عن الموت والجمال والحب المثلي: بين فينسيا وشارع بسادة
كانت أمه تتمنى الولد بعد البنات، فلمس ولي صالح البذرة التي في بطنها وجعل لها جسد ذكر فحل، لكن الولي ينسى أن يبدل الروح، فبقيت روح الأنثى سجينة جسد الذكر
عن الموت والجمال والحب المثلي: بين فينسيا وشارع بسادة
|محمد عبد النبي|
هناك جسور خفية تمتد بين بعض الأعمال الأدبية، المكتوبة فى أماكن وأزمنة متباينة، في لعبة من ألعاب بيت المرايا، دون أن تحيل بالضرورة إلى جدلية التأثير والتأثر بصيغتها المباشرة، بل هي جسور تكاد لا توجد إلا في ذهن قارئ ما في إطار فعل قراءة محدد، أي أن مسؤولية هذه العلاقات الخفية تقع فى أغلب الأحيان على عاتق القارئ وحده. هذا المستهل غرضه الأساسي إعلان مسؤوليتي الكاملة عن الربط ما بين نوفيلا سيد الوكيل الصادرة مؤخرًا عن دار الناشر، بعنوان “شارع بسادة”، أو بين بعض خيوطها على وجه التحديد، وبين أجواء “الموت في فينسيا” لتوماس مان.
ينتمي العملان إلى نوع أدبي واحد هو النوفيلا، وهي مصادفة لا دخل لها بالجسور التي أتخيلها هنا إلا قليلا، والنوفيلا حالة سردية وُسطى ما بين القصة والرواية، وغالبا ما يشار لهذين الطرفين عند تعريفها، وأحيانا ما تُعرّف بعدد كلماتها، الذي يترواح بين 10 آلاف كلمة إلى 70 ألف كلمة، لتمييزها عن الرواية، أختها الكبرى، والقصة، الابنة الصغرى، لكن هذه التعريفات أيضا تولي اهتمامها لمسألة الصّراع والحبكات، فتشير لاحتواء النوفيلا على عدد أقلّ من الصراعات مما تحتويه الرواية، ولكن على نحو أكثر تعقيدًا من القصة القصيرة.
حرص سيد الوكيل على الإشارة إلى كتابه السرديّ الأحدث “شارع بسادة” بوصفه نوفيلا، رغم توفر هذا الشكل في سردنا الحديث عند أسماء كبيرة مثل يحيى حقي وعبد الحكيم قاسم، دون إشارة واضحة لمُسمّاه، ومع هذا فإنّ الوكيل يميل لكسر حدود النوفيلا، بصيغتها التقليدية، من ناحيتين؛ أولا كل فصل (فقرة أو قطعة سردية) من فصول كتابه له عنوانه الخاص ويمكن قراءته منفصلا والتعامل معه باعتباره وحدة سردية مستقلة، من دون مشقة أو ابتسار، وبعض تلك الفقرات تم نشره في نصّ سابق للكاتب، في أول مجموعته القصصية “مثل واحد آخر”، وظهرت في “شارع بسادة” من دون تغييرات ذات شأن. الأمر الثاني –ولعله يرتبط من بعيد بمسألة الوحدات السردية المتصلة المنفصلة– هو أنّ النوفيلا في صيغتها التقليدية لا تلتفت لحكبات أو صراعات ثانوية فرعية، بل تمسك بخيط واحد أساسًا لا تفلته إلى النهاية، وهو ما تحقق بصرامة في نوفيلا توماس مان “الموت في فينسيا”. أما “شارع بسادة” فتقوم عن عمد بإفلات هذا الخيط الواحد، بل لا تمسك به من البداية، وربما من الفصل الأول للنوفيلا، مشهد محطة القطار، حيث يقدم لنا الراوي شخصيات تمرّ بالسّرد مرور الكرام، رغم أنها واعدة، وهؤلاء أغلبهم من الغرباء ليسوا من السكان الأصليين للبلدة، ولا يستعيدهم السرد في ثنايا اللوحات والفصول التالية بالمرة. وبعد ذلك تقدم “شارع بسادة” مجموعة لوحاتها أو حكاياتها الصغيرة التي يمكن اعتبارها جميعًا حبكات ثانوية وفرعية. هي دوائر متواشجة، يضمها إطار مكاني وزمني موحد، تغلفها الحالة اللغوية نفسها؛ كل هذا صحيح، لكن أيًّا منها لا يقدم نفسه بوصفه صاحب الثقل المركزي بينها، منطلقا مفترضا لبقية الخيوط والحالات. وكأنّ هذا الانزياح الجزئي عن حدود النوفيلا إلى حدود المتتالية القصصية، من دون التورّط كذلك في معضلات بنية العالم الروائي باحتمالاته المتنوعة، يتم نشدانًا لحرية الشكل وللتمويه على أيّ دلالة مركزية قد تنتج عن قراءة متسرّعة، إلا إذا انحازت هذه القراءة أو تلك، عن وعي وقصد، إلى تلك الحكاية دون الأخرى، واصطنعتها منطلقا لرؤية كلية مفترضة للعمل.
