الدولة!»
لم تكن تلك المرة الأولى التي تواجه مشاكل مماثلة، وهي الكاتبة التي درست وتخصصت في الطب النفسي. هي تمرّست في إثارة القوى المحافظة داخل المجتمع! فقد دعت من قبل إلى السماح للمرأة بتعدد الأزواج أسوة بحق الرجل بالزواج من أربع نساء، وطالبت بتقلّد المرأة منصب القضاء ورئاسة الجمهورية في مصر كما أنّ كتبها المتعددة عن «المرأة والجنس» أثارت قوى كثيرة.
وفي كل مرة، كان عليها أن تدفع ثمن أفكارها. فقد فصلت من عملها كطبيبة بسبب آرائها وكتاباتها بعد ستّة قرارات صدرت عن وزير الصحة، وتعرضت للسجن في 6 أيلول (سبتمبر) 1981 خلال فترة تولّي أنور السادات الحكم. كما تعرضت للنفي في بداية التسعينيات بعدما وضعت الجماعة الإسلامية اسمها على قائمة المطلوبين بإهدار دمهم. وبعد ثلاث سنوات «وراء المحيط»، عادت صاحبة «امرأة عند نقطة الصفر» منذ أسبوع إلى القاهرة بعدما رفضت محكمة القضاء الإداري إسقاط الجنسية المصرية عنها. هل تواصل معاركها مرة أخرى أم تستريح قليلاً، وخصوصاً مع ما يبدو لكثيرين أنّها مثل دون كيشوت!
عن السلطة… وغياب الشعب
في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (2005)، أعلنت نوال السعداوي ترشيح نفسها. ورغم أن الدستور المصري لا يمنح المرأة حتى الآن حق الترشيح، فإنّ الخطوة التي كانت مفاجئة لكثيرين عدّتها السعداوي «نوعاً من المشاغبة السياسية» التي اعتادتها دائماً. هل تحلم السعداوي بأن تكون في السلطة؟ بحسم تجيب: «لا، لو أردت، لكان يمكنني أن أكون وزيرة صحة أو رئيسة وزراء». هل عُرض عليها الأمر ورفضت؟ تجيب: «الحكومة تغازلني منذ بدايتي. فقد كنت قيادية في نقابة الأطباء. وعندما كنت أرشّح نفسي لانتخابات النقابة، كنت أحصل على أصوات أكثر من أصوات النقيب».
الحكومات تحاول دوماً شراء أي شخص يتمتّع بوضع حسب السعداوي. «وجدوني عنيدة، أركب دماغي. كما أنّني كنت أؤمن بأن الوزير يأتي بقرار ويذهب بقرار، والأديب لا أحد يعيّنه ولا أحد يعزله إلا قلمه».
التقت السعداوي كل رؤساء مصر وتعاملت معهم. دخلت سجون السادات عام 1981، الذي ترى أنه كان يكرهها قبل ذلك بكثير. تحكي: «كنت عضوة في نقابة الأطباء في بداية السبعينيات، وأخبرونا أنّ الرئيس سوف يلتقي أعضاء النقابات المهنية في الساعة الـ11. وكان علينا أن نذهب قبل هذا الموعد بساعة. وذهبنا في الموعد الذي حدّدوه لنا، لكنه تأخّر ثلاث ساعات. كانت هذه المرة الأولى التي أراه فيها. وكنت أتصوّر أن يعتذر عن تأخّره، ويقدّم إلينا أي مبررات. ولكنه لم ينطق بكلمة. تحدّث في كل الموضوعات، وبدأ للأسف حديثه عن قيمة الوقت وأهميته. وفي النهاية سألنا: هل لديكم أي تعليقات؟ رفعت يدي وقلت: تتحدث عن قيمة الوقت، نحن 450 فرداً هنا. انتظرناك ثلاث ساعات، لتحسب كم الأموال التي أُهدرت في انتظارك، ورحت أعدد التناقضات في حديثه. حتى تصوّر الحاضرون أنّني سأذهب وراء الشمس». تضحك: «طبعاً انتظر ست سنوات كاملة قبل أن ينتقم مني، عندما وضعني فى السجن في ما سُمِّي «مذبحة سبتمبر»، وأصبحت أنا السجينة رقم 1536».
