ذاكرة للأرشفة (والتحسّر)/ علاء حليحل
عن شريط “خارج الإطار ثورة حتى النصر” لمهند يعقوبي ● نجح يعقوبي في مهمته الأولى وهي استعراض الأرشيف الضائع، لكنّه لم ينجح في تحويل الشريط إلى ذاكرة بديلة لنا، فلسطينيّي 2017 ● شريط صوتيّ ممتاز أضفى بُعدًا معرفيًّا إضافيًّا تمثل في التلوين والتعقيب وإبداء الرأي من دون كلام، وبذكاء
>
|علاء حليحل|
من المعروف للكثيرين أنّ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هو من أسّس للمفهوم النقديّ المعاصر الذي نعرفه اليوم لمصطلح “الأرشيف”. وقد فعل ذلك في كتابه “أركيولوجية المعرفة” حين كتب أنّ الأرشيف هو نظام يسيطر على ظهور الادعاءات كأحداث متميّزة… وهذه الأمور تُجمع سويّة في هيئات وأشكال متمايزة، تُركَّب سوية بما يلائم العلاقات المختلفة، وبما يلائم التصفيات العينيّة. وقال أيضًا إنّ الأرشيف هو النظام الشامل لترسيم وتحويل الادعاءات. وهذا بالضبط ما جرى في فيلم “خارج الإطار ثورة حتى النصر” لمهند يعقوبي (2016)، والذي عُرض في مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، مساء أمس الاثنين.
في هذا الشريط الذي يحوي عناصر تجريبيّة، في التوليف (المونتاج) والشريط الصوتيّ (ساوند تراك) خصوصًا، يحاول يعقوبي “استرداد الصورة والرواية من خلال السينما الثوريّة والعسكريّة” (وفقًا لكُتيّب المهرجان)، بوساطة عرض لمقاطع سينمائيّة كانت مفقودة وأنتجتها وحدة السينما الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة بين 1960-1970. لقد نجح يعقوبي فعلًا في “استرداد الصورة والرواية”، لكنّها صورته وروايته هو فقط. بهذا المعنى، فإنّ الهدف المعلن من الشريط غير قابل للتحقيق بأيّ شكل من الأشكال، وبالتالي فإنّ أيّ مشاهدة له يجب أن تتمّ من خلال عينيّ وذهن وقدرات يعقوبي السينمائيّة، حصرًا.
الذاكرة أمر عصيّ على التملّك والجلاء. إنّها انتقائيّة وتنزع نحو التضخيم والتقزيم لأحداث لا نهائيّة. هذه الأمور تميّز الذاكرة الشخصيّة وهي لصيقة أيضًا بالذاكرة البصريّة الجمعيّة. فأيّ استعراض لأيّ ذاكرة بصريّة يجب أن يجري من خلال الأرشفة (الترتيب والتوضيب والتقسيم إلى فئات ونظام داخليّ)، وهي بحدّ ذاتها كتابة صارمة وإعادة إنتاج للمادة الخام، وكل ذلك قبل حتى الجلوس إلى طاولة المونتاج وبدء العملية السينمائيّة الجماليّة. لا شكّ في أنّ يعقوبي يدرك ذلك، ولهذا ابتدأ الفيلم به، يجلس إلى ماكينة استعراض شرائط أفلام وميكروفيلم قديمة، يُدير عجلات الشريط ووجهه كصانع للفيلم يظهر في البرواز (Frame) كإعلان نوايا.