وهكذا فهناك الكثير مما قيل ويمكن قوله حول “شارع بسادة”، بناء على تلك الخيوط المتناثرة، نسكت عنه عامدين هنا، كما نسكت عمّا يمكن قوله حول مغامرتها اللغوية، ومدارها نقل التجربة الحسّية الحية بلغة لا تخجل من شعريتها الخاصة، ولا تكتفي بالوقوف باردة محايدة إزاء التجربة… ننحي هذا كله جانبا لصالح التريث أمام خيط الحب المثلي الذى طرحه العمل، وذلك أساسًا لندرة الأعمال الأدبية المصرية الجديدة التي تتناول مسألة الميل الجنسي المثلي، دون ابتذال أو تسطيح، ودون أن يضطر المؤلف لقتل النموذج “الشاذ” فى نهاية العمل (حاتم رشيد نموذجًا– “عمارة يعقوبيان”) إذعانا –ربما– لقانون العدالة الشعرية: الآثم نهايته بشعة، أو مغازلةً –ربما– لوعي ما نسمّيه برجل الشارع العادي: الآثم نهايته بشعة كذلك.
وهنا تلتقي نوفيلا “شارع بسادة” -على الجسر الذي تتخيله هذه القراءة- بنوفيلا “الموت في فينسيا” التي نكتفي بوضعها فقط في خلفية المشهد كمرجعية هامة، لأهمية ما طرحته -جماليا ومعرفيا- من هواجس وتأملات حول الحب المثلي، ليس فقط باعتباره ذلك النزوع الآثم والمُدان من الأديان والأعراف والأخلاق، ولكن أساسًا باعتباره دراما إنسانية، يغزل خيوطها الموت عند قدمي المعبود، وفقدان الأمل في تحقق الرغبة، وضعف أدوات الفن إزاء اكتمال الجمال البشري الحي. هواجس الموت والجمال تلك تتناثر أيضًا في جنبات “شارع بسادة”، على طريقتها الخاصة.
في شباط/فبراير من العام 1907 نشر الروائيّ الفرنسي مارسيل بروست مقالا بعنوان “عواطف ولد يريد قتل أمه”، مستوحيًا مقاله من حياة صديقه هنري فان بلارنبرج، والذي أقدم بالفعل على قتل أمه التي يحبها ثم انتحر. ورأى بروست فى هذا الحادث دليلا على الحبّ، ووصف عملية قتل الابن لأمه بأنه عمل يكاد يكون جميلاً. واختتم بروست مقاله كالتالي: “وددتُ أن أبيّن كيف أن تفجر اللوثة وسفك الدماء قد حدثا في جوّ من الجمال الأخلاقي الذي يجمع بين النقاء والدين. ورغم هذا فإنّ الدماء المسفوكة لم تنجح في تلطيخ هذا الجمال.”