أما الرئيس حسني مبارك، فالتقته مرات كثيرة. كانت أول مرة خلال استقباله المعتقلين السياسيين بعد توليه الحكم مباشرةً. في هذا اللقاء، بدا بينهما نوع من «عدم الإعجاب المتبادل». لا هي أُعجبت بكلامه، ولا هو أعجب بما قالته. كتبت عن لقائها الأول به في مذكّراتها «أوراق من حياتي»: «بعد اغتيال السادات بشهرين، أصدر مبارك قراراً بالإفراج عنا. حملوني من الزنزانة داخل سيارة فولس فاغن إلى قصر العروبة، حيث استقبلنا رئيس الدولة ورئيس الوزراء. كنت أرتدي حذائي الكاوتش، أخفيتُ داخله رسالة إلى رئيس الدولة أطالبه فيها بالتحقيق في جريمة اعتقالي من دون سبب إلّا كتابة رأيي. قبل الاجتماع، أخرجتُ الرسالة من حذائي وناولتها لرئيس الدولة. قرأها كلّها حتى آخر سطر ثم قال لي: معلهش يا دكتورة نوال. رنّت كلمة معلهش في أذني غريبة. هل يضعونني في السجن من دون جريمة ثلاثة شهور ثم يقولون لي معلهش؟ ألقى رئيس الدولة علينا خطبة عن نظامه الجديد في ظل الديموقراطية والحرية والقانون. علينا أن ننسى الماضي ونتطلع إلى المستقبل، قال بلغته هذه الحروف. بلاش ننبش القبور، وكان يعني أن ننسى فترة السجن، أن ننسى ما فعله السادات بنا وننتظر ما يفعله الرئيس الجديد. لم يقنعني هذا الكلام، كنت أرى أن تقويم الماضي ضرورة لعدم تكرار الأخطاء، وأن التحقيق في ما حدث يتماشى مع القانون». لم يكن هذا اللقاء الوحيد. تعددت اللقاءات، وخصوصاً في افتتاح معرض الكتاب تقول: «كنت أذهب إلى اللقاء. أقول لنفسي إنني لن أتحدث. لكن أجد نفسي مجبرة كل مرة على الكلام، ردّاً على ما أسمعه من المثقفين. في هذه اللقاءات، تشعر بالزيف الشديد وباحتقار النخبة المصرية». وربما لهذا لم توجّه إليها الدعوة في السنوات الأخيرة لحضور لقاء الرئيس.
عبد الناصر بالنسبة إليها حالة خاصة. عندما سألناها عن الفترة الأفضل لها سياسياً، أجابت فوراً: «عبد الناصر»، مضيفةً: «كان لديه فرصة لكنّه ضيّعها. كنّا شباباً نثق به. هو أول حاكم مصري، سعى إلى تحرير البلد من الاستعمار. قبل معاهدة روجرز، بدأتُ أتحوّل ضده. ولو عاش شهرين أكثر، لوضعني في السجن».
رغم أنها لا تحب المقارنات، لكنّها تقارن بين الرؤساء الثلاثة: «عبد الناصر كان لديه مشروع وطني، لكنّه خيب أمل الشعب. الثاني ضيّع البلد والمنطقة عندما تحالف مع أميركا وسعى إلى الصلح مع العدو الإسرائيلي. أما مبارك، فكان بشراً في البداية لكنّ كرسي المنصب يُعمي، وخصوصاً مع غياب الشعب. هنا ما فيش برلمان يهدّد ويحاكم الحاكم ويراقب».
(القاهرة، عن “الأخبار”)
24 أغسطس 2010
شكرًا على نشر هذه المقابلة