إذًا فهي رحلة شخصيّة في أرشيف ضائع، لا بدّ أن تخضع للتحرير والتوضيب والانتقائيّة الصارمة. من بين مئات وربما آلاف الدقائق المصوّرة عليك أن تختار 62 دقيقة منها للعرض النهائيّ. هذه كتابة صارمة وخاضعة للتأويل والتفسير الذاتيّ بالمطلق. لذلك، هذا شريط فرديّ يحاول أن يؤسّس لمشاهدة جماعيّة. من هنا قوّته، ومن هنا ضعفه أيضًا. فقوّته تنبع من اللحظات الساحرة، المحزنة والتهكّميّة، التي يراها الرائي وتأسره كما يجدر بالوهم البصريّ-الحسيّ أن يفعل في السينما؛ وضعفه ينبع من اللحظات المقحمة التي حاول فيها المخرج أن يقول شيئًا بالقوّة عمّا نراه، كأنّه يريد فرض سخريته الكَلَبيّة (cynicism) على المشاهد/ة كي يقول شيئًا عن المشهد الأخير في الشريط: رام الله اليوم.
حاولت أن أتخيّل الشريط من دون هذا الأبيلوغ: غرفة صف في مدرسة برام الله بعد “أوسلو”، نرى فيها طلابًا يردّدون جملًا بلهاء وراء المدرّسة عن “حبّ الفلسطينيين للسلام”، وواحد أو اثنان من الطلاب يتثاءبان ليقولا لنا (هما والمخرج): انظروا إلى أين وصلنا بعد كلّ سنوات الكفاح والنضال. الحقيقة أنّ هذا المشهد الاختتاميّ يثير مشاعرَ متضاربة: فهو شكّل لبعض المشاهدين في القاعة إقفالًا (Closure) على مستوى الحبكة والكتارزيس، وشكّل للبعض الآخر ردّ فعل رافضًا لهذه الجرعة الزائدة من المناورة السينمائيّة.
لا شكّ في أنّ الإنجاز السينمائيّ الموجود في الشريط بارز ونادر، بفضل المقاطع السينمائيّة التي “عادت من بين الأموات”. إلّا أنّ أفضل ما يميّز الشريط هو التوليف المتقن والرشيق للمواد الكثيرة الخامّ، والعمل الممتاز الذي أُنجز على الشريط الصوتيّ، الذي أضفى بُعدًا معرفيًّا إضافيًّا تمثل في التلوين والتعقيب وإبداء الرأي من دون كلام، وبذكاء. هذه العناصر السينمائيّة مجتمعة أسّست جيدًا لما قد نسمّيه بحذر “جماليّات الكارثة”، وهي نفسها –هذه العناصر- أدّت في نهاية المشاهدة إلى شعور عميق ومحزن مفاده “موت البراءة”، ودهشتنا نحن –فلسطينيّي 2017- من فلسطينيّي الستينيّات والسبعينيّات وقدرتهم على الحلم، وقول جمل مثل “الحبّ هو محفّزنا” (Love is our motive)، نراها ونسمعها اليوم وكأنّها على حافة الهذيان.
لقد نجح يعقوبي في مهمته الأولى وهي استعراض الأرشيف الضائع، لكنّه لم ينجح في تحويل الشريط إلى ذاكرة بديلة لنا، فلسطينيّي 2017، لأنّ كل المقاطع تبدو مألوفة وتشبه مقاطع أخرى نعرفها. لذلك، فإنّ التصويرات (Images) الواردة في الشريط لا تنافس بقوّة التصويرات التي لدينا، وهي بهذا تفقد كَرْتَها الرّابح في المعركة على الذاكرة الانتقائيّة: أنتَ لست غريبًا واستثنائيًّا بما يكفي كي تحفظك الذاكرة في القرص الصلب. ذلك القرص الذي يحوي عددًا من التصويرات اللازمة لكلّ فلسطينيّ كي يشعر بأنّه يعرف شيئًا عن تاريخه ونفسه.
(الفيلم سيُعرض مرة ثانية يوم الجمعة، 24 الجاري، الساعة 18:30 في مسرح “الميدان”)
_____________
خارج الإطار ثورة حتى النصر، 2016 ● إخراج : مهند يعقوبي ● وثائقي، 62 دقيقة ● فلسطين، فرنسا، قطر، لبنان