كأنّ بروست يرى هنا أيضًا جسرًا خفيًا معلقا بين الموت (وهو هنا قتل، للأم) وبين الجمال، وكأنّ القتل هو الحدّ الأقصى لفعل الحب، وهي فكرة لا يصعب أن نجدها، حتى في أدبيات الحبّ والغرام الأشدّ سوقية وابتذالا، غير أنّ ارتباطها هنا بعشق الأم والرغبة في التحرر من هذا العشق هو ما يضعها في إطار مغاير. وللأم كمنوذج أول -وربما متوحّش- للجمال حضور خاصّ في واحد من أهم وحدات السّرد في “شارع بسادة”، إنه الولد الذي يرسم الوجوه في حجرة مهجورة، كان مرصودا للعشق، وممسوسا بالجمال… وهذا هو عنوان هذه الوحدة السردية. هذا الولد الذي أتى إلى “شارع بسادة”، حيث سيعيش مع جدته، بصحبة أمه التي سرعان ما تتركه هناك، وتظلّ حاضرة رغم ذلك، فلا يكاد يتسع هذا الفصل الصغير إلا لها، ولتأمل مشهدها الفاتن، بعيني الولد، وهو نفسه الذي يطارده الصغار، قائلين: “ابن الحلوة أهه”، وكأنهم -بتعليق السّارد- يحرّرون أنفسهم من الموت، أما سؤال الولد فكان: فمن يحرر نفسه من الجمال؟
ما الذي يجعل هذا الولد يرسم صورًا لناس وملائكة وشياطين ويطمع أن ينفخ فيهم الله من روحه؟ وهل لما يرسمه هذا الولد علاقة بكلّ من يجمعهم “شارع بسادة” من ناس وملائكة وشياطين؟ ألا يمكن لقراءة منحازة لهذا الخيط عمّا عداه أن ترى في هذا الولد البدين الخجول صورة مصغرة لصانع العالم كله من أوله لآخره، يقول: “فيما بعد سيتعلم كيف يكتب ذلك على الورق” متحدثا عن لحظات الاشتهاء الأولى، ذكرته بها امرأة يقابلها فى جنازة أمه.
سؤال الفن شيء آخر؛ إنه يكافح، مستنفدا كل حيلة، للإمساك بالجمال، ذلك الهش، والعابر وسريع الزوال. الولد البدين الخجول يرسم شوارع وبيوتًا ويجعل ناسًا يسكنونها، فإذا أعجبت الله، كما أسرّ له الملاك، فسيمنحها أرواحا ملوّنة. يرسم أمه، ولدى موتها أشرف بنفسه على وضع اللمسات الأخيرة في لوحته الأولى. وكأنّ ميزان الموت والجمال هنا تتأرجح على جانبيه كفتان، تعلو هذه لتهبط أختها، في رقصة متوازنة وعجيبة.
ولكنّ الفن لا ييأس من المحاولة، إذ يأتي سقوط الكاتب جوستاف فون آشنباخ، الذي يطارد تاجيو، الفتى البولندي على شاطئ منتجع في فينيسا أوائل القرن العشرين، دون كلمة أو إشارة، غير “أحبك” واحدة يتيمة أسرّ بها إلى نفسه وهو يكاد يموت خجلا وتعبا. يطارده وكأنه شبح يتقدمه على الدوام، ويروغ منه في المنعطفات مع أسرته، سرب إناث صامتات مثل راهبات متشابهات، ومع ذلك لا ييأس فون آشنباخ، يظلّ يحاول، فقد: “أصبح فجأة راغبًا في إضاءته بنور كلماته، اتجهت رغبته في شوق إلى التعبير عن الحالة الراهنة لتاجيو، بالكتابة عن بنية الغلام واتخاذها مادة لعمله، وسيتابع بأسلوبه خطوط هذا الجّسد الذي يبدو له ربانيًا، وسينظر في جماله بطريقة عقلانية” وظلت محاولته تلك نوعًا من المرواغة أمام المكتوب، لا في صفحة الكتاب، ولكن على صفحة العالم المادي، نوعًا من المقاومة اليائسة، التشبث الأخير بحيل الفن ورصانة الفكر. فكاتبنا الجّليل لن يتتبع خطوط جسد الولد بأصابعه، كما سيكشف له عن ذلك حلم مقتضب ومشوّش قبل موته بساعات، ولكن بأسلوبه، وكأنه يرجئ بهذا الموت، يعانده، موته هو وقد صار شيخًا هرمًا، ولم تفلح لمسات الزينة أو الصبغة التي وضعها له الحلاق أن تخفي آثار الزمن، وموت الولد -أو على الأقل تغيره- رغم أنه جماله نفسه مُهدّد، إذ يبدو عليه شحوب المرض طوال الوقت.
هشاشة الجمال وظلّ الموت المخيم عليه دائمًا، معانٍ من السهل تتبعها في الخيوط السردية الأخرى في “شارع بسادة”، حتى بعيدا عن الولد البدين الخجول، صانع العالم ومكتشف الأسرار. هذه الهشاشة نلمحها أيضًا عند تأمّل شخصية حسونة، الحسون، عصفور الحقول الشارد بحثا عن رزقه الشّحيح من الملاليم ومن الحبّ كذلك، بائع سريح في زحام الأسواق بين الفلاحين، رافعًا ذيل جلبابه كاشفا عن مؤخرته بلا خجل، على هامش الهامش، بلا أهل أو سند.
عصفور الحقول حسونة، يرفض الموت، على طريقته، وكأنه في الحين نفسه يرفض الحبّ كذلك، الحب المُعمر، الحبّ طويل الأجل، حبّ البيوت أو حتى أوكار المتعة السرية. وهو يرفض الموت حين يتجنب الذهاب بمن يصطادهم من الشباب العابرين إلى المقابر، ذلك أنّ حارس الجبانات هناك، يعرفه جيدًا ولن يفوّت تلك الفرصة، وهو –حسونة- مهما كان، يكره، أن تمسّ مؤخرته يد اعتادت أن تجوس فى جثث الموتى. وفي مقابل الأم، النموذج الأولي للجمال الوحشي عند الولد البدين الخجول أو الفتى تاجيو، لدى حسونة سيدة آلاجا، المومس القديمة، التي اكتفت الآن بنصبة شاي وقهوة، تستقبل تحت مظلة الخيش عشاقها القدامى، وتحنو هناك على حسونة. تبنّته، شريطة أن يجري على رزقه، وأن “يسترجل” شوية، وتروح تحكي له في الأمسيات كثيرًا من قصص العشق.
مع حسونة، لا وجود للدراما الثقيلة التي تنتجها تناقضات مثل الحياة والموت والذكورة والأنوثة والشياطين والملائكة، وهي الثنائيات التي اعتمدتها نوفيلا “شارع بسادة”، لا لشئ إلا لتفككها وتتلاعب بها، وهو ما يظهر بوضوح لا مزيد عليه في شخصية الحاج سمير وهدان، وهنا تبرز التناقضات وصار من الممكن بالتالي إنتاج الدراما.
هناك -في فينسيا- ثنائيات أخرى فاعلة بقوة، من ناحية شموخ الفكر وأنصاب الإرادة الإنسانية المتعالية، وعلى الطرف الآخر الشغف الحسّي وتدفق الأهواء والغرائز الطليقة، ولم تكن معضلة الكاتب الكبير صاحب اللقب السامي فون آشنباخ سوى الاتكاء المبالغ فيه على أحد طرفي المعادلة، بعد أن قضى عمره كله متساميًا، آخذًا نفسه بالشدة، مكرّسًا نفسه لروتين عمله الصارم، مُحققا الصورة المثالية التي ينشدها القراء والمعجبون، والأهم أعضاء الأسرة الكبيرة التي ينتمي إليها، وهكذا وحين يعتصره الشغف في قبضته، يقاوم مقاومة اليائس، ويعلن رغبته في مغادرة فينسيا، ويحزم حقائبه، ويصل للمحطة التالية، وهناك كانت تنتظره مفاجأة صغيرة، حيث فقدت حقائبه وسافرت في اتجاه آخر، وراح يبالغ في إظهار نقمته وسخطه، مواريًا الفرح المرتعش بداخله، يمكنه الآن أن يستسلم لقدره، يعود من جديد إلى فينسيا، إلى حيث يتمشى المعبود، تاجيو، على الشاطئ كل صباح، ويلعب مع أقرانه. سيعود، لكنه لن يستطيع العودة إلى صباه، رغم جهود المزيّن ورشّات البودرة وأقلام الحواجب والصبغة، بوسعه على الأقل أن يموت، وقد سيطر الوباء على فينسيا، أمام الهيكل الفاتن للغلام، هناك، يبدو مظللا بالكامل أمام نور الشمس الغاربة في الأفق… الاحتفال الأزلي بطاقة الحياة، واكتمال لوحة الجمال الحيّ وعنفوان الرغبة، كلّ هذا قادر على إخراس صوت الفكر والإرادة وطموحات الفن في التقييد والتثبيت والخلود، الزوال جميل، والجميل زائل، ينكمش الفنان ويلملم أوراقه، ويأتون لحمله من مقعده على الشاطئ، بعد أن فقد العالم واحدا من أهم كتابه.
جوستاف فون آشنباخ هو هنا أقرب إلى سمير وهدان، بطبيعة الحال، منه إلى حسونة، فالرغبة مقموعة بحكم تناقضات زرعتها المؤسّسات الاجتماعية باختلاف ألوانها، وقيّدت بها المنتمين إليها على اختلافهم، واختلاف أهوائهم وميولهم. لدى هذه المؤسسات الاجتماعية يوجد أبيض وأسود، ويوجد خير وشر، تماما كما يوجد الذكر والأنثى. ونتعرف على ميول سمير وهدان الجنسية، من خلال إطار أسطوري خرافي، يلقي عليه سمير نفسه -وربما النوفيلا كذلك- مسؤولية هذه الميول، وكأنه بريء منها، فأمه كانت تتمنى الولد بعد البنات، فلمس ولي صالح البذرة التي في بطنها وجعل لها جسد ذكر فحل، لكن الولي الصالح ينسى أن يبدل الروح روحًا أخرى، فبقيت روح الأنثى سجينة جسد الذكر. هنا نلحظ أيضا ثنائية الروح والجسد، وكأنّ سمير وهدان -بوعي أو بدون وعي- يستخدم ثنائيات رسخها المجتمع وسكنت من فجر التاريخ في وعي الجماعة الإنسانية، وبدونها لا تنهض المؤسسة الاجتماعية الأقدم وهي الدين، يستخدم هذه الثنائيات نفسها، لكي يؤطر ميوله، يضعها في حكاية أسطورية مثل الحكايات التي يعتمدها الدين وتحمل في داخلها تاريخ الإنسان.
حسونة خارج أسطورة الثنائيات، خارج المؤسسة الاجتماعية ولا تقدم له النوفيلا دراما خاصة به؛ رغم ما يوجد من إمكانيات حيث يسعى لرزقه الشحيح من الجنس مع مرتادي السوق، ممن لا يبخلون عليه بسيجارة، أو يشترون بقرش سوداني، مغامرين بفضيحة لو رآهم أحد معه، “وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة“.
باستسلام فون آشنباخ لشغفه يستسلم للموت، لأنه مستسلم حتى النخاع إلى أحكام المؤسسة الاجتماعية وقوانينها، لم يحدث الفتى بكلمة، وتتبع خيوط جسده بالكلمات على الورق، ولم يترك الزمام لانفعالاته الشبقية إلا في حلم هو أقرب إلى الكابوس، واحتمى بالأساطير على الدوام في تغزله الخاص ومناجاته السرية للفتى، واستعان -غير مرة- بعلاقة الفيلسوف الشيخ بالمتعلم الشاب عند الفلاسفة الإغريق، ومال للجنس العقلي المتمثل في الحوار المنطقي وأسرار الوجود: “لم يسبق له أن وجد طعم الكلمات أكثر حلاوة مما هي عليه الآن، لم يعرف أبدا أنّ الحب يقيم في داخل الكلمات على هذا النحو”.
سمير وهدان يشعر بأنه متهم في قضية أمام الوجود كله، فلا يتوقف عن الدفاع عن نفسه -عن ميوله- لحظة واحدة، ولا يتحدث إلا بلسان المؤسسة، ثنائياتها وأساطيرها، ويؤكد مرة بعد أخرى على اختلافه عن حسونة، يخاطب علي، الذي استطاع أن يمس الروح الأنثوية التى بداخله مخترقا حجاب الجسد الذكوري: “أنا يا على لست مثل حسونة…” ثم بعد قليل: “لا فرق عندك بيني وبين حسونة…” وأيضًا: “هذه روحي يا علي، روحي التي نسيتها يد مباركة في جسدى الجميل فحولته إلى ثلاجة.. جسدي ثلاجة جميلة، تحفظ روحًا لا تغني سوى بين يديك، أنا عاشقك وقاتلك، وأنت دفء روحي المنسية… روح منسية مثل روحي لا يوقظها سوى حيوان مثلك فيه رطوبة الطين ورائحة سعف النخيل…” نعم، دفاع هو أقرب للشعر، يصر على الابتعاد عن نموذج حسونة، تمامًا كما اشمأزّ جوستاف فون آشنباخ من العجوز المتصابي ذي الشعر الأحمر على متن السفينة، السّكران مرافق الشباب، وكلاهما يستعين بتجليات المؤسسة الاجتماعية السامية لينأى بنفسه عن الابتذال، عن العار، عن الجنس بلا مشهيات ولا مقبلات، عن الجنس وفقط، كالحيوانات، إما بالفن، حيث يمكن للحب أن يقيم داخل الكلمات، وإما بالحبّ -الابن الأشهر للمؤسسات الاجتماعية، بجميع تجلياته الدينية والشعرية- حيث يمكن لرغبة سمير وهدان أن تتميز وتتسامى عن حسونة وأمثاله، من الحيوانات.
حسونة لا يدافع عن نفسه، ليس متهما، هو خارج الحسابات أساسا، ولعله فعلا لا يفرق بين الأجساد التي تتناوب عليه، ولكننا نعرف على الأقل واحدا لم يستسلم له حسونة، وهو حارس الجبانات، لأنه يكره الموت، لأنه يهيم على وجهه بين الأجساد والأشواق غير المشبعة، مهما أشبعناها. وفي اللحظة التي يهرب فيها حسونة من الموت نجد سمير وهدان يقتل عليا، وإن لم يقتله بيده، يكتفي بأن وشى بمعبوده لزوج المرأة التي نام معها، ودله على الأدلة والقرائن الدامغة، هذه هي نوعية الدراما التي تنتجها المؤسسات الاجتماعية، والنتيجة المتوقعة على الدوام من صراع وجدلية المتنافضات: يقتل صاحب الرغبة غير المتحققة فتاه الذى أشعل فيه الحرائق ولمس روحه الأنثوية، وتمسك الكوليرا بالطبقات التي تعفنت على شواطئ فينسيا، وقد فات الأوان للكاتب الكبير أن يعود عن مشوار عمره كله، فيتجمّد مثل تمثال ملح أمام مشهد المعبود الحيّ، بعد أن رُفعت الأقلام وطويت الصحف.
مقطع من “شارع بسادة”
عندما جلس حسونة بجوار سيدة آلاجا، سمعتْه يئن، ولمحت دمعة تسيل بين عماص عينيه. قالت: -مالك يا خويا؟ -تعبان. ثم مال برأسه على حجر كبير وأغمض عينيه، فوضعت كفها على كتفه وطبطبت عليه. صحيح أنّ سيدة ضاجعت رجالا كثيرين، لكن الله لم يمنحها ولدا واحدا، وذات مساء قائظ أرسل لها حسونة حتى باب بيتها. كان ولدا صموتا اعتاد الصبيان أخذه إلى أرض أبي خليفة ليمنحهم متعا سرية بعيدًا عن عيون الملائكة. رأته لأول مرة يشرب من زير جعلته سبيلا أمام بيتها، فعرضت عليه أن يبقى معها بشرط أن يسعى على رزقه، فهي لا يمكنها أن تحمل سوى همّ نفسها وزوج أرانب يتناسلان تحت سريرها ليلا، وفي النهار يرعيان في الحلفاء غير بعيد عن البيت خشية الثعالب.
في الحقيقة هو لم يكن بيتا، مجرد خصّ كبير جعله أبو خليفة على رأس أرضه، يقيّل فيه حتى اصفرار الشمس ويأكل لقمته، ولما مات، أهمل أولادُه الأرض؛ فأكلتها الحلفاء، وسكنتها الفئران والسحالي والثعالب والأولاد الهاربون من عصا الأستاذ رزق الله. الآن.. لا أحد يعرف متى سكنت سيدة الخص، ولا متى وسعته ودهكته بالطين وجعلت أمامه مصطبة وزيرًا حتى صار في كامل هيئته كبيت يقول الناس عنه: بيت سيدة القحبة؟ كل صباح ينفتح باب البيت ليخرج ولد صموت وزوج أرانب، يتحسّسان الأفق في حذر ثم يمضي كل منهما إلى طريق. وفي المساء كثيرا ما يتفق أن يعودا معًا فيما تكون سيدة على المصطبة تجلس. فقط يوم السوق، تضفي سيدة على المشهد تغييرًا. تغير طفيف ولكنه يخصّها، ثم أنه سيكون محور كل شيء فى ذلك اليوم، منذ الصباح تختار مكانها المفضل في مواجهة خصّ البوظة، لتكون في مرمى بصر الملطوشين في دماغهم، ستقاتل من أجل هذا المكان المميز، لهذا سيشهد السوق عدة معارك صباحية، تكون محوراً لمسامرات رجال البوظة وقفشاتهم، وهم يستعيدون المشهد الذي طاردت فيه الشيخ مرسي بائع الكتب، والشتائم الجديدة التي ابتكرتها هذا الصباح، وسيتوقفون طويلاً أمام المشهد الذي خلعت فيه ملابسها، حتى لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها وهي عارية.
في طريق العودة سيكون ثمة أفق صامت، وظلمة خفيفة تذوب فيها الملامح، حتى الضوء الشحيح المنبعث من مبنى “الاسبتاليا” لن يكشف ملامحهما، غير أنّ تفاصيل أخرى لا تخطئها العين. امرأة قصيرة وممتلئة قليلا تزكُ في مشيتها، تمسك بُقْجَةً في يدها وتزكُ، وولد نحيل يعلق سلة في ذراع ويسند بالآخر حمل برسيم على رأسه، فيما يقعي زوج أرانب حذرًا أمام الباب. ولولا فراؤُهما الأبيض، لما تمكن حسونة من رؤيتهما، وفيما هي تحدق بعينين متعبتين يقول: -متخافيش.. ولادك قاعدين يا سيدة. تضحك وتقول: يعني مين حيعرّص عليهم غيري. في أمسيات مثل هذه، حكت سيدة للولد النحيل كثيرًا من قصص العشق، كل عشاقها القدامى. وستتوقف كلّ مرة بتفاصيل أدقّ عند حكايتها مع عنتر عبد الهادي. ستبدأ حكاياتها –عادة- هكذا: -مش قلت لك يوم السوق ده يوم الخير.. تعرف زارني مين النهاردة..؟ ثم تحكي.. بالنسبة لولد أمرد بساقين نحيلتين وعروق زرقاء نافرة، فيوم السوق هذا هو يوم شقا ووجع قلب. غير أنّ الفتى المسكين الذي ينهكه اللف في السوق وتؤذي مشاعره رذالة الفلاحين، سيجد ملاذا آخر النهار. فهناك سيدة بجوار ساحة المواشي تجلس، سوف تلقاه حتماً ببشاشة، تبتسم وتكشف أسنانها الذهبية، وسوف تمسح رأسه بكفها الخشن المصبوغ بالحناء، والأظفار الطويلة القذرة، وتلك الأساور البلاستيكية التي اشترتها من السوق –نفسه- تشخلل في يدها، وهي تهشّ الذباب عن عينيها الملتهبتين اللتين بلا رموش، وكحلة داكنة الزرقة حولهما، تطبطب براحتها على الأرض. تعالى يا ضنى أمك.. استريّح يا خويا. يقول: دوخة وحياتك يا سيدة. -يا واد استرجل شويه.. مش كده. يريح سلة السوداني عن ذراعه، يرفع ذيل جلبابه وهو يجلس. وعادة تدس يدها في بقجة بجوارها، وتمنحه شيئاً يأكله، كثيراً يرفض ويقسم أنه غير جائع. في الحقيقة.. هو عادة يكون على لحم بطنه، غير أنه لا يحبّ أن يقول الناس: إن حسونة يستقطع ولية غلبانة ولا أحد لها في الدنيا. ثم إنه لا يستطيع أن يمنحها شيئاً في المقابل، فأسنانها -حتى الذهبية منها- لا تقوى على طحن السوداني، ومع ذلك فقد يمنحها سيجارة أو سيجارتين. هو بالطبع لا يدخن، ولكنه أخذها من هؤلاء الذين اختلوا به في طريق جانبي، في وقت لا يسمح بحدوث شيء، غير أنه كافٍ لإثارتهم، بحيث يمكنهم إذا عادوا لبيوتهم، أن يستعيدوا تلك اللحظة، فيضفون على عاداتهم السرية شيئاً من الإثارة الحية، وهم في مقابل ذلك لا يبخلون بسيجارة، أو يشترون بقرش سوداني، والأهم من ذلك أنهم يغامرون -وهو في الحقيقة ثمن فادح- إذ يعرّضون أنفسهم لفضيحة لو رآهم من يعرفهم، وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